يوسف القعيد يكتب عن توأم الروح: جمال الغيطاني .. الغياب المستحيل

جمال الغيطاني
جمال الغيطاني

جمعت بينهما مسيرة الحياة، فصارا صديقين حميمين، بل قل توأمان متلازمان، وحين مضى أحدهما إلى جوار ربه وبارئه، لم يفرق الموت بينهما، حيث ظل الأديب الكبير يوسف القعيد يتذكر دوماً رفيق دربه وصديق عمره الروائى الشهير صاحب المشروع الإبداعى الرائع الراحل جمال الغيطاني فى شتى المواقف، ومختلف المناسبات، وكأنه يسير إلى جواره، يتحدثان.. ويتبادلان الآراء كما اعتادا معاً على مدى عمر مديد، وعبر السطور التالية يحدثنا «القعيد» عن «الغيطانى» على مشارف ذكرى رحيله عن دنيانا التى تحل بعد غدٍ، عبر مقال بقلمه الأخاذ.

عرفت صديق العُمر وتوأم الروح جمال الغيطانى «9 مايو 1945 - 18 أكتوبر 2015» فى جلسات نجيب محفوظ التى كانت تُقام فى مقهى «ريش» بوسط القاهرة يوم الجمعة من كل أسبوع. كُنَّا نتحلق حوله مجموعة كبيرة من الأدباء والكُتَّاب والفنانين وأهل الرأى. نجوم ذلك الزمان الذين مازالوا يُضيئون حياتى حتى هذه اللحظة.

جذبنى إلى جمال الغيطانى تقارُب العُمر. فهو يصغُرنى بسنة واحدة. والرغبة فى الكتابة. كان وقتها يكتب قصص مجموعته الأولى: «أوراق شاب عاش منذ ألف عام». التى عند نشرها تحوَّلت لزلزالٍ هز أركان كتابة القصة القصيرة مصرياً وعربياً. وكانت المحاولة الكُبرى لتجديد هذا الفن الجميل بعد ما قام به يوسف إدريس فى خمسينيات القرن الماضى عندما نشر مجموعته القصصية: «أرخص ليالٍ».

ما رأيتُ «جمال» إلا وكان مُحمَّلاً بالكُتب، وكان باعة الكُتُب فى ذلك الزمان الجميل الذى ولَّى وانقضى يفترشون مُلتقيات الشوارع والميادين الصغيرة والأرصفة الجانبية يبيعون الكُتُب القديمة أو الجديدة حسب التساهيل. وكان «جمال» مشغولاً بتاريخ مصر، بالتحديد مصر المملوكية. ومن مؤرخى الزمان البعيد كان مبهوراً بإبن إياس. فى حين أننى كنتُ شديد الإعجاب بالجبرتى. وفى مناقشات مطوَّلة كان ينتصر «جمال» فى نهاياتها دائماً وأبداً، أدركت لاحقاً أن فنيَّة «إبن إياس» ولغته واقترابه من الشارع المصرى تجعله أقرب للروح من الجبرتى الذى يُمكن أن يسكُن العقل.

تطوَّرت علاقتى بجمال. كان يسكُن فى سيدنا الحسين. ذهبت معه إلى بيته فى درب الطبلاوى القريب جداً من المنطقة التى خلَّدها نجيب محفوظ بثلاثيته الفريدة: بين القصرين، قصر الشوق، السكرية. كُنَّا نمشى معاً فى شارع المعز لدين الله الفاطمى من أوله إلى آخره. نتكلم ونتدارس ونُناقش ما قرأناه من أعمالٍ أدبية وما ترددنا عليه من معارض الفن التشكيلى، وما شاهدناه من عروضٍ سينمائية أو مسرحية.

وقبل كل هذا وبعده ما قرأناه من الإبداع الأدبى المصرى أو العربى أو العالمى المُترجم إلى لغتنا العربية. ما من خُطوة خطاها فى تجليَّات القراءة والإبداع إلا وكُنَّا معاً. وبمرور الوقت صار أهله أهلى. والده عم أحمد الغيطانى الذى كان يعمل فى وزارة الزراعة. ووالدته كانا يُمثلان لى الحضور الدائم لأبى وأُمى الغائبين عنى فى قريتى التى هجرتها مُبكراً جداً. فى البداية للتعليم، ثم العمل، ثم أداء الخدمة العسكرية التى من خلالها تنفست هواء الإسكندرية البديع. ورأيت القاهرة التى لا حد لجمالها.

كانت أسرة جمال الغيطانى مصرية بامتياز. أشقاؤه كانوا: «إسماعيل» وهو الآن لواء مهندس بعد أن قضى خدمته كاملة. ويحتفظ فى بيته بمدينة نصر بمكتبة نادرة لكل ما كتبه «جمال»، أو ما دُوِّنَ عنه. وشقيقه «على» الذى رحل فى حياته. وشقيقته «نوال»، وزوجته ماجدة الجندى. وابنه الدبلوماسى الفريد محمد جمال الغيطانى. وابنته ماجدة. وكنا نقول عنها زمان «ماجدة» الصُغَيَّرة لكى نُميِّزها عن والدتها «ماجدة» الكبيرة. ولعله أول من كانت لديه الشجاعة أن يُطلق اسم زوجته على ابنته من شدة حبه لها وارتباطه بها.

أعودُ من هذه الرحلة الإنسانية إلى إبداع جمال الغيطانى الأدبى الذى بقى ويبقى وسيظل علامة أساسية فى تطور الكتابة الأدبية سواء فى الرواية أو القصة أو التحقيقات الصحفية.

فبعد جولته التاريخية فى الزمان والمكان وارتباطه الشديد بإبن إياس، وقراءاته المُتعددة والمتنوعة والتى لا حد لها فى تاريخ مصر. فاجأنا ذات مساء فى بيت إسماعيل العادلى بمصر الجديدة يقرأ لنا الفصل الأول من رائعة عُمره: «الزينى بركات». وكنا نستمع إليه ونُناقشه مُناقشاتٍ طويلة مستفيضة. وكان يتقبل كل ما يُقال برحابة صدر غير عادية.
لعل تجربة المُراسل الحربى شديدة الأهمية فى رحلة جمال الغيطانى. فعندما التحق بمؤسسة أخبار اليوم الصحفية.

وأصبح مُراسلاً حربياً، وكتب العديد من التحقيقات الصحفية النادرة والجميلة فى السنوات الواقعة بين 1967 و1973 وما بعدهما. وكان يكتُب التحقيق الصحفى بروح أدبية.

ويستحضر من تاريخنا المعارك التى خُضناها وانتصرنا فيها وحققنا من خلالها أمجادنا الكثيرة والمتنوعة.

عرفنا معاً من أهل السينما وكانت فى حالة ازدهار نادر أتمنى أن تعود مرة أخرى. فمصر جديرة بذلك. عرفنا مصطفى درويش، وسمير فريد، وعلى أبو شادى، وكمال رمزى. واشتركنا فى نادى السينما الذى كان يٌقدم عروضه فى شارع متفرع من عماد الدين.

لا أنسى يوم أن سافر معى إلى قريتى «الضهرية» مركز «إيتاى البارود» محافظة البحيرة. وقضينا هناك أياماً لا تُحسب من العمر. كان والدى يوسف القعيد ووالدتى مبروكة إسماعيل حسنين حمادة، يُضيئان العُمر بوجودهما. ورغم أن «جمال» ينتمى والده لقرية فى صعيد مصر الجوَّانى. إلا أنها كانت المرة الأولى التى يرى فيها ريف الوجه البحرى وجهاً لوجه. ويقضى أياماً وليالى فيه.

زُرنا معاً الحاج عبد القوى سمك فى عزبته القريبة من قريتنا، والتى كان والدى يستأجر أرضاً فيها لزراعتها بالفاكهة التى يُسافر بها إلى الإسكندرية. وأُعجِب الحاج عبد القوى بروح جمال وثقافته وجرأته ومغامرته الفنيَّة التى أصبحت علامة من علامات التاريخ الأدبى المعاصر. وتعامل «جمال» القاهرى ابن الصعيد الجوَّانى مع ريف الوجه البحرى بألفة ومودّة. وكان ينادى أمى كما لو كانت أمه. وبعد عودتنا للقاهرة شعرتُ أن هذه الرحلة قد وثَّقت ما بيننا كثيراً جداً.

وإن كُنَّا قد تقابلنا فى رحاب نجيب محفوظ. فقد ذهبنا معاً إلى منزل محمود أمين العالِم، وسميرة الكيلانى فى جاردن سيتى، وأمين عز الدين فى أول المهندسين، والأستاذ محمد حسنين هيكل فى مكتبه الذى يُطل على نيل الجيزة. وقد أُعجِب به الأستاذ «هيكل» كثيراً. وتحدث عنه مراراً وتكراراً فى أحاديثه التى كان يُجريها مع الصحافة المصرية والعربية والعالمية.

تجربتان مُهمتان شكلتا وعى وإدراك جمال الغيطانى مُبكراً. الأولى: كتابة القصة القصيرة المُركَّزة والجميلة، والتى تُوصِّل كل ما يريد الكاتب أن يوصله من رسائل إلى القارئ. ثم كتابة الرواية التاريخية بعناصرها المُهمة. والتى تعتبر «الزينى بركات» علامة مميزة بعد محاولة جورجى زيدان كتابة الرواية التاريخية. وإن كان «زيدان» قد كتبها بروحٍ تقليدية. فإن جمال حمل معه ثورة منتصف القرن العشرين، وسافر إلى زمن المماليك ليُقدم تجربته الفريدة.

لا أستطيع أن أنسى تجربته المُميزة ودوره فى تأسيس وإصدار جريدة أخبار الأدب التى تُعد الآن أهم صحيفة أدبية ثقافية أسبوعية فى الوطن العربى وربما العالم الثالث. ويرأس تحريرها علاء عبد الهادى.

رحم الله جمال الغيطانى رحمة واسعة، وألهمنا القُدرة على تمثُل تجربته الفريدة والمهمة بدءاً من العلاقات الإنسانية حتى الخلق والإبداع الأدبى.