«الوفاء».. قصة حب المصريين لنهر النيل| الاحتفاء به تحول لركن أساسي في الأدب الحديث

كتاب النيل في عهد الفراعنة والعرب
كتاب النيل في عهد الفراعنة والعرب

■ إشراف : حسن حافظ

في أغسطس من كل عام، يحل الاحتفال بنهر النيل، ففى هذا الشهر تصل مياه الفيضان الجديدة وترمى بالطمي على أرض مصر السوداء، فتبدأ دورة الحياة فى صحراء جعلها النيل واحة خضراء باسم مصر، ورغم أن السد العالى نظم حركة الفيضان وروّض جريان النهر، فإن هذا لم يمنع من استمرار الاحتفال بوفاء النيل، فمصر بدون النيل صحراء، والنيل دون مصر يجرى حتى يلقى بخيره فى مياه البحر.

لم يكن غريبا أن يكون الاحتفال بالنيل الثابت فى حياة المصريين منذ العصور القديمة مرورا بالفترة الإسلامية وصولا إلى العصر الحديث، ورغم أن مصر دخلت مرحلة الشح المائى، فلا يزال النيل مصدر المياه الