حديث الأسبوع

المناخ يُهدِّد وحدة الاتحاد الأوروبى

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

عبدالله البقالى

ما يجرى داخل دواليب الاتحاد الأوروبي، فيما يتعلق بالتصدى للتغير المناخى والارتفاع المتواصل لدرجات الحرارة فى الكون، هو غير ما يبدو على السطح. فمن حيث الشكل تبدو 27 دولة، أعضاء الاتحاد الأوروبي، متفقة ومتحدة فى سبيل بذل ما يكفى من الجهود وتسخير ما يجب من الإمكانيات للحد من الأخطار المترتبة على التغير المناخي، وخصوصا ما يتعلق بانبعاثات الغازات.

إذ فى حيز زمنى قصير لم يتجاوز سنتين فقط بدا أن الاتحاد الأوروبى يخوض سباقا حقيقيا ضد الساعة، لتحقيق غايات محددة فى هذا الصدد ضمنها فيما سماه بـ (العقد الأخضر)، وليعطى النموذج والمثال فى احترام اتفاق باريس الخاص بالمناخ. وهكذا وفى هذا الحيز الزمنى الضيق صادقت أجهزة الاتحاد الأوروبي، خصوصا البرلمان الأوروبي، على 32 قانونا، لتعزيز الترسانة القانونية التى تتيح الحد من العديد من الأخطار المحدقة بالمناخ، ومن خلاله بالحياة فوق كوكب الأرض. وتكفى الإشارة فى هذا الصدد إلى قوانين جديدة تفرض ضريبة (الكربون) على الحدود بما يمكن من خفض انبعاثات ثانى أوكسيد الكاربون بنسبة 55 بالمائة فى أفق 2030، مقارنة بما كان عليه الوضع فى سنة 1990. ويرى خبراء فى مجال المناخ أن كل هذه الترسانة القانونية لن تكون قادرة على تحقيق الأهداف المرجوة، وأن الحاجة لا تزال ملحة إلى تشريع أربعين قانونا جديدا لتغطية جميع الجوانب والقطاعات.
وطبعا لا يقتصر الحماس الذى يبدو على سطح اهتمامات الدول الأوروبية على مجال التشريع فقط، بل يتمثل أيضا فى العديد من الاجتماعات وفى رزمة البيانات والنداءات والملتمسات والمذكرات، وأيضا فى العدد الهائل من المؤتمرات والندوات وفى غيرها من أشكال الاهتمام. لكن ما يجرى فى دهاليز الاتحاد الأوروبى لا يبدو منسجما ولا ملائما ولا متجاوبا مع ما يجرى على سطح مياه اشتغال الاتحاد الأوروبى بهذه القضية البالغة الأهمية، حيث تؤكد الحقائق والمعطيات وجود تباينات وخلافات كبيرة وعميقة جدا بين العديد من دول الاتحاد الأوروبي، والأهم فى هذا الجانب أن الخلافات بين هذه الدول مردها المرجعية السياسية لكثير من حكومات الدول الأوروبية، بين حكومات يمينية محافظة وأخرى يمينية متطرفة وثالثة اشتراكية معتدلة ورابعة يسارية متطرفة فيما يتعلق بقضايا البيئة، والأكثر صعوبة فى هذه الخلافات، أنها ليست قارة ولا ثابتة، بل مرتبطة بما تفرزه صناديق الاقتراع فى هذه الدول، حيث تقود نتائج الانتخابات إلى تغييرات سياسية فى الحكومات التى تتراجع عن مواقف سابقاتها.


فى هذا السياق نسوق الموقف الذى عبرت عنه مجموعة من الدول الأوروبية، التى تقودها حكومات يمينية من قبيل قبرص وليتوانيا والسويد واليونان والنمسا وفنلندا وكرواتيا وإيرلندا، خلال اجتماعها فى إطار أممية أحزاب اليمين الأوروبية فى نهاية شهر يونيو الماضي، حيث طالبت هذه الحكومات بما سمته بـ»استراحة تنظيمية» فيما يتعلق بتنفيذ العقد الأخضر. وطالبت صراحة بأخذ الحقائق الاقتصادية والاجتماعية الجديدة والمستجدة، خصوصا بعد «الهجوم الروسى على أوكرانيا» فى الحسبان وتحدثت فى هذا السياق عن ارتفاع معدلات التضخم التى «قلصت بشكل كبير جدا من الأنشطة الاقتصادية والبيئية».
من جهة أخرى لا تخفى حكومات دول أوروبية أخرى قلقها من تأثير السياسة الأوروبية المتعلقة بالتصدى للتغير المناخى على القدرة التنافسية للاقتصاد الأوروبى فى مواجهة الاقتصادين الصينى والأمريكي، وتستدل هذه الدول بالقول إن حكومة الصين وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية لا تقتصران على التشريع، بل إنهما تخصصان دعما ماليا كبيرا جدا للصناعات الخضراء مما يمثل تحفيزا للشركات ومساعدتها على تغيير نمط الإنتاج بما يحفظ مصالحها وأرباحها.
بينما تعيب أوساط أوروبية أخرى على الاتحاد الأوروبي، وخصوصا على البرلمان الأوروبى الذى أصيب بإسهال كبير فيما يتعلق بتشريع رزمة كبيرة من القوانين دون أن يجرى دراسات مسبقة عن مدى تأثير هذه القوانين على الاقتصاد الأوروبي.
 وتزداد الوضعية تعقيدا حينما نذكر بأن بعض الدول الأوروبية بدأت فعلا بالتمرد على سياسة الاتحاد الأوروبى المتعلقة بالمناخ، وهذا ما أشارت إليه الحكومة الألمانية ضمنيا غير ما مرة، لكن حكومة بولونيا كانت أكثر حدة فى إعلان تمردها بأن رفعت شكوى أمام محكمة العدل الأوروبية للمطالبة بإلغاء ستة قوانين من رزمة القوانين التى صادق عليها البرلمان الأوروبي. كما أنه لم يعد خافيا التحالف القوى الذى جمع أحزاب اليمين المعتدل فى البرلمان الأوروبى (ويتعلق الأمر بالكتلة النيابية الأولى فى هذا البرلمان) مع أحزاب اليمين المتطرف لبذل ما يكفى من الجهد لعرقلة الانتقال الأخضر وإبطال تنفيذ العقد الأوروبى الأخضر.


هكذا إذن، لا يبدو الاتحاد الأوروبى صادقا فيما يعلنه من قرارات ويشرعه من قوانين بهدف محاربة جميع الممارسات والأنشطة المضرة بالمناخ، والمتسببة فى تغيرات تهدد مصير الكون برمته، ولا يبدو صادقا فى إبراز الحقائق كما هى فى هذا الصدد. ذلك أن الخلافات داخل هذه المنظومة الأوروبية المتهالكة تدريجيا، لم تعد مقتصرة على ما يتعلق بالتمويل فقط، من خلال توفير المبالغ المالية الضرورية لتنفيذ السياسات الأوروبية فى مجال المناخ ومحاربة التصحر وتراجع منسوب المياه وارتفاع درجات حرارة الأرض، بل تمددت هذه الخلافات ووصلت إلى الجوهر، أى إلى الجدوى من ذلك وتداعياته السلبية الكبيرة على الاقتصاد وعلى الإنسان نفسه. ولعل هذه الخلافات هى التى تفسر وضعية التردد والغموض التى يوجد عليها الاتحاد الأوروبى فيما يتعلق بقضايا البيئة والمناخ.