ياسين عدنان:يوميات وتأملات أثقال المدينة

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

صبيحة هذا اليوم، الأحد 10 سبتمبر، اهْتزَّت الأرضُ تحت أقدامنا من جديد. كنّا نُهيِّئ فطورَنا على عجلٍ حينما رُجّت بنا الأرض. كانت هزّةً بقوة 4,5 على مقياس ريختر. لم ندخل بيوتنا إلّا بعدما طلع النهار. كانت الليلةَ الثانيةَ التى قضَيْناها فى العراء. سيارتُنا مركونةٌ جنب البيت. رتّبْنا مجلسًا فى حديقةٍ صغيرةٍ مُجاوِرَة، فيما اتّخذْنَا السّيارةَ مرْقدًا. فقط بعدما طلع النهار، تجرّأنا على ولوج المنزل. لكن إفطارنا كان مرتبكًا بسبب الهزَّة الجديدة.

«قالت: هى خمس دقائق.
قلت: بل هما اثنتان.
...
وحين انجلى الزلزال، كان الحديث يجرى عن عشرين ثانية فقط.
حقًّا، زمن القيامة غير الزمن»
سعد سرحان
حين داهمَنا الزلزالُ أوَّلَ مرّةٍ، مساء الجمعة 8 سبتمبر، لم تكن مجرّدَ رجَّةٍ. بل إنَّ الأرض كادت تنسحِبُ من تحت أقدامنا. ومثلما ترْنَح الطائرة وهى تُواجهُ مطبًّا هوائيًّا فى الجوّ، رنَحَ البيتُ بنا لمُدّة دقيقتَيْن. ونحن فى الطابق العلوى مذهولون لا نعرف كيف نُدَوْزِنُ خطواتنا، ولا كيف نقودها باتِّجاه سرير بيان، صَبيَّتِنا النّائمة. وما كدنا نستفيق من الصّدمة ونتبيّن هوْلَ الحادث حتى انقطع التّيار الكهربائى. لم يَدم الانقطاعُ أكثر من دقيقةٍ. لكنّها كانت أطول دقيقةٍ عشتُها فى حياتى. وما إن وجدنا أنفسنا حافيَيْن فى ظُلمة الشارع وبيان بين ذراعَى محاسن، زوجتى، حتى تنفّسْنا الصُّعداء. كانت رجّةً عظيمةً عرْبدَتْ فيها الأرضُ تحت أقدامنا: هزّةً بقوة 6,8. منذ تلك الهزّة حتى هذه اللحظة، ونحن عاجزون عن استعادة إحساسنا الاعتيادى بالأمان.

فى لحظةِ سأَمٍ وخصامٍ مع العالم، كتبتُ فى قصيدةٍ قديمةٍ نشرتُها تحت عنوان «زهرة عبَّاد اليأس»:
«أينكَ أيها الزلزالُ الصَّديقُ 
أينكَ
لأُبرْهِن أنِّى جديرٌ حقًّا بهذا اليأس
ولندفنَ معًا
هذا الحديدَ الأسودَ

فى الأعماق الحيّةِ لكبدِ الأرض؟
أينكَ أيُّها الزلزالُ
لآخُذَ بِيدِكَ؟
أيْنكِ يا قذيفةَ الرّحمةِ
لأزْرَعكِ فى أحشائى
وأنامْ؟»
لم يكن لى حينها سابِقُ لقاءٍ مع الزلزال. كان بالنسبة لى مُجرّدَ كلمةٍ فى مُعْجمٍ. استعارةً. وليس لقاءً حيًّا مع الكارثة، اليومَ للكلمةِ جرْسٌ آخر فى السَّمع والوِجدان. فبعدما اهتزّت مراكش وأحْوازُها، خبرتُ هولَ الزّلزلة. خَسَفَت الأرضُ بدواوير كاملة فى مُحيط مدينة يوسف بن تاشفين. وجَدْنا أنفسنا أمام حصيلةٍ مفجِعةٍ تُناهز الثلاثة آلاف قتيل، ليُعلِنَ البلدُ حدادًا وطنيًّا. واليوم، أشعر بأن وعدى السابق للزّلزال بمدّ يد العون لا يخلو من تنطُّعٍ وتجديف. لذا أفكّر اللحظة فى الشاعر المغربى الراحل أحمد بركات مستحضرًا ديوانه الأول: «أبدًا لنْ أساعدَ الزلزال».
أنا اليومَ مُنحازٌ لموقفكَ الشِّعرى يا بركات. سأسْحبُ جُملتى المُتنطِّعَة: «أينكَ أيها الزلزالُ لآخذَ بيدك؟» لأستعيدَ معك ارتيابَ الشعراء. وسأردِّد وراءك يا صديقى:
«حَذِرٌ، ألوِّحُ مِنْ بعيد
لأعوامٍ بعيدةٍ
وأعرفُ ـ بالبداهة ـ أنّنى عمَّا قريب سأذهبُ مع الأشياء
التى تبحثُ عن أسمائها فوق سماءٍ أجمَل
ولن أساعد الزلزال!».

اتّصل بى الشاعر البحرينى قاسم حدّاد بالأمس يسألُنى: هل استقرّت أحوالُكم فى مراكش؟ أجَبْتُه أنّ الارتدادات متواصلة. كلّ يوم تهتزُّ بنا الأرض مرّتين على الأقل. وقبل قليل فقط تحرّكَتْ من جديد. كانت هزّةً بقوة 4,5 على سلّم ريختر. انزعج قاسم للخبر، لكنّنى هوَّنتُ عليه ممازحًا: لا تخشَ علينا يا صديقى، فقد صرنا أصحاب خبرة زلزالية لا يُستهان بها، وأقلّ من خمس درجات على سلّم ريختر لم تعد تحرّكُ فينا ساكنًا. طمْأنَنى قاسم مؤكّدًا أنّ هذه التوابع طبيعيّة بعد الزّلزلة. فكّرتُ فى أنّ التَّوابعَ للزَّوابع، أما الزّلازلُ فتتلوها ارْتِدادات. وذكّرنى قاسم بكتاب «التوابع والزوابع» لابن شهيد الأندلسى. كان التابعُ الجنَّ فى كتاب ابن شهيد، والزوبعةُ الشَّيطان. أمّا نحن فلا جنّ بيننا ولا شياطين. وإنما هى صفائحُ تكتونيّةٌ تُشكِّلُ الغلاف الصخرى الذى يحاول أن يتلاحم من جديد.
الهزّات الارتدادية سبيلُهُ إلى ذلك. ويمكن لهذه الهزّات أن تتواصل لأسابيع وأشهر، وأحيانًا لسنوات. عجيبٌ أمر هذه الارتدادات، بقدر ما تنكأ جُرح الزّلزال داخلك وتذكِّرُك بهِ يوميًّا، تشتغلُ – فى الآن ذاته – لتضميد جراح الأعماق الحيّة لكبد الارض، وللَحْمِ تصدُّعات الغلاف الصخرى.
هكذا يقول العلم. والطريفُ أنّ أهلَ مراكش صاروا جميعا خبراء جيولوجيّين هذه الأيام. كلما جالسْتُ صديقًا إلّا وأغنى رصيدى ببيانات جيولوجيّةٍ وجيوفيزيائيّةٍ جديدة. لكن السَّبق كان لمراكش دائمًا فى هذا الباب. ففى زمنٍ كان فيه العالم العربى والإسلامى يعتبر الزلزال جنسًا من أجناس العقاب الإلهى وترجمةً لإرادةٍ عُلْوِية فى تطهير الأرض من الدَّنس، بادر طبيبُ مراكش وفيلسوفُها أبو الوليد بن رشد إلى ما يمكن اعتبارُه اشْتباكَنا العلمى الأوّلَ مع الظّاهرة. فكتب شارحًا: «فسببُ الزّلزلة ما أقول: وذلك أنَّ البخارَ من شأنه أن يتولّدَ من الجسم الذى فيه رُطوبة ويُبوسة. والأرضُ يابسةٌ بطبيعتها فإذا ترَطّبَت من الأمطار وعملت فيها حرارة الشمس صعدَ منها بُخاران أحدهما رَطبٌ والآخر يابس». هذا البخارُ اليابسُ – يشرحُ ابن رشد – «كائنٌ فى باطنِها العميق. وهذا البخار يعرضُ له ألّا يجدَ مَخْلَصًا إلى الخروج فيضطربَ فى باطن الأرض ويتحرّكَ فى منافذ ضيّقة فتكون عنه حركةُ ذلك الجزء من الأرض الذى تولَّدَت فيه الرّيح».

لكن ما قولك يا أبا الوليد فى أنّ سور مراكش العتيق الذى أوصى جدُّك ببنائه قد تعرّض اليوم للزّلزلة؟ 
كان ابن رشد الجدّ من أوصى الخليفة المرابطى على بن يوسف بن تاشفين بتحصين مراكش بسورٍ حمايةً للعاصمة من أطماع المهدى بن تومرت مؤسس الدولة الموحّدية. فأخذ الخليفة برأى الفقيه، وشرع فى بناء السور من حينِه، واستمرّت الأشغال على قدم وساق ثمانيةَ أشهر بالتّمام أنفقَ فيها الخليفة سبعين ألف دينار ذهبى.
اليوم، وأنا أطوف بالسيارة حول السور العتيق، أحسُّ الألم يعتصرُنى وأنا أقفُ عند الانهيارات الجزئية والتصدُّعات التى طالت السور. العديد من المبانى القديمة تهدَّمت داخل المدينة العتيقة. انهارت مآذن وقباب، وتصدّعت جدران. انهارت صومعة جامع خربوش فى قلب ساحة جامع الفنا. بل إنّ مسجد تينمل الذى بُنى فى عمق حوز مراكش فى بداية القرن الثانى عشر فى عهد الخليفة الموحّدى عبد المومن بن على دُمِّرَ تمامًا. 
لكنّ سورَ مراكش أشبهُ بالجلباب تُدنيه الحُرَّة ذاتُ الحَسَب عليها فيُكسبها رفعة وخفارةً. مراكش مدينة الأولياء. لذا لا يقبل أحدٌ أن يراها عارية متجرِّدَة.
كانت أشغال ترميم السور قد تواصلَتْ لسنواتٍ، فجاء الزّلزال ليعصف بكل المجهود الذى تمّ بذله فى الترميم. واليوم سنُعيد الكرّة. يجب أن نُعيد الكرة ليسترجع السور شموخَه الآسر، ويطمئنَّ ابن رشد فى قبره إلى أنَّ توصيتَهُ القديمة نافذةٌ عبر الأجيال. 
أمّا أنت يا بركات، يا صديقى الشاعر، فنم قرير العين. هأنذا أجدِّدُ لك الوعد والعهد: أبدًا يا صديقى، أبدًا، لن أساعد الزلزال.