​​​​​​​«يوميات قاض24» قصة قصيرة للكاتب المستشار بهاء المري

صورة موضوعية
صورة موضوعية

عُهرٌ وإيثارٌ

         

جمعَنا أنا وزوجتي وباقي إخوَتي وأمي عقار واحد، لم تحب أمي زوجتي واستمرَّتْ تُضايقها على طُول المدَى، لم تتركها يومًا في حالها، أذاقتْها من كل صُنوف الكَيد والنَّكد.

وكانت تعليمات أمي منذ أن تزوجنا أنا وإخوتي بأنْ يَتركَ كل سَاكن مِنَّا مفتاح شقَّته في بابها من الخارج؛ فتدخُل وتخرج علينا كما يحلو لها، حتى الخُصوصية لم تنعم بها زوجتي.

انعكسَتْ تلك المُضايقات على علاقتنا أنا وزوجتي، ولكنِّى كُنتُ أُرَوِّحُ عنها ما استطعتُ وأعتذرُ لها وأُرضيها.

في الآونة الأخيرة خَيَّمَ عليها الحزنُ والأسَى بدرجةٍ عالية، اختفَت ضحكتها، تلاشَت ابتسامتها، لا أجدها إلا مَهمومة مَكدودة حزينة طَوالَ أوقاتها، انطفأ بريقُ عينيها، تَغيَّر لون وجهها، صار خدَّاها وكفَّاها يَتلازمان كلما خَلَتْ إلى نفسها، وكذلك في أحيانٍ كثيرة وهي تجلس معي.

في ذلك اليوم عادَ من عمله وراح يُحدثها فلم تَنطِق، اقتربَ منها ليَربُتَ على كتفها دَفعَتْ يده، مَدَّها ليَرفعَ وجهها ناحيته ليُضاحِكها دفعَتْهُ مرَّة أخرى، ولكن في هذه المرة بقوة، صفَعَتْهُ؛ صفَعَها. دفَعته؛ُ دفَعَها، أخلَّت الدَّفعة باتزانه فسَقطَ أرضًا بطريقة مُهينة.

استشاطَ غَضبًا، غابَ عنهُ وعيهُ، لم يُميِّز مَن تلك التي تُواجههُ، جذبَها من غِطاء رأسها - الملفوف حول عُنِقها - كانت يداه وهي تجذبُ تَضْغط في ذات الوقت على رقبتها دون أن يدري، لم يستطع تحديد كم من الوقت مرَّ وهو على هذه الحالة، تَهاوَت من بين يدَيه أرضًا بلا حِراكٍ؛ صرَخَ: "لا تموتي.. لا تتركيني.. أغيثوني".

هرعَت إليه أُمّه من الطابق الأرضي، أمسكَتْ بيدها نظرَت في عينيه، قالت وهي ترتعد:ماتَت.

هكذا استكملَ المتهم اعترافه في أثناء جلسة المحاكمة، ولَدَى سماع أقوالها، رَوَت أم القتيلة ما هو أشَد وأفظع مما كانت تُلاقيه ابنتها من عذاب حماتها؛ روايات لا يُصدِّقها عقل، تُجسد عودة أزمنةَ الجهل والفقر، كل أقصوصة تقصُّها تحمل فظاعةً أبشَع من سابقتها، حتى يُخيَّلُ لمن يستمع، أنها قِمَّة التَّجنِّي، يستوقفها القاضي بإشارة من يده؛ ويُوجِّه حديثهُ للزَّوج:

-هل حدثَ ما سمعتهُ؟

يُجيب بصوتٍ جريح وعيناه تذرفان دمعًا حارًا:

- وأفظَعْ من هذا قد حدَثْ.

كان الضابط الذي أجرى التحريات حاضرًا، بادَر قبلَ مناقشتهِ إلى تقديم اسطوانة مُدْمَجة، قال إنَّ فيها معلومات جديدة؛ ولديه تحريات أخرى تؤكدها.

          لمحَ الشاب ما حدَثَ وهو في القَفص؛ وانتهي إلى سَمعِه ما قاله الضابط، جحَظتْ عيناه، انتفضَ في موقعه، صاح بصوتٍ صار من هَوْل المفاجأة مُرعبًا، خاطبَ الضابط وهو يهُزُّ في حديد القفص وكأنه يودُّ اقتلاعه من مكانه:

- حرام عليك، حرام عليك، ثم راح في نوبة بكاء.

ألقَى القاضي نظرة على التحريات، رَفَع الجلسة مُقرِّرًا استكمالها بغرفة المداولة.

مَقْطَع فيديو واضَح الصَوت جيد التصوير، مشادة كلامية وعبارات حادة من قَذفٍ وسَب، ثم مُشاجرة وتشابُكٌ بالأيدي.

امرأة خمسينية ورجل في عُمْرٍ يُناهز عُمْرها كطرَف، والقتيلة كطرَف آخر، ضرباتٌ بالأيدي تُكال لها، يتقاذفها الرَّجل والمرأة دفعًا وصفعًا فيما بينهما، يُسمَع صوتُها وهي تَقُول:

- اتركاني ولن أتكلم.

تجذبُها المرأة من غِطاء رأسها الملفوف جزء منه حول رقَبتها؛ ويَتدلَّى طرفاه على صدرها، ذات الصوتُ يقول:

- لا تقتلاني، لا تقتلاني.

          تستمر المرأة في شَدِّ طرَفَيّ الغِطاء في عكس اتجاه بعضهما، تُحاول القتيلة المُقاومة، يُمسِك الرجل بيديها ويُغلُّهما خلفَ ظهرها، تُوالي المرأة الشَّد، تتهاوَى القتيلة أرضًا، ينتهي المقطع، ثم يُسمَع صوتُ إغلاق باب.

          يُكمِل الضابط رسم باقي أبعاد الصورة، جارة القتيلة في العَقار المُواجه سمِعَتْ المشاجرة، كان باب البلكونة مفتوحًا، صوَّرَتْ من خلاله مقطع الفيديو بهاتفها النقَّال، لم تستطع مقاومة كِتمان شهادتها، هُرِعَت به أخيرًا إلى الشرطة.

كان الشاب واقفًا مُطأطِئ الرأس دُموعه تَنهمِر، لم ينبس بحَرف طوال استماعه إلى شهادة الضابط بالمعلومات اللاحقة.

يسأله القاضي:

- هل هذا صحيح؟

- نعم.

- أتحملُ وِزرها وهذا سُلوكها؟

اجتهدَ في رَفْع وجهه الذي كان قد تَدَلَّى على صدره ليُجيبَ بصوتٍ كسيرٍ مَحزون: لكنها أمي!!