د.عمرو عبد العزيز منير: البساط السحرى وسبل الاستفادة من الذاكرة الشفاهية فى حفظ التاريخ

رسم تخيلي لـ على بابا  والأربعين حرامى
رسم تخيلي لـ على بابا والأربعين حرامى

بدعوة كريمة من الأرشيف والمكتبة الوطنية التابع لوزارة شؤون الرئاسة بدولة الإمارات العربية المتحدة فى إطار إسهامه الرائد فى دعم منظومة الاقتصاد المعرفى والمحافظة على التراث والهوية الثقافية للدول والحضارات، وتوثيقه لأجيال المستقبل، ساهمت فيها عبر «البساط السحرى الافتراضى «ال» ZOOM» فى الندوة الثقافية التى تحمل عنوان «سبل الاستفادة من الذاكرة الشفاهية فى حفظ التاريخ"، لاستعراض الدور الذى يلعبه التاريخ الشفاهى فى حفظ الذاكرة؛ وهو موضوع شائك وشائق.. شائك لإننا أحيانًا نجد أنفسنا أمام لغتين، اللغة الشفاهية و اللغة الكتابية، أو بعبارة أدق أمام مستويين من اللغة، لكل منهما خصائصه الأسلوبية، وأخطر من ذلك لكل منهما دينامياته النفسية.. والتى معها قد تتولد عواقب وخيمة حين تصبح اللغة الشفاهية هى وسيلة نقل الحقائق والمعتقدات؛ لأنها تضيف إلى هذه المحمولات من طبيعتها الخاص، وهى بطبيعتها لغة تجنح للمبالغة والإطناب، على حساب الدقة والموضوعية، والمشكلة تتضح بعمق حين نكتسب مسلماتنا الدينية والثقافية، والمعرفية، من أفواه الوعاظ والمفوهين المتشدقين. ولغة العديد من هؤلاء هى فى العادة لغة شفاهية، هنا ندرك حجم الكارثة التى قد يقع فيها العقل الجمعى لمجتمعاتنا. أما كيف يحدث ذلك؟ ولماذا؟ فهذا ما سنعرفه فى لقاء لاحق للأرشيف.

أما أن موضوع الرواية الشفاهية للتاريخ كموضوع شائق.. وليس شائكا، فهذا لأن الرواية الشفاهية بطبيعتها أيضًا هى جزء من حقيقة الوجود فى العالم، أعنى رواية القصص والحكايات والسير الشعبية والأساطير وحكايات الأمهات للأبناء،هو سلوك موجود ومترسخ منذ القدم، ومرادف للمجتمعات كافة، وكانت المرويات الشفاهية للماضى فى الماضى - التى تتحدث عن البطولات والمآثر، وتؤرخ للحروب والمجاعات والأمراض - هي قوت وغذاء الأذهان للشعوب، ووسائل ترفيه جيدة، خاصة حين نجد راويا موهوبا يعمل على تفعيل خياله ويهب الإنسانية والجماعة الشعبية نصا شفاهيا جذابًا وماتعًا.

اقرأ ايضاً| منى عبد الكريم: في محبة عز الدين نجيب

وبالتأكيد تطور أمر هذه الروايات الشعبية بمرور الزمن لتخرج من أغراضها المألوفة، أو لنقل : لتستخدم الأغراض القديمة وتطورها وتزيد عليها من خيال مؤلفين متمرسين، لتصبح هى الأكثر خلودا وتأثيرًا، مع ابتكار وظائف أضيفت للرواية والحكاية الشعبية تمثلت فى قدرة الراوى على رصد حدث ما والتنبؤ  بنتائج ذلك الحدث مستقبليا.

وبين ثنايا الحكايات توجد أطنان من الاختراعات الخيالية الرائعة فى موروثاتنا الشعبية مثل السفر بسرعة تفوق سرعة الضوء، ورحلات سرت بخيالنا وألهبته، أو عرجت إلى السموات العلا تحدثت عن الفضاء وما فيه من عجائب، لتأتى رحلات الفضاء اللاحقة، لتؤكد ما قالته الروايات الشعبية التى كٌتبت بجزء من الحقيقة وأجزاء متعددة من الخيال، بجزء من الوعى وآخر من اللاوعى... وعلى هذا النسق توجد أعمال تحدثت عن فيضانات وزلازل، وحروب ومجاعات، وتشرد، وأشياء أخرى مريعة، ويتحقق بعضها بعد ذلك. فالحديث عن طاعون الزومبى يمر بسهولة أكبر لدى الجمهور من الحديث عن إجراءات الحجر الطبى المرتبطة بفيروس «ايبولا» الحقيقى ثم فيروس كورونا المستجد «الأمر أصبح هو نفسه فى الواقع».

والكثير من حكايات تراثنا الشفاهى أو المدون تتصل أساسًا بالخيال، أى بأمر بعيد المنال بل يكاد يستحيل أن يتحقق نجدها بعد ذلك قد تحققت إذا ما عدلنا طريقة الحكى الشفاهى الأصل والبحث التاريخى ومنهجه استطعنا وصل ما انقطع. والعديد من الأمثلة مثل «طاقية الإخفاء» وحلم القدرة على التخفى الذى ظل دوماً عنصراً أساسياً فى كتابات الخيال العلمى إلى أن بينت الأبحاث أخيراً أن جمع ابتكارين فى مجال التكنولوجيا النانوية قد يمهد الطريق بالفعل لأول «طاقية أو عباءة تخفٍّ» فى العالم، ذلك أنه من خلال ثنى الضوء فى جميع أطواله الموجية حول كائن بغض النظر عن شكله، يمكن أن توفر مادة «الميتالنس» المكتشفة حديثاً و«مواد الميتا» الاصطناعية، القدرة على «إخفاء» أى كائن، وحلم «البساط السحرى» فى حكايات السندباد هى الصورة الأسطع لذلك الحلم الذى راود البشرية للطيران والتحليق فوق السحاب، الآن تخيل أن بإمكانك أن تضغط على زر، وفجأة تبدأ سيارتك فى  العروج والارتفاع فى الهواء، وتبدأ فى معراجك والطيران فوق جميع السيارات العالقة فى ازدحام المرور، السيارات الطائرة أمكنها بلا شك أن تجعل الواقع يولد من رحم من الخيال، ومع هولوديكس «the holodeck»، يمكنك الذهاب مع «المعرى» و«دانتى» إلى أى مكان وأن تصل إلى المريخ أو تزور جنتك التى تحلم بها، وترى الجحيم الذى تخشاه أو تعيشه فى واقعك اليومى،  ويمكنك أن تكون أى شخص، أو القيام بأى شىء. بطريقة ألعاب الفيديو، هولوديكس فهى ليست مختلفة كثيرًا عنها، ولحكايات تأويل «ما كذب الفؤاد ما رأى» تتمة ليس هنا مكانها.

وفكرة الأوامر الصوتية (افتح يا سمسم) فى حكايات على بابا والأربعين حرامى انتقلت عبر البرامج الصوتية من عالم الخيال إلى الواقع فالأبواب الموصدة تفتح بمجرد الاقتراب منها أو بكلمة سر لأبواب الخزائن البنكية أو توجيه الأوامر الصوتية للهاتف والكمبيوتر وبرامج الفاير فوكس وثاندربيرد وأوتلوك التى تستمع بالفعل إلى أوامرك وتسارع إلى تنفيذها، وكذلك فكرة المرآة أو البلورة الزجاجية السحرية التى تنقل لنا مكان وجود الأبطال فى بث مباشر، وتخيَّلنا مع حكايات ألف ليلة وليلة أننا نمتلك قدرة لاختراق الحواجز ونستطيع أن نرى ما خلف جدار قصر الأميرة الفاتنة أو ما بداخل جسم البطل أو جعبة الساحرة الشريرة الذى كنا نعتقد أنه من المستحيلات، إلاَّ أن التطور المذهل فى الإلكترونيات والقدرة على معالجة الإشارات بشكل سريع، جعل النظر من خلال الجدران أمراً واقعاً، فهو يستخدم اليوم فى المجالات العسكرية والمدنية والطبية. وأفكار الاستمطار حول العالم ولدت وتربت بين سطور الحكايات الشعبية وبدأت واقعًا نتلمسه من سنين عديدة بالفعل فى الإمارات والسعودية والغرب على أمل زيادة الهطول المطرى.

وفكرة التليسكوب وأسلحة التدمير والدفاع والمرايا ذات القدرة الحارقة باستخدام تجميع أشعة الشمس لحرق الأعداء هى خير شاهد على هذه الأفكار العابرة إلينا من ماضى الحكايات؛ لأن هذا الخيال المتعلق بالمرايا وبالطاقة الشمسية كان هو المخزون القديم الذى لجأ إليه العلماء بعد أزمة الطاقة الصناعية فى العصر الحديث، ابتداء من السخانات الشمسية حتى محطات توليد الطاقة مثل محطات الطاقة الشمسية الكبرى فى الإمارات ومصر والعديد من الدول غربا وشرقا وغيرها من المحطات المستقطبة للطاقة الشمسية التى لا يقتصر استخدامها على أغراض عسكرية وحربية فقط، بل يمتد ليشمل أيضًا أغراضًا أخرى مثل استصلاح الأراضى وتحويل مياه البحر المالحة إلى مياه عذبة.

العلم فى تطوره وحتى الآن ظل نصيرًا للأفكار الخيالية فى الكتابات التاريخية والسير والحكايات الشعبية، وفكرة المرايا الخارقة والحارقة القادرة على حرق سفن الأعداء التى هددت بلاد اليونان قديمًا ثم هددت بلاد العرب فى العصر الوسيط ومعها لجأت الذهنية الشعبية إلى فكرة المرايا المحرقة كاستراتيجية شفاهية وكتابية عن وقائع الحرب بين الغرب والشرق. فالجميع كانوا يبحثون عن تلك المرآة الكاشفة والفاضحة، ويتعطشون لامتلاكها والاحتفاظ بها. فمن يمتلك قوة تلك المرآة السحريّة العجيبة، ولو حتى قطعة واحدة منها، فهو يكون بهذا قد امتلك الآتى والمقدر؛ كما امتلك خبايا الماضى والحاضر والمستقبل، وحرق كل عدو متربص. ويبدو أن الفكرة راودت العلماء الألمان الذين خططوا لإطلاق مرآة عملاقة إلى الفضاء فى مدار حول الأرض، يمكنها أن تعكس أشعة الشمس لمهاجمة الأعداء.

وقديما ألتقط الفكرة علماء عرب من السرديات الشفاهية اليونانية وهضموها واستقلوا بها على يد: الكندى وقسطا بن لوقا، وأحمد بن عيسى، وعطارد بن محمد، والحسن ابن الهيثم ونقلوها عبر الترجمة الدقيقة والأمينة وقدموها للغرب حين استيقظ من سباته العميق فى عصر النهضة.

أشار إليها إقليدس الذى درس فى مدرسة الإسكندرية القديمة وأسس لنا علم الهندسة المستوية، ثم نقح الفكرة هيرون السكندرى فى كتابه المرآويات ومن بعده ذكرها بطليموس فى كتابه المناظر، واهتم كل منهم بالبحث عن الخصائص الهندسية للمرايا والإشعال الذى تحدثه المرايا على مسافة معينة وهو الأساس الذى قامت عليه فكرة المرايا المحرقة. والتى تحدث عنها العالم أنيتميوس واستخدم أرشميدس لها لصد أسطول رومانى سنة 212 قبل الميلاد عن سراقُصة، والخبر نقله لنا الجغرافى والرحالة اليعقوبى مشيرا إلى أرشميدس وجمعه 24 شعاعا فى نقطة واحدة واوردها السيوطى واشتغل عليها العديد من العلماء العرب أبرزهم الحسن ابن الهيثم وتطويره لفكرة استخدام الفولاذ فى صنع المرايا المحرقة.

وفى القرن السادس عشر كتب الإيطالى ميرامى عن المرايا التى تبين الأشياء على بعد آلاف الأميال وتوضع فى قمة برج يتيح للإنسان رؤية الأعشاب الصغيرة والسفن على ضفاف المتوسط، وكان يقصد منارة الإسكندرية إحدى عجائب الدنيا اللى قامت بدور التليسكوب فى وقت مبكر من عمر البشرية.

وأدق وصف للمنارة ومرآتها التليسكوبية نجده عند المسعودى المتوفى سنة 346ه فى كتابه مروج الذهب ومن بعده وصفها ابن رستة وابن حوقل والبكرى وابن وصيف شاه والحميرى والقزوينى والمقريزى والسيوطى والهروى وابن جبير والعبدرى وابن سعيد وابن بطوطة .

ووصفوا قدرات هذه المرايا فى أعلى المنارة باعتبارها مرايا لها قدرات حارقة وأخرى تليسكوبية أو تكهينية ترى المستقبل، وأخرى ترى الماضى، وأخرى دفاعية ضد الوحوش والأعداء والسفن مثل فكرة مرايا أرشميدس اللى حرقت سفن الأعداء.

ويأتى الأدب الشعبى معبرا عن ذهنيات العوام ومعاناتهم من مررات الحروب الصليبية فيشيد لنا الخيال الشعبى فى الحكايات الشعبية منارة ومرآة أخرى على بحر القلزم أو بحر الحجاز (البحر الأحمر ) تنسب هذه المرآه لملوك مصر القدامى فرسون وقبطيم ومصرايم لإرغام السفن على دفع العشور وحبس السفن الغادرة التى تحاول العبث بالحرمين الشريفين فى إشارة لمحاولات غزو الحرمين على يد أرناط أو رينو دى شاتيون، ونجد المرايا فى سيرة الظاهر بيبرس التى مكنته من رؤية حكام وأشراف مكة ومراقبتهم، إضافة إلى مرآة شيحة وملاعب شيحة التى يرى بها الأسرى ويقبض بها على العدو «جوان» ويضع «نواظير» فى رشيد ودمياط والإسكندرية خاصة بعد الهجمات على شواطئ الإسكندرية أشهرها حملة بطرس الأول لوزنيان ملك قبرص الصليبى سنة 1365م

تركت هذه الحادثة المريرة أثرها فى خيال الظل المصرى فى بابة ( لعب المنار) وسجلت وصف المنارة والمرايا الحارقة المصنوعة من معادن ونور وضياء وبرق ونار لهداية القادمين.

ومن رحم الحكايات العربية نعثر على حكاية غربية رواها (روجر بيكون ) عن مرايا يوليوس قيصر التى وجهها نحو سواحل إنجلترا من فوق منارة بناها على لسان داخل بلاد الغال ( فرنسا) ونتعرف من خلالها أن يوليوس قيصر رأى منارة الإسكندرية حين فتح المدينة سنة 48 قبل الميلاد واستولى على جزيرة فاروس ( رأس التين).

هذا الانتقال للمرآة من شط الإسكندرية إلى شواطئ فرنسا يمثل محطة من رحلة انتقال الذاكرة الشفاهية المتعلقة بمنارة الإسكندرية ومرآتها وأفكارها نحو الغرب فى وقت عرف البحر المتوسط كيف يكون فيها بحر تلاقٍ، بأكثر مما يكون فضاء، فصل بين الشعوب وأممها، وإن الأفكار الشفاهية والخيالية لها القدرة على اختراق الزمن أمام صرامة نسق الحداثة و العقلانية، ونتبين معها أهمية الذهنيات، من حيث كونها أنسب الوسائل لملامسة صدى حضور التاريخ فى الحاضر، من خلال الأشكال الذهنية المخترقة للزمن. وأن ذاكرتنا الشفاهية الخصبة والثرية يمكن الاستفادة منها في حفظ التاريخ العلمى واستنطاقه، فلننتظر ماذا يخبئ لنا المستقبل وما الذى سوف يبوح به لنا!.