قطط تعوى وكلاب تموء.. أحمد عبد المنعم رمضان يكتب في مديح الحيوانات

قطط تعوى وكلاب تموء فى مديح الحيوانات
قطط تعوى وكلاب تموء فى مديح الحيوانات

أصبحت القصة المصرية المعاصرة ممزقة بين سؤالين إجابتهما صعبة إن لم تكن مستحيلة: سؤال الماضى وسؤال المستقبل.. فمن ناحية الماضى أصبح «فن الكتابة بالقلم الرصاص» مثقلا بإرث ضخم على مدى القرن الماضى توغل أثره فى انتاج كتاب القصة المعاصرين.. فتبدو العديد من نصوصهم أقرب لإعادة انتاج نمط كتابة يوسف إدريس.. وبشكل أقل يحيى حقى والطاهر عبد الله وغيرهم من أساتذة القصة العربية.

أما سؤال المستقبل فهو الأهم والأكثر صعوبة.. فإجابته هى الفرصة الوحيدة للحفاظ على مستقبل للقصة القصيرة فى «زمن الرواية».. القصة القصيرة فى الأساس هو فن يعتمد على التجريب سواء على مستوى الشكل أو المضمون.. القصة فن طموح يسعى دوما لتطوير نفسه عبر استكشاف أراض جديدة.. سواء على مستوى اللغة واستخداماتها أو على مستوى الأفكار والحبكة وصياغتها بشكل ملائم للنوع.

اقرأ ايضاً| محمود خيرالله :نخّال الخُطى سخرية النص فى خدمة شعرية الهزيمة

وفى مجموعته القصصية الثالثة «قطط تعوى وكلاب تموء» الصادرة عن دار الشروق.. اهتم «أحمد عبد المنعم رمضان» بسؤال المستقبل.. يظهر طموح الكاتب فى إنتاج مجموعة ذات صوت مختلف.. فاستخدم التجريب بشكل منهجى لينتج لنا مجموعة ذات قسمين يجميع بين نصوصها التجريب والرؤية السريالية...

رغم إخلاص المجموعة لقيم التجريب إلا أن القسم الأول «حيوانات المدينة» مرتبط بواحد من أقدم تقاليد القصة القصيرة: الكتابة عن الحيوانات.. يكفى أن ننظر لأعمال فرانز كافكا: تحريات كلب، الدودة الهائلة، التحول وغيرها.. لنعرف أصالة الكتابة عن الحيوانات فى القصة القصيرة.. وفى قصتنا نجد هذا الأثر عند يوسف إدريس «العتب على النظر» ويحيى الطاهر عبد الله «حكاية على لسان كلب» وبالطبع فى حيوانات محمد المخزنجي.

لكن حيوانات رمضان تجربة مختلفة عن السابق.. فالحيوانات المختلفة ( قطط، كلاب، قرود خنازير، ببغاء...) هى الأبطال الحقيقيين لنصوص القسم.. تقريبا لم يخل أى نص فى القسم الأول من وجود الحيوانات ودورهم الأساسى فى بناء النصوص.. ربما باستثناء «عقل متخم بالأفكار الذى كان ظهور «النمس» فيه هامشيا.

تعمد الكاتب عمل مفارقات بين طبيعة الحيوانات وصورتها فى نصوصه: فالخنازير تصغر أنوفها وتنبعث منها روائح حلوة (أنوف الخنازير ص25).. الببغاوات تصمت (لماذا صمت الببغاء ص63).. القرود تتكلم (حريق القاهرة ص11).. ويلمح الكاتب فى نهاية القسم إلى الحيوان الأهم فى العالم: الإنسان.. الذى يفقد إنسانيته ليتحول إلى خنزير (النهاية الداروينية ص73).

والمفارقة تمتد على استقامة خطها ليصنع الكاتب تناقض واضح بين الإنسان والحيوان.. يقدم لنا الكاتب عبر نصوصه السريالية مقارنة بين بنى آدم وغيرهم من بنى الحيوان الذين يعمرون هذا الكوكب.. والمقارنة لا تصب فى صالحنا للاسف.. فالبشر هنا هم الأكثر «حيوانية».. غارقين فى الطمع والكراهية والضعف.. استمرأوا القبح حتى صار طبيعيا فاستنكروا الجمال.. فرائحة القمامة بالنسبة لهم أحسن من روائح العطور.. حتى العقل والتفكير الذى يبقى الميزة الأكبر للبشر تحول لنقمة وجريمة.. فتضخمت أدمغة المفكرين.. وصاروا عرضة للقبض عليهم من قبل ممثلى السلطة «ذوى الرؤوس الصغيرة» (عقل متخم بالأفكار ص45).

القسم الثانى للمجموعة «تائه فى الغابة» يؤكد على نفس المفارقة.. لا يحتوى أى من نصوص هذا القسم على «غابة» بمفهومها الأصلي.. ربما تكون الغابة المقصودة هنا هى الغابة الأخطر.. الغابة الحضرية: المدينة التى يعيش فيها أخطر الحيوانات المفترسة على الإطلاق: الإنسان.

غابة البشر الأسمنتية بأشجارها المعدنية المكهربة وأرضها الأسفلتية.. حيث يقع الملائكة فريسة الغواية.. وينزع البشر قلوبهم ليعيشوا حياة أفضل بدونها.. الغابة حيث الموت عبثى ومجانى والحياة رخيصة.. الحب علاقة مصطنعة ومملة.. والعبث بحيوات البشر ليس أكثر من لعبة مسلية.

نلاحظ هنا الغياب شبه التام للحيوانات.. فى مديح ضمنى لها لأن عوالم قصص هذا القسم أكثر رعبا وقتامة و(حيوانية) من القسم الأول.. اكتفى هذا القسم بنصوص عن البشر الذين فقدوا إنسانيتهم وكأنهم يحققون نبوءة داروين التى اُختتم بها القسم الأول.

هنا تعامل الكاتب مع أدواته بحكمه تناسب طبيعة المحتوى.. رغم التزامه بالتجريب إلا أن نصوص هذا القسم تبدو أقرب لواقع مظلم منها لفانتازية ملونة.. والأحلام الآن اصبحت كوابيس غارقة فى الدم والضجيج والموت...

لكن من التسرع الحكم بأن الرؤية الأساسية للمجموعة هى إدانة بنى البشر ككل.. فالنصوص تحفل بشخوص لهم نظرة إنسانية تدين «لاإنسانية» البشر فى عالمهم المعاصر..  لكن هؤلاء البشر الإنسانيين يقومون بدور «الراوي» فى معظم نصوص المجموعة.. الرواة هنا يبدون كانعكاس لشخص الكاتب.. ويشتركون معه فى رؤيته التى تدين تدنى البشر عبر مدح الحيوانات.

والنص الختامى للمجموعة «البحث عن ثمرة مانجو» يؤكد على هذا التماهى بين الكاتب ورواته.. فيبدو النص أقرب إلى مرثية لجيل الكاتب.. الذى سُرقت سنوات عمره بين الجلوس على كراسى بلا موسيقى.. والبحث عن ثمار بعيدة – أو مستحيلة – المنال.