ياعم نجيب .. صحيح إننا مازلنا نذكر مقولتك الشهيرة : “ آفة حارتنا النسيان “؛هذه المقولة التي امتطاها ــ كفرس الرهان ــ البعض ممَّن تعاملوا مع “فعل الكتابة” في عالم الرواية والقصة؛ وربما أخذها في المجاز بعض الشعراء على سبيل “أكل العيش”؛ أو للتشدق بأنهم قرأوا ودخلوا “ بالرِّجل اليمين” في عوالمك المليئة بخفايا الحواري الخلفية في مصرنا المحروسة ــ وقاهرة المعز بخاصة ــ؛ حيث امتشقت قلمك وكأنه مبضع الجراح الماهر ــ في تعرية بعض شخوص المجتمع من السادة والأعيان والحرافيش؛ واستطعت اقتحام عالم المرأة وكشف ما وراء الحُجب والستائر المخملية .. والجدران !
ولكنك ــ بالتأكيد ياعم نجيب ــ كنت تقصد النسيان لألاعيب السياسة والسياسيين؛ والقابعين على أبواب السلاطين من الأمشجية والشماشرجية ولاعقي عتبات أصحاب النفوذ والسلطان !
ولكن اسمح لي أن أقول لك ــ في ذكراك ــ إننا وسط عوالم السياسة وألاعيبها؛ لم ننسك ــ ولن ننساك ــ؛ فأنت بعقلك وروحك ونتاجهما الغزير؛ تم تنصيبك ملكًا متوجًا للحرافيش وقائدًا لكتيبتهم المسلحة بحُب الوطن وإيمانًا بقدَره وقدراته؛ وهذا لم يكن من فراغ؛ بل لأنك تحصَّنت بالنظرة الثاقبة الواعية لكل أمراض ومشاكل المجتمع بعوالمه الخلفية؛ فجعلتك في ذاكرة كل مصري وعربي يحمل في جيناته كل الموروث الثقافي والمعرفي والحضاري لأمتنا العربية؛ ولم نكن ـ أبدًا ـ محسوبين على عالم النسيان !
ياعم نجيب ..
لقد شرُفت بالحديث إليك في عالمك السرمدي من خلال سطوري الفائتة؛ لنقول لروحك : نحن مدينون لك بكل هذا البهاء والنقاء الذي تركته إرثًا حلالاً بلالاً للأجيال الحاضرة والمستقبلية .
والآن دعني أتحدث عنك وعن إبداعاتك مذ خرجت إلى الحياة وسط عائلة متوسطة الحال؛ فقد كان ذلك الميلاد في الحادي عشر من ديسمبر للعام 1911وسط قاهرة المعز التي افتُـتن بها ومَلَكَتْ عليه عقله وروحه؛ وقامت بتشكيل وجدانه ومشاعره؛ بل ذُاب فيها عاشقًا متيمًا وراصدًا بقلمه لتاريخها العظيم؛ ومصورًا بحروفه الماسية لكل منمنمات مبانيها العتيقة التي نكاد نشم بين أحجار جدرانها عبق التاريخ؛ ونشعر في داخلنا ـ من وقع الكلمات والحروف ــ برهزات الميلاد والموت؛ وراصدًا أمينًا لأحوال العباد الذين يقطنون فيها ويعيشون ويموتون تحت أسوارها العالية؛ ولتشهد مدرسة الأزهر الشريف مراحل طفولته الأولى؛ وتشهد له جامعة القاهرة بحصوله على ليسانس الآداب في العام 1934.
ولكن هذا العملاق كان يسابق الزمن ؛ليبدأ ممارسة “فعل الكتابة “ في سنٍ مبكرة؛ لتشهد مجلة “الرسالة “ على صفحاتها في العام 1930 سطور أول قصة قصيرة من تجلياته؛ ولتشكل إصداراته الأولى في فترة الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي؛ مرحلة مهمة وجريئة في تطور الرواية العربية المعاصرة .
لقد تحول محفوظ إلى كاتب مشهور بعد نشر روايته الشهيرة “الطريق” في عام 1954. وتدور الرواية حول حياة رجل مصري يعيش في ضواحي القاهرة؛ وتعرض الرواية للعديد من الموضوعات المتعلقة بالحياة الاجتماعية والسياسية في مصر في الخمسينيات؛ ورصد دقيق لأحوال المصريين بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها؛ وتأثيرها على خلق إرهاصات الإحساس الجمعي بضرورة التخلص من ربق الاستعمار ونيل الاستقلال والتحرير .
