مراد القادرى:فى مواجهة عبث الأقدار

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

كان غالبيةُ المغاربة، تِلك الليلة؛ الجمعة 8 سبتمبر 2023، يُنهُون أسبوعًا حافِلا تَميّز باستئنافِ البعض لعملِه، بعد عُطلة الصيف، وعودة التلاميذ والطلبة إلى المدارس والجامعات، حينما زأرت جبال الأطلسُ، وضرب الزلزالُ ضربتَه العنيفة والموجِعة، لِترتبك كلُّ الترتيبات، ويتدحرجَ الزمنُ المغربى على سُلّم ريختر، ويفرضَ علينا استحقاقاتٍ مُغايرةً ومُختلفة لتلك التى رتّبناها جميعا، وحلمنا بإنجازها كأفرادٍ أو كجماعات.
كنتُ، ليلتَها، فى بيتى وسط العائلة بمدينة سلا، المجاورة للعاصمة الرباط، عندما تراقصت الأرضُ بنا، وتمايلت الجُدران، كأنّها فى حالة سُكر طافح. بقيتُ جالسًا، غير مُصدّق لما يحصل. ففيما صاحت زوجتى «الزلزال»، بقىَ أبنائى ياسمين وأحمد فى حالة استغرابٍ مُريب، ذلك لأنهم لم يلتقُوا من قبل وجهًا لوجه مع هذا «الزلزال». وظلّت علاقتُهم بهذه الكلمة محصورةً فيما بلغهم عنها من أخبار، وشاهدُوه من أفلام. 
اقرأ ايضاً| ياسين عدنان:يوميات وتأملات أثقال المدينة
لكن، ما وقعَ تلك الليلة ليس شريطًا سينمائيا، تنتهى حكايتُه بانْطِفاء الأضواء، وانْصِراف الجُمهورِ إلى حال سبيله، بل هُو أشدُّ هوْلا ممّا اعتادت السّينما على نقلَه عبر شاشاتها، إذْ فقد المغربُ، بسبب هذا الزّائر الثقيل، ما يُقارب ثلاثة آلاف من بناته وأبنائه، فيما يُوجد ضِعفُ هذا العدد من الجَرحى، غالبيتهم فى حالةٍ حرجة، هذا فى الوقت الذى مازالت جهودُ الإغاثة متواصلةً، وعملياتُ البحثِ مُستمرةً لإخراج آخرين من تحت الأنقاض.

فى تلك الليلة، داهمنى طيفُ الشّاعر الصديق الراحل أحمد بركات (1960/1994)، فقُمتُ، فى غمْرة الفزع للبحث بين أنقاض كُتبى عن قصيدته «أبدًا لنْ أساعد الزلزال» التى حمل ديوانُه عُنوانَها، والذى فاز بجائزة اتحاد كتاب المغرب للشعراء الشباب، سنة 1990. يقولُ فى مقطعٍ منها:
حذِرٌ، كأنّى أحملُ فى كفّى الوردةَ التى توبّخ العالم
الأشياءَ الأكثر فداحة:
قلب شاعر فى حاجة قُصوى إلى لغة
والأسطح القليلة المتبقية من خرابِ البارحة
حذرٌ، ألوّح من بعيد
لأعوامٍ بعيدة
وأعرفُ بالبداهة أننى عمّا قريب سأذهبُ مع الأشياء
التى تبحثُ عن أسمائها فوق سماءٍ أجمل ولن أساعد الزلزال!
فى تلك الليلة، استعدتُ أحمد بركات، الشّاعر الذى رحل عن عمر 33 سنة، استعدتُ نبوءَته التى تليقُ بشاعر راءٍ مثله، حدس الخَرابَ القادِم، وعاينَ الأسطحَ المتبقيّة من دخانه وغُباره، آيلا على نفسه أنْ يحملَ الوردة ويُوبّخ العالم، وألَّا يصطفّ وراء الزلزال. 
الكثيرون، عادُوا مثلى بمُناسبة واقِعة الزلزال، إلى أحمد بركات، واستحضرُوا قصيدتَه تلك، وربّما استعادُوا تجْربتَه الشّعرية ومسارَه الحياتىَ المطبوعَ بالفجيعة والألم، كما هى اللحظة التى نعيشُها كمغاربة اليوم، ويعيشُها معنا عددٌ من الأصدقاء والشّرفاء فى مُختلف جهاتِ المعمور، وهو ما يجعلنى أشعُر، إذْ أخرجُ من اسْتعارة الشّعر إلى مرارة الواقع، أنّنى لا أُمْسكُ الوردة بمُفردى، وأنّ المغرب ليس أعْزلا، وأنّ «المغربىّ» لا يمشى وحيدًا فى مِحنته، بل هو مُحاطٌ بالمحبّة من كلّ جهة، وأنّ العالم رفيقٌ له، يُصاحبُه فى الخطوِ وفى الأمل.
لقد كتب مُتضامنًا مع المغرب، والمغاربة، أصدقاءٌ كثر، حرصُوا على إعْلان محبّتهم للمغرب وللمغاربة فى هذه اللحظة العصيبة والأليمة من تاريخهم، فيما سعى أصدقاءٌ آخرون إلى الاتّصال الهاتفى للاطمئنان على أحوالنا ومُواساتنا ومُساندتنا لتجاوُز هذه المحنة، مُعبّرين جميعُهم عن ثقة وارفة فى قُدرتنا على النّهوض من وسط الأنقاض والخَراب. 
أعود إلى تلك الليلة، التى صادفت استعدادَنا فى بيت الشعر فى المغرب، لعقد أوّل اجتماعٍ لهيئتنا التنفيذية والذى كان مُقرّرا له السبت 9 سبتمبر 2023، أى فى اليوم الموالى لوقوع الكارثة، وذلك قصد إعطاء الانطلاقة للموسم الثقافى والشّعرى الجديد.

ولأنّ الزلزال ضرب فى منتصف الليل، فإنه لم يكنْ من المتاح تأجيل الاجتماع أو تغيير موعده، خاصة أنّنا، ليلتها، لم نكنْ نُقدّر حجمَ المصيبة التى حلّت بأهلنا فى الجنوب، وتحديدا فى مدن مراكش وتارودانت وشيشاوة وورزازات، لذلك، جاء بعضُنا إلى مدينة الرباط لحضُور الاجتماع المذكور، وخاصّة القاطنون منّا فى المدن التى كان أثرُ الزلزال بها ضعيفا، لنكتشف حينها هوْل الفاجعة، وكيف أنّ الزلزال ضرب اجتماعَنا هو الآخر، ومنعَ عددًا من الأعضاء من حُضوره بسبب الليلة المرعبة التى قضوْها فى العراء، خارج بيوتهم ومنازلهم جرّاء حالة الذّعر والهلع التى عاشُوها، وكذا خوفًا من تِكرار الهزة الأرضية ومُعاودتها من جديد، فظلوا وأُسَرهم بعيدًا عن منازلهم، بعد أنْ تركوها وحملُوا معهم أفرشتهم وأغطيتهم واختاروا السماء غطاء والأرض لحافا لهم.
 
من داخل الاجتماع، بدأنا الاتّصال الهاتفى ببعض أعضاء الهيئة التنفيذية للاطمئنان عليهم، وكانت البِداية بالشّاعر جمال أماش، الذى يقْطنُ مدينة مراكش، والتى كانت أكثرَ الحواضر المغربية تضرُّرا من الزلزال، فقد تسبّب فى إلحاق خسائر بليغة بأسوارها التاريخية وانهيار أجزاء منها، كما ألحق أضرارا بعددٍ من المبانى الأثرية والتراثية الأخرى، بما فى ذلك صومعة جامِع الكتبية الشهيرة، التى بناها الخليفة الموحدى عبد المومن بن على، منذ أكثر من ثمانية قرون، بجوار ساحةٍ، كانت معروفة آنئذ ببيع الكتب، لذلك استحقّت اسم الكتبية.

كان صوتُ جمال أمّاش يأتى عبر الهاتف مُنهكا وواهِنا، فالزلزالُ ضرب بقوة 6.8 على سلّم ريشتر، بدوار إغيل، على مسافة 70 كيلو متر من مراكش، المدينة الحمراء، والتى من أسمائها، كذلك، البهجة، وذلك لأن الفرح والبهجة ينتشران بين أرجائها وحدائقها وعرصاتها، وفى ساحتها (جامع الفنا) يُمكن الاستمتاع بمظاهر الفرجة الشعبية، ومشاهدة العروض الفنية والموسيقية، التى تعكسُ غِنى التراث المغربى وتنوّعَه، وهو ما كان من وراء إدْراج هذه الساحة فى قائمة التّراث اللامادى الإنسانى التى أعلنتها منظمة اليونيسكو. حكى لنا جمال أماش أهوال تلك الليلة التى عصفت بالمدينة وبأحوازها، وكيف أنّ غالبية المراكشيّين عاشُوا ليلة بيضاء غير مسبوقة فى تاريخهم وتاريخ المدينة، وأنهم لحدِّ ذلك الصباح غيرُ قادرين على العودة إلى بيوتهم، وأنّ عددًا من الدّور بالمدينة العتيقة انهارت، وأنّ الأنقاض ورُكامَ الحِجارة يحُول دون سيولة الحركة بداخلها. 

ذلك الصباح، إذ توالت اتصالاتُنا بكافّة الأصدقاء أعضاء الهيئة التنفيذية لبيت الشعر فى عددٍ من مدن المغرب، كنّا أمام خيارين: أنْ نعقد اجتماعَنا بمن حضر، أو نُؤجّله إلى موعد لاحق. فى تلك اللحظة، ربما، وبشكل غير واعٍ، استحضرنا الشاعر أحمد بركات، واستعدنا وعدَه الشّعرى بعدم مساعدة الزلزال، والوقوف فى وجهه، وعدم الخضوع لاشتراطاته وأحكامه، فقرّرنا عقْد الاجتماع والبِدْء بقراءة الفاتحة ترحُّمًا على ضحايا الهزّة الأرضية وتقْديم العزاء لشعبنا وللأسر المكلومة، ودعوة الشعراء المغاربة إلى الانخراط فى عمليات المساعدة والتبرع بالدّم من أجل إغاثة الجرحى والمنكوبين، ومطالبة وزارة الثقافة بالإسراع بوضع مخطّط عاجل لترميم المواقع الأثرية والبنايات التاريخية وإعادة الحياة لها، حتّى تنهضَ بمهامِها الثقافية والسياحية. 

هل انتصر صوتُ الشّعر بداخلنا؟
نعم، وتلك هى حيويةُ الشعر وعبقريته فى مُواجهة عبث الأقدار، فالظاهر أنّ عنوان قصيدة أحمد بركات «أبدًا لن أساعد الزلزال» كان كافيًا للانتصار للحياة بدل الموت، والتلويح بشارة تضامن لكلّ من قضى نحبَه تحت الغُبار والأتربة، فالشّعر ومؤسساتُه معنيّة باقتناصِ الحياة من تحت الأنقاض والخرائب التى خلّفها من ورائه هذا الزائر الثقيل، الذى بقدر ما يعملُ على قتل الإنسان، يعمل الشعر على بعْث الطفولة والحلم، ونشْر الأوكسجين والضوء فى الوجُود البشرى. 

منذ ليلة الزلزال، شهدنا فيضًا من الحُزن والألم يعتصرُ أفئدةً صديقة، كما عاينّا بارقاتِ أمل فى الآتى والقادم، كأنّما المغرب الأقصى كان فى حاجة لهذه الكارثة ليهبّ الجميع من شمال البلاد إلى جنوبها، ومن خارجها كذلك، للعطاء والسّخاء بما توفّر من أجل إعادة البسمة إلى الشفاه التى تيبّست من الموت، غير أنها واجهته بسطرٍ شعرى واحد، طرَزَهُ يومًا شاعرٌ ورحل «أبدًا لن أساعد الزلزال!».