منى عبد الكريم: في محبة عز الدين نجيب

عز الدين نجيب
عز الدين نجيب

كنت من المحظوظين أن عرفت د.عز الدين نجيب منذ سنوات بعيدة، بينما أخطو أولى خطواتى فى الحياة العملية، منذ أكثر من عشرين عاما، التقيت به بساقية الصاوى بالزمالك بأحد معارض الحرف اليدوية، لقاء أتذكره جيداً بملامح وجهه الهادئة واستقباله الودود وباستعداده الدائم للإجابة عن كل الأسئلة دون ضيق، ليمنحنى كل ما أردت من وقت ومن معرفة، لقاء ارتبط بشغفه بالحرف التراثية وبجمعية أصالة التى أسسها، وقتها لم أكن أعرف كل تلك الجوانب الأخرى التى تكشفت فيما بعد، فهو الفنان التشكيلى والناقد والأديب والقاص والمحرك الثقافى والباحث فى مجال التراث، أشياء كثيرة يُصعب حصرها لضخامة منجزه، أشياء تؤكد ما كتبه عبد المنعم عبد القادر فى التسعينيات «إن الكتابة عن عز الدين نجيب الفنان التشكيلى والأديب والناقد الفنى الذى مارس كل هذا – لهى مهمة صعبة».. والأصعب حين تبدأ الكتابة تحت وطأة الصدمة برحيله.

لقد كنت كذلك دائماً من المبهورين بما يفعله د.عز الدين نجيب، بدأبه وشغفه الذى لم يفتر بالرغم من كل تلك الصعوبات التى واجهها وصولا للسجن أحياناً، لم تحده معاركه التى خاضها عن مواقفه الواضحة،  لم يخش أبداً لومة لائم فيما يتعلق بقلمه الحر، وكان كلما تقدم به العمر زاد إصرارا وحماساً.. تعلمت منه عبر تلك السنوات، حتى أثناء دراستى بدبلوم التنمية الثقافية بجامعة القاهرة كان لنا أن نسترشد بكتابه «الصامتون.. تجارب فى الثقافة والديمقراطية بالريف المصرى»، ومن يقرأ هذا الكتاب سيدرك بلا شك أنه أمام شخصية مناضلة، مقاتل فى مضمار الثقافة منذ بداية حياته العملية لا يكل ولا يمل ولا يهدأ، يخرج من تجربة ليدخل فى أخرى هدفه منها النهوض بالثقافة..

اقرأ ايضاً| «الزراع» عضوًا بمجلس كرسي الألكسو لخدمة الطفولة

كانت رحلة الفنان عز الدين نجيب رحلة ثرية.. سمتها الأساسية هى الصدق، ومع كل تجربة قدمها سواء كانت معرضاً تشكيلياً أو كتاباً نقدياً أو مجموعة قصصية يمكن التعرف على ملامح رحلته الفنية والإنسانية، وقد خرجت أعماله الفنية منذ البداية محملة بشجون وهموم الإنسان والوطن واتضحت فى مجموعة كبيرة من المعارض كان من بينها: «ترنيمة للصمود» (1969)، و»دورة الحياة « (1976)، و»حوار الأطلال» (1987)، و«المتاهة والملاذ» (1991)، و»حلم الصحراء» (1995)، و»تجليات الشجرة» (1998)، و»نداء الواحة» (1999)، وهمس الحيطان» 2005، ثم معرض «عصفور النار» بأتيليه القاهرة يناير 2011، ذلك المعرض الذى كان من المفُترض أن يقام تحت عنوان «فانتازيا الحجر والبشر» لولا ذلك الحريق الذى نشب فى مرسمه ليلتهم عدداً كبيراً من أعماله، ولكن ذلك لم يثنه عن استكمال المعرض بعنوان جديد بدلالة تشى بحرية لا يفقدها العصفور الذى لا يكف عن التحليق، أو « «كطائر الفينيق»..عصفور النار الذى يتجدد ميلاده كلما احترق».. تلك العبارة التى استوقفتنى كثيراً فيما كتبه سمير عبد الغنى عن ذلك المعرض، ذلك بخلاف المعرض الاستيعادى الذى استضافه أتيليه القاهرة فى مايو 2015 تحت عنوان «أشجان ووعود»، وكذلك معرضه الاستيعادى الذى استضافه جاليرى «ضى» للفنون والثقافة بالمهندسين بعنوان»60 عاما بين المقاومة والبعث مارس 2022».. والذى كان فرصة بالنسبة لى لإعادة اكتشاف الرحلة التى بدأها منذ الستينيات بمعرض «ملحمة السد» 1964.. فى حوار امتد بيننا لأكثر من ثلاث ساعات..

أما بوصفه ناقداً تشكيلياً، فقد أثرى نجيب المكتبة العربية بالعديد من المقالات والكتب المهمة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: «أنشودة الحجر»، و» الفنان حامد عويس»، و»محمود بقشيش- فنان وعصر»، و»جميل شفيق.. بين الحلم والأسطورة»، والفنان «عبد الغنى أبو العنين» وموسوعة الفنون التشكيلية الصادرة فى ثلاثة أجزاء. و»النار والرماد فى الحركة التشكيلية المصرية»، و»تحولات الفن عند مفصل القرنين» و»الفنان المصرى وسؤال الهوية بين الحداثة والتبعية»، وغيرها من الكتب المهمة وذلك إضافة إلى دوره كرئيس تحرير سلسلة آفاق الفن التشكيلى من الهيئة العامة لقصور الثقافة من 2012 وحتى 2015، كما أسس سلسلة كتب ذاكرة الفن بالهيئة العامة للكتاب ورأس تحريرها بداية من 2014، وفى مجال الحرف اليدوية والتراثية، والتى سعى كثيراً للنهوض بها والحفاظ عليها فقد صدر له كتاب « الأنامل الذهبية»، و«فنون الحرف اليدوية فى مصر»، وقد كان كذلك صاحب الفضل فى إصدار موسوعة الحرف التقليدية بالقاهرة التاريخية التى أصدرت عن جمعية أصالة عدداً  من الأجزاء.. وغير ذلك.

وبخلاف الكتب التى أصدرها، فقد صدر عنه كذلك كتاب مهم وهو «عز الدين نجيب» فيما يقرب من 320 صفحة من القطع الكبير عن «جاليرى ضى» الذى أسسه ويديره هشام قنديل، وربما يتميز هذا الكتاب بخلاف تلك اللوحات الرائعة التى يتضمنها، تعريف القارئ بعز الدين نجيب على كل المستويات، إذ يضم الكتاب سيرة ذاتية مرتبة زمنياً منذ ولادته فى 30 أبريل عام 1940، والتحاقه بكلية الفنون الجميلة عام 1958، وهو نفس العام الذى بدأ فيه نشر أولى قصصه فى جريدة المساء ثم التحاقه بمراسم الأقصر عام 1962 والتى تعرف من خلالها على جذور الحضارة المصرية، وعمله بقصر ثقافة الأنفوشى بالإسكندرية عام 1963، ورحلته مع قصور الثقافة حيث أسس قصر الثقافة فى كفر الشيخ وعُين مديراً له، كما عُين مديرا لقصر المسافر خانة ومراسم الفنانين بحى الجمالية فى عام 1968، وفى عام 1980 أسس مركز الجرافيك بوكالة الغورى، وفى 1992 أسس مجمع الفنون بمدينة 15 مايو وعُين مديرا له، وعام 1995 انتخب رئيساً لمجلس إدارة أتيليه القاهرة، كما كان قد أسس فى عام 1992 الإدارة العامة لمراكز الحرف التقليدية والتشكيلية بوزارة الثقافة وعام 2000 صدر قرار وزير الثقافة بتعيينه رئيساً  للإدارة المركزية لمراكز الإنتاج الفنى قبل إحالته للمعاش، وبخلاف الكتاب فهناك كذلك موقعه على شبكات الإنترنت الذى يوثق لتجربة د.عز الدين نجيب، والذى أجده مرجعاً ونموذجاً لما يجب أن يكون عليه توثيق التجارب الفنية والثقافية.

الحقيقة أن الفنان عز الدين نجيب لم يرحل، حتى  وإن غيب الموت جسده، بما تركه لنا من إرثٍ ثقافىٍ ضخمٍ، لكل الأجيال القادمة، ربما لم أرغب أبداً فى أن أكتب «فى وداع عز الدين نجيب»، بل فى محبته، فى محبة الأستاذ والمعلم الذى لم يبخل بعطائه، فى محبة أحد أهم رواد ونقاد الحركة التشكيلية وأحد رموز الثقافة المصرية.

ففى كل مرة سأجد سبيلاً لألقاه، سأعود لتلك الحوارات التى جمعتنى به، سأقرأ كتابً من كتبه، سأتأمل عملاً من أعماله التشكيلية وأعتقد أن هذا هو أكثر ما أراده الفنان عز الدين نجيب.. أراد  أن نحافظ على ما تركه من إرثٍ، أن نمنحنه أعياد ميلاد عديدة بقراءة أعماله وتأمل لوحاته، وسأتذكر تلك الرسالة التى تركها لنا جميعاً، والتى اختار أن يستهل بها كتابه «عز الدين نجيب» لأختتم بها تلك الرحلة القصيرة فى مشواره الثرى المفعم بالتجربة والحياة.. مقتطف من إحدى قصائده التى كتبها عام 1992 والتى قال فيها:

أرأيتم ماذا أعطانى الفن ؟

أعطانى أعياد ميلاد ضد الموت

أعياد ميلاد بعدد اللوحات التى رسمتها.