فقد منح العقل والفكر العربي؛ العديد من الروايات؛ نذكر منها ـ على سبيل المثال لاالحصر ــ : الحرافيش،أولاد حارتنا, حضرة المحترم، حديث الصباح والمساء، ثرثرة فوق النيل، ليالي ألف ليلة، بين القصرين،السكرية،قصر الشوق، خان الخليلي، الشحاذ، بداية ونهاية، الحب فوق هضبة الهرم،الكرنك، السراب، السمان والخريف، زقاق المدق ....إلخ؛ لينتشر منتوجه العقلي المتفرد في أرجاء العالم الحديث؛ وليزاحم عن جدارة واستحقاق كل الكتَّاب من السابقين والمجايلين له؛ ليأتي الحصاد بعد ثمانٍ وخمسين عامًا من نشر قصته القصيرة الأولى بمجلة الرسالة؛ ليحصل على “جائزة نوبل” في الأدب في العام 1988؛ ليكون هو أول عربي يحصل على هذه الجائزة الرفيعة في عالمنا المعاصر .
لقد فرضت إبداعات نجيب محفوظ نفسها على عالم الأدب شرقًا وغربًا؛ فقد كان مائزًا بأسلوبه الأدبي العميق المتأمِّل في تصوراته للحياة والموت بطريقة فلسفية وروحانية.
اشتهر نجيب محفوظ بأسلوبه الأدبي العميق والمتأمل؛ وفي قصصه القصيرة، يتصور الحياة والموت بطريقة فلسفية وروحانية؛ واستطاع أن يستكشف في قصصه العديد من قضايا العائلة والانتماء بتصويره الدقيق للشخصيات والتغلغل في أعماقها الروحية؛ واستبيان كيف تؤثر عوامل الزمان والمكان فيها حيث تلعب الدور الرئيس في رواياته؛ مستخدمًا تقنياته وتجلياته في الاستعانة بالرمزية؛ لينقل إلى ذهن المتلقي فكرته حول الشيء الوحيد الثابت في مسيرة الحياة .. وهو الموت ! هذا الموت الذي شرب كأسه في الثلاثين من أغسطس للعام 2006؛ ليحمل على ظهره مشيَّـعًا إلى عالمه السرمدي الأخير عمرًا يناهز 94 عامًا؛ ولنقف اليوم في ذكرى رحيله السابعة عشر؛ دقيقة حدادًا على روحه في عليين .. عند مليكٍ مقتدر؛ ليمنحه الثواب والعقاب على مسيرته التي حاربه فيها شراذم من غلاة التطرف العقائدي ومحاولتهم الفاشلة لاغتياله وتصفيته جسديًا ومعنويًا؛ هذا التطرف الذي استشرى في مرحلة من المراحل التي مرت بها مصرنا المحروسة؛ حين حاول “ بعض الحكَّام “ والتابعين من فلولهم فرض وتطبيق مايرونه من أفكار لاتمت إلى الدين والعقيدة بأية صلة؛ إلا صلة الإرهاب والدم؛ لمحاربة جيوش التنوير والتقدم في عالمنا المعاصر .
وأخيرًا .. آثرت أن أتحدث عن بعض ملامح الحياة الشخصية للعملاق نجيب محفوظ ؛ وتأثير الحياة داخل المجتمع المصري على تكوينه وتوجهاته ومعتقداته؛ دون الولوج إلى تناول إبداعاته بالتحليل والنقد الأدبي ــ وربما يكون لنا لقاءٌ آخر في هذا المجال ــ لتعريف الأجيال بقصة كفاح هذا الرجل؛ وكيف انحنت له رءوس كل دور النشر العالمية بالتحليل والترجمة إلى كل اللغات الحيَّة .
ودعوني أكتفي ببعض العبارات الخالدة التي وردت في بعض رواياته وقصصه ؛ قال نجيب محفوظ عن الحُب ومعانيه :
ــ لا معنى للحب دون إخلاص، صدق، وقليل من جنون .
ــ عندما تغضب المرأة تفقد ربع جمالها ، ونصف أنوثتها، وكلّ حبها!
ــ الأنثى لا تحب التوسط في العلاقة، إمّا أن تكون لها كل شيء أو لا شيء .
ــ إذا كانت ثمرة الحب ناضجة فاقطفها بلا تردد، فإن حكمة الدنيا لتذوب حسرةً على ثمرة حب ناضجة يزهد فيها الإنسان !
والآن .. أعود إليك ياعم نجيب؛ لأقول لك : صحيح أن “آفة حارتنا النسيان “؛ ولكننا لاننسي الشخصيات المؤثرة التي أثرت العقل والوجدان والإحساس الجمعي المصري والعرب والعالمي بكل مايقوم بتعزيز وتقوية الحب والانتماء لتراب الوطن .. والإنسان ! أرجو بمقالي هذا وبجيراني من الأقلام الهاتفة بمشوارك العظيم نكون قدعززنا مقولة..آفة حارتنا..تذكر العظماء!