« قاهر الجوع ».. قصة قصيرة للكاتب التونسي الهادي نصيرة

الكاتب التونسي الهادي نصيرة
الكاتب التونسي الهادي نصيرة

« قاهر الجوع » قصة قصيرة للكاتب التونسي الهادي نصيرة

غالبا ما كان أبي يحدثني عن تجاربه السابقة في الحياة، وكم كانت تلك التجارب في معظمها مثيرة وقاسية !

يخاطبني مشجعا:

" لا تنس أنني أثق كثيرا في نجاحك الدراسي .. كل الأمل في أن أراك تتخطى بيسر كل المراحل وتصير رجلا راسخ الأركان ذا قيمة بين الناس .."

فيهزني إحساس بالتباهي يدفعني إلى التأكيد :

" أعلم أنك تفخر كثيرا بنجاحي .. أعدك بتحقيق ذلك ولن تخيب أمانيك يا أبي ! "

وتمر تلك السنوات التي يغاث فيها الناس ويعم الخير والرخاء في كل بيت في ذلك الريف  الساكن الممتد، لكن الطبيعة تتغير، وما تلبث أن تكشر عن أنيابها لتصبح كالوحش الغاضب.. وتطل بوجهها المتجهم سنوات عجاف، يزحف فيها الجفاف زحفا، ينشر الكآبة على وجوه البشر،  ويجلد بسياطه الحارقة قوافل المواشي وأغصان الشجر ...

 

 تتقلب الفصول، ويقبل الشتاء بزمهريره ورياحه الهوجاء، وحين يأتي المساء، نأوي إلى كوخنا الجاثم في أعلى الربوة، منعزلا يرنو إلى السهل وشجيرات التين والزيتون والخوخ والتفاح... 

 داخل الكوخ، كنا نفترش التراب، بينما يجلس أبي ممسكا بأغصان الزيتون اليابسة ليرمي بها حطبا تلتهمها النار المشتعلة تحت قدر يعلوه كسكاس، الكسكاس تملؤه أمي كسكسا وتظل تراقبه بٱنتباه شديد حتى ينضج، بينما تظل أعيننا وأعناقنا مشرئبة تتابع كل حركة من حركاتها إلى أن يحل موعد حسم صراعنا مع وخزات الجوع في أمعائنا الخاوية لساعات طويلة ...

 

معركة نتفرغ بعدها إلى التزاحم لٱفتكاك مكان يمنحنا فرصة التدفئة على نار الموقد من لسعات البرد القارس الذي تشتد وطأته كلما تقدم الليل، في الوقت الذي تعمد فيه أمي إلى وضع براد الشاي الذي ما يلبث أن يطلق غنغناته وفق نسق هادئ رتيب يخترق صمت المكان ...

 

تمضي سنوات الجفاف، تنقشع بعدها غيوم الضنك والكدر، وتمطر السماء غيثا نافعا يروي الأرض والشجر، ويعيد الإبتسامة فتمسي الوجوه ضاحكة، متهللة، مستبشرة ..

وتستمر الحياة.. وفي خضم أمواج بحرها، نظل نخوض معارك عيشنا اليومي بلا هوادة.. وكلما أطلت المصاعب برأسها، لا تخفي أمي تبرمها، رغم أن لها طاقة صبر لا تنفذ.. كفاحها مستمر، تقف صامدة في خط مواجهة المتاعب والشدائد بعزم لا يلين..

 تتوالى الأزمات، فتجد أبي أمامها شامخا شموخ النسور في قمم الجبال...نظراته الحادة المتحفزة لا تشعرني بالقلق بقدر ما تعطيني الأمان، فألفي نفسي متخطيا بشجاعة متناهية أعتى الحواجز والعقبات في الحياة....

"والآن أخبريني يا أماه، ما الذي تغير بعد رحيل أبي؟ "

تتنهد أمي طويلا ثم تجيب:

" تغيرت الحياة وٱنقضى زمن الطمأنينة من غوائل الفاقة والجوع.."

   " كيف كنتم تواجهون الشدائد؟ "

وهنا يتدخل ٱبن عمتي الذي عايش فترات طويلة من حياة أبي فيقول:

" لم يكن أبوك يخشى الجوع بل كان يواجهه بٱبتسامة وأمل . لم أر في حياتي رجلا يقهر الجوع بٱبتسامته مثل خالي.. كان يتساءل متعجبا: لماذا يرى الناس في الجوع غولا مرعبا؟

ألم يروا أن هناك مطرا وعشبا وحطبا وأوراق شجر؟ ألم يروا تلك المواشي وهي ترعى ولم تصبها المجاعة؟

 الناس يظلون أحياء مادامت الطبيعة تنبض بالحياة...هم يستمرون بٱستمرار طاقة الطبيعة المعطاء دون توقف... 

  الفقر آفة حين تستبد بضحاياها فإنها تنفذ إلى عمق تفكيرهم لتعشش كالعناكب ويصبح من الصعب التخلص منها .

وكان لا يكتفي بقول ذلك ويضيف: اطمئنوا ! هذا الوقت سيمضي، وإن أجمل ما ننعم به في ربوعنا الفيحاء؛ بساطة العيش، والغبطة التي تسر القلوب وتقهر الأحزان...."