أحمد الـشَهاوى يكتب : أبصَرُ الشُّعراءِ أشرف عامر كأنَّهُ عاش

أشرف عامر
أشرف عامر

«الرجلُ الذى عاشَ عُمرًا من الهرْوَلةِ
وراوغَ الموتَ مِرارًا
هدّهُ الجَرْيُ فى الدُّنيا،
فتوقَّفَ فى مُنتصفِ النباح.
ينبحُ
تتفحَّمُ الأرضُ بنيرانِها
يتمرَّدُ الماءُ على شواطئِهِ
وتُكشِّرُ الطبيعةُ فى وجُوهِ البشَر
يتعلَّمُ الإنسانُ مايجهلُ
لكن..
خارجَ الوقت.» 
أشرف عامر 
>>>
كأنَّهُ عاش، 
فلم يشبع الشَّاعر أشرف عامر من الشِّعْر، ولا من شِعْر الحياة، مرَّ الوقتُ ولم ينتبه إلى الصبار الذى كان قد زرَعَهُ فى أيِّ أرضٍ يحطُّ بها، سواء أكانت مِلكًا له، أم هو ضيفٌ عليها، إذْ كان يُحوِّل المكانَ المُؤقَّتَ إلى إقامةٍ دائمةٍ ؛ فهو ابنُ الحِلِّ والترحالِ، ابن السَّفر المُلهِم، لكنَّ أسئلة الوجُود أرغمته على مضْغ الصبَّار الذى زرَعَه، ولم يشكُ أو يتذمَّر، بل كان يقاومُ، مُزِيدًا من زراعةِ صبَّارِهِ، حتى كان يبدُو أمامى كأنهُ «صبَّار»، خُصُوصًا أنه ابن الصَّبر والمُثابرة والاجتهاد والسَّعى والمُعافرة.

كان يرى الصَّبر مُعادلًا للغةِ فى بساطتِها وأبعادِها المُحمَّلة بالدَّلالات والإشارات والرمُوز.يسقى نفسه « أملًا» كنبَات الصَّبار لينجُوَ من فِخاخِ الحياة.ويمارس التمثيلَ الضَّوئيَّ بوصفهِ شاعرًا قادرًا على الخلْق والابتكار والمُغامرة.

لكنه لم يكُن كليًّا كالصبَّار ؛ إذْ كان هو يزْهِرُ فى أيِّ وقتٍ، وليس فى الصَّيف فقط، كما كان سريعَ النمو وليس بطيئًا كصبَّارةٍ وحيدةٍ.


هل حدَّق أشرف عامر  فى المرآةِ مِرارًا قبل مُغادرةِ البيت ذاهبًا إلى النهاياتِ التى كان يراها قريبةً  فى شعره المكتُوب بالفُصحى أو العامية التى كان يحنُّ إليها – وهى التى بدأ بها شِعْرَهُ (وأصبحتُ أكتبُ بالفصحى بعد ديوانى العامى الأول «شبابيك» بوصفها واحدةً من مُفارقات الحياة ).

هل وعَدَتِ المرآةُ بالعودةِ ومُواصلة رحلةِ الحَرْف، أم أنها كانت ترى كزرقاء اليمامة التى كانت تبصرُ الأشياءَ من مسيرة ثلاثة أيامٍ مُستترةً بالأشجارِ، كما كانت تُبصر الشَّعَرةَ البيضاءَ فى اللبن :
« تحترقُ النظرةُ الأخيرةُ
فى اللاشىءِ
وتُغْمِضُ السَّماءُ عينيها
لا أحدَ فى الوراءِ
لا أحد. 

يمتلكُ أشرف عامر من توقُّد الشَّاعر وذكائه ما يكفى قبيلةً من الشعراء، صاحبُ ذاكرةٍ، وإن كان يظنُّ أحيانًا أنها مثقوبةٌ، لكنه عندى من الشُّعراء القلائل الذى صاحبتُهم وأحببتُهم الذين يولعون بالتفاصيل والذهاب نحو المُهمَل والمنسى والبسيط، حيثُ يغرفُ  من دون تعنُّتٍ أو تعسُّفٍ أو مُعاظلةٍ لُغويةٍ، كما أنَّ نصَّه الشِّعرى حمَّ الُتأويلٍ، إذْ فى كلِّ قراءة يُضاءُ أمامى عالمٌ سريٌّ، وتفتح أمامى سماءٌ محمُولةٌ فوق بعضها، وأدخلُ طريقًا جديدًا نحو طبقاتٍ راكمها الشَّاعرُ عبر التجارب والخبرات ؛ فأشرف عامر مُمثلٌ نموذجيٌّ لقصيدة التجربة.

وهو لم يعتد أن يفسِّر أو يشرح، بل إنَّ تأويلَ نصِّ الشَّاعر يجعل متلقِّيه يفسِّر باطنَ اللفظ، فما الشَّاعر إلا لغة الباطن السريَّة  التى لا يقدرُ عليها إلا العارفون بالأحوال والأرواح.

من يقرأ نصَّ أشرف عامر سيلحظُ أنهُ من أكثرِ الشُّعراءِ الذين «احتفُوا واحتفلُوا «بالموتِ فى نصُوصِهم، هل لأنه شهد فقْد أصدقائه الكبار فى مسيرتهِ وهم كثرٌ، ثم الفقد العائلى خصوصًا الأب، ثم الوجع الشَّخصى، حيث رأى الموت مُجسَّدًا أمام عينيه سواء أكان موجُودًا فى مصر أم فى خارجها، وبوصفه مُقاومًا عنيدًا، كان يرى أنه سيجابهُ، ويقدرُ على المُواجَهة، ربَّما لأنه كان عائشًا طَوالَ الوقت فى حماسةِ الحُلم له أو للآخرين.

فأشرف عامر كان مُؤرَّقًا بالموتِ مهجُوسًا به، 
مشغُولًا بجدليةِ الموتِ والحياة، قلِقًا لا يكُفُّ عن الحركة، لا يعرفُ أن يعيش ساكنًا :
« عندما يمُوتُ الإنسانُ
أشياؤهُ تموتُ:
قميصُهُ الأبيضُ
وقميصُهُ السَّماويُّ الفاتحُ
معطفُهُ البنيُّ السَّميكُ
وحمَّالة «البنطالونات»
نظاراتُهُ
دفاترُهُ وأوراقُهُ المُرتَّبةُ بعنايةٍ
فلاترُالغليون
بقايا زُجاجةِ العِطْرِ
مِنشَفةُ الوجهِ الخاصةِ بهِ
وأمواسُ الحلاقة». 

كانت هى المرَّة الأولى التى أذهبُ فيها إلى المركز الطبى العالمى (وهو مستشفى عسكرى مصرى يتبعُ إدارة الخدمات الطبية للقوات المسلحة المصرية، يقعُ فى الكيلو متر اثنين وأربعين على طريق القاهرة - الإسماعيلية الصحراوى بمدينة الشروق فى محافظة القاهرة، على مساحة حوالى تسعةٍ وخمسين فدانًا)، انتظرتُ حتى جاءتِ السَّاعةُ الثانية عشرة ظُهرًا وهو موعد الزيارة المُخصَّص له ساعة واحدة فى العناية الفائقة أو المركَّزة أو قسم الحالات الحرجة، دخلتُ صامتًا  منكسِرًا، لم أتكلم كلمةً واحدةً، إذ حدستْ رُوحى أنَّ رؤية أشرف عامر فى هذه الصُّورة كفيلة بحبس الكلام، بكيتُ، وكانت زوجته أمل الشَّريف، وشقيقته جيهان عامر تحثَّانه على النهُوض من فراش «نزيف المخ»، الذى أدركَهُ بغتةً، وهو الذى لم يُمهِّد للرحيل، سوى فى شِعْره بوصفِه رائيًا، كانت الأجهزةُ الطبيَّةُ تقولُ إنَّ كلَّ شيءٍ فى سبيله إلى التوقُّف إلَّا القلب، الوحيدُ الذى كان يعملُ بكفاءةٍ عاليةٍ على الرغم من أنه موجُوعٌ هو الآخر، الطبيبُ قال إنَّ أشرف:fighter مقاتل.

خرجتُ والتقيتُ ابنه خالد عامر – وهو زميلٌ صحفيٌّ – كان أشرف يفرحُ لأنَّنى أتابعُ برامجَه الرياضيةَ التى يقدِّمُها فى التليفزيون، ويقولُ له : حسِّنْ من أدائك، لأنَّ أحمد الشهاوى يتابعُك، أمضيتُ معه نحو ساعةٍ، واتفقنا على نشر مخطوط ديوانه الذى اختار له عنوان- ويا للمُفارقة الغريبة - «الساعات اللى باقية».

ذهب أشرف إلى مقبرةٍ جديدةٍ فى مدينة العبور، سيكونُ أولَّ من يُدفنُ فيها، كأنهُ يقولُ: أنا الأولُ، سأجرِّبُ الوحدةَ فى الظلام، وسأسألُ الموتَ عن أسمائهِ المُستعارةِ، ووجُوهِهِ الغامضة، وأتلُو عليه مقطعًا من قصيدتى «الرِّهان» من ديوانى «كأنه يعيش»:
«كان الملكُ يموتُ فى جنوبِ الرقعةِ
قبل أن يأتيَهُ العونُ من الشَّمالِ المُراوغ.
وقد كنت كذلك
أيها الجنُوبيُّ المشرقُ
بلونِ احمرارِ الشَّفقِ
لا تَمَلُّ الرِّهانَ على الأصعبِ
حتى وأنت داخلٌ إلى غرفةِ الحالاتِ الحرجة
راهنتَ على الأصعبِ
ورفعتَ قدمَكَ اليسرى، بشكلٍ تلقائيٍّ
فى وجهِ العالم
قبل أن يُقفلَ عليك آخرُ الأبوابِ
وترحلُ..
راهنتَ على الأصعبِ
وفى تلك المرَّةِ أيضًا
لم تفزْ
فلم يفهم أحدٌ أنك كُنتَ
بهذا الوضْعِ
تعترض».
يحضرُ خطابُ الموت كثيرًا فى شِعر أشرف عامر، فهو يدركُ أنَّ تجربة الموت دفعتْ شُعراءَ كثيرينَ قبله أن يرثُوا أنفسَهُم فى نصُوصِهم، وأشرف فى هذه النصُوص الرثائية يلعبُ كقطٍّ  «مع ظلالِ الأشياء»، التى هو مُشبعٌ بها، من دُون أن ينسَى المتْنَ، أو يُهْمِلَ الجوهرَ، الذى هو أصلُ الأشياءِ ومُسيِّرها.

فى ديوان أشرف عامر «كأنه يعيشُ» - كما فى كل شِعرِه - تأتى الكتابةُ عفويةً سلسةً؛ يدفعُها حلمُهُ الفطريُّ خصُوصًا أنه لا يحبُّ أن يكون فى جوٍّ عدائيٍّ

«يكرهُ الشِّعر».كما أنَّ الشَّاعر يرفضُ «الخروجَ من هذا العالم/قبل أن نضيفَ إليه بصمةً تخصنا». ومن المفاجئ لى وأنا أعيد قراءة ديوانه «كأنه يعيش» يختتم الديوان بـ«ورقة من سِفر الغياب» فيقول لنا:
«تذكَّرونى وأنا أضحك
وأنا أمازحُكُم
لا تحزنُوا لغيابى
لا تجعلُوا ذكراىَ
كالجبلِ الثَّقيلِ فوق صدُوركم».
أما كان للوقتِ أن يُبْقِيكَ كيْ تفُكَّ أسرَاكَ وأسرارَكَ يا أشرف؟