مصطفى النفيسى :تلك الوحدة المتكاثرة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

انهمرت الدموع مدرارا. انهارت الجدران بشكل سريع أخرس الألسن. تحطمت القلوب وتحولت إلى بالونات ممزقة. بدا وكأن العالم قد انقلب رأسا على عقب، لكن المشاعر الجياشة انهمرت أيضا، واندلقت العواطف الإنسانية فى كل مكان. لقد أمسك المغاربة قاطبة بخراطيم ضخمة، وشرعوا جميعا فى رش المياه على الحريق المستعر الذى نشب فى قلوبهم. صحيح أنه زلزال مدمر وكارثى، لكنه بدا كنار تخرج من فم تنين. إنه حريق خرافى أتى على الأخضر واليابس. 

لقد كانت الصدمة قوية، لكن الشعب المغربى أظهر تلاحمه ورقيّه. كان الأمر أشبه بهزيمة فى حرب مع فارق كبير. فهاته الحرب لم نشارك فيها، ولم نخرج السيوف من أغمادها، لأن الطبيعة كانت مستعجلة وحازمة. لقد أنجزت غارتها فى رمشة عين. استطاعت الطبيعة أن تمرغ أنف الإنسان فى الوحل. واتضح أنها لن تكون أبدا مأمونة الجانب فى كل الأزمنة التى ستأتى. فقد كشرت عن أنيابها وتطاير الشرر من عينيها. لقد اهتزت ثقة الإنسان فى نفسه من جديد، وتحطم كبرياؤه أمامها. هذا يعنى أن علاقة الإنسان بالطبيعة عادت إلى ما كانت عليه فى الأزمنة الغابرة، أى أصبحت مرة أخرى علاقة خوف. كما أن الإنسان أصبح بلا حول ولا قوة أمامها. وهذا يفند كل الأطروحات التى تحدثت بتبجح كبير عن انتصارات الإنسانية المدوية، وعن فتوحاتها التى لا تتوقف، والتى ستكون كفيلة فى المستقبل بجعل الإنسان يجلس على عرش لا تصله النوائب والرزايا. 

اقرأ ايضاً| حسن نجمى:ارْتجَاجُ الأَرض

لقد مرت علاقة الإنسان بالطبيعة عبر التاريخ بأربع مراحل رئيسية. المرحلة الأولى هى مرحلة الخوف، حيث كان الإنسان مجرد عبد لها، إذ كان يرتعد خوفا فقط حينما يحل الظلام، الذى كان بالنسبة له عبارة عن كتلة من الأشباح المخيفة، فبالأحرى أن يرى البراكين أو الزلازل. مرحلة سيصول فيها الميتولوج وسيجول. والميتولوج هو الشخص اليونانى الذى كان يروى الأساطير (ميثى جمع ميثوس) موهما الناس بأن الظواهر الطبيعية ناتجة عن غضب الآلهة، داعيا إياهم إلى تقديم القرابين لها حتى ترضى عنهم.

أما المرحلة الثانية فهى مرحلة الفهم. وهى مرحلة ستبدأ فى القرن السادس قبل الميلاد مع ظهور الفلسفة. مرحلة سيتخلص فيها الإنسان من الجهل والخوف والعبودية. فالظواهر الطبيعية بدل أن تثير الخوف فى نفوس الناس بشكل عام والمواطنين اليونانيين بشكل خاص أصبحت تثير لديهم الرغبة فى الفهم، أى التيوريا، أو ما يسمى بالنظر العقلى. فالعقل أو اللوجوس سيصبح هو مفتاح القضايا والمشكلات. فى حين أن المرحلة الثالثة ستبدأ فى بداية القرن السابع عشر الميلادى مع الفيلسوف ديكارت الذى سينقلب على أرسطو القائل بأن «الفلسفة مغامرة استكشافية نقوم بها لذاتها»، أى لا نتوخى منها تحقيق أى منفعة مادية، لذلك سيعلن ديكارت بأننا قد فهمنا الطبيعة بشكل كاف، ويجب أن نبدأ فى استغلال خيراتها بأقل المجهودات من خلال معرفة ما لها من قوى وأفعال. وهكذا سيدعو إلى فهم الطبيعة من أجل السيطرة عليها، ليصبح الإنسان سيدا عليها بعد أن كان عبدا لها، وذلك من خلال صنع أسطول ضخم من التقنيات.

لكن حلول الألفية الثالثة سيعجل بتحويل الإنسان مرة أخرى من سيد على الطبيعة إلى عبد لها. وهاته المرة سيخاف على الطبيعة لا منها، وذلك مع تصاعد وتيرة التلوث البيئى الناتج عن الاستغلال البشع للطبيعة، واتساع ثقب الأوزون، وانهيار الجليد فى القطبين، وشح الموارد المائية. ويبدو أن هناك مرحلة خامسة ملتبسة تبتدئ الآن يختلط فيها الخوف من الطبيعة مع الخوف عليها فى ظل تنامى الكوارث البيئية فى كل بقاع الأرض.

لم نستوعب الأمر فى بدايته رغم أن العمارات اهتزت بنا والمصابيح المعلقة ركضت فى كل اتجاه داخل شققنا وبيوتنا فى مدننا البعيدة عن بؤرة الزلزال، وخرج الناس هلعين. لكننا لم نكن ندرى أن انهيارات حدثت وأرواحا سقطت وأناسا فقدوا منازلهم، وأن حيوات انتهت إلى الأبد.

تسمرنا فى أمكنتنا، ولم ندر ما الذى يحدث تحديدا. تحاملنا على صدمتنا بوسائط التواصل الاجتماعى خاصة منها الفيسبوك. ظهر فى البداية شاب من عين المكان يستغيث ويطلب النجدة. تقاطرت علينا بعد ذلك صور وفيديوهات لخسائر مادية فى مراكش والحوز وشيشاوة وتارودانت وورزازات، ثم انهالت علينا اللايفات من كل حدب وصوب، فعرفنا أن بلدنا المغرب قد أصبح جريحا.

فى الغد كانت الصدمة أعظم، وبدأنا فى مشاهدة الخراب، وإحصاء الموتى والمعطوبين والناجين أيضا. لكن الخراب كان أكبر مما تصورناه. لقد قطعت الطرق، وانهارت المنازل، واختفت قرى بكاملها، ولم نعد نشاهد على شاشات التلفاز سوى الجثث وسيارات الإسعاف، وهى تطلق العنان لصافراتها.

لكن الشعب المغربى العظيم سيتغلب على نكبته بتضامنه. لقد انتشرت حركة حثيثة فى كل قرية وفى كل مدينة. كانت حركة تمتلئ بالحماس بغية مساعدة المتضررين. لذلك بدأت القوافل المكونة من شاحنات وسيارات محملة بالأدوية والأغذية والأفرشة والخيام ووسائل لوجستيكية أخرى فى التقاطر على المناطق المنكوبة. بدا الأمر وكأنه مسيرة خضراء أخرى، فإذا كان الملك الحسن الثانى رحمه الله قد أطلق نداءه الشهير من خلال خطابه التاريخى، والذى دعا فيه المغاربة للمشاركة فى مسيرة خضراء من أجل تحرير الأقاليم الصحراوية من الاستعمار الإسبانى يوم 6 نوفمبر 1975، وهب ثلاثمائة وخمسون ألف مغربى من كل جهات المملكة المغربية تلبية لندائه، فإن مسيرات أخرى بصيغة الجمع انطلقت من كل إقليم باتجاه الأطلس الكبير. لذلك جعلتنى هاته المسيرات أتخيل الأمر مثل عودة إلى الأصل. فلطالما كان الأطلس عنوانا بارزا فى تاريخ المغرب. فبه يعرف، وبجباله يذكر دوما. 

قلت فى سريرتى: هذه فرصة المغاربة التاريخية لمعانقة أطلسهم، والتبرك بأتربته الحمراء وأشجاره الصامدة فى تلك الوهاد الشاسعة وتلك السفوح المنحدرة. هذه فرصتهم كى يحيوا صلة الرحم مع إخوانهم هناك. فسكان جبال الأطلس هم أهل جود وكرم. ليس هذا فقط بل هم أبطال أشاوس دون تمييز بين الرجال والنساء. وهذا ما عاينه العالم قاطبة من شرقه إلى غربه على شاشات التلفاز. صحيح أنهم أناس بسطاء فى عيشهم و مساكنهم، لكنهم أصحاب كرامة ونخوة وعزة نفس. 

لقد كانت ملحمة وطنية جعلتنا نتذكر أبطالنا الذين طردوا جيوش الاستعمار وجحافل الجهل. لقد تذكرنا شهداءنا الأبرار، ونساءنا الحرائر ورجالنا الشهام الذين كتبوا تاريخ المغرب بدمائهم. تذكرنا المهدى بن بركة ومحمد عبد الكريم الخطابى، وعسو بسلام وموحى أوحمو الزيانى وحمان الفطواكى ومحمد الزرقطونى وعبد الله كنون وفاطمة المرنيسى.

وإذا كان زلزال الأطلس الكبير قد خلف جرحا عميقا فى الجسد المغربى فإنه ولد روحا وطنية مبهرة ورغبة مستميتة فى التضامن والتآزر. وهذه رغبة أبداها كل أفراد الشعب المغربى العظيم بكل أطيافه وكل مكوناته وطاقاته. فرغم أن هناك خليط ثقافى يجمع بين ثقافات عربية وأمازيغية وصحراوية، لكن كل هاته الثقافات تنسجم فى جسد واحد هو جسد وطننا الجميل الذى أصبح أكثر قوة، وأكثر وحدة من طنجة إلى الكويرة. وطن موحد ببحره المتوسط ومحيطه الأطلسى، وجباله وصحرائه ووديانه وبحيراته. وهذا دليل على أن المستقبل سيكون أكثر إشراقا والجسد المغربى سيعود للتعافى ليصبح جسدا صلبا بمعدنه الأصيل وشعبه الراقى.

وكخلاصة يمكننى القول إن المغرب يجسد تلك الوحدة المتكاثرة أو الكثرة الواحدة بلغة المفكر هنرى برغسون. فهو تلك الوحدة المتكتلة التى تتسع بأريحية لفسيفساء الثقافات المتنوعة والمتضامنة، والتى تجد بداخله عشها الدافئ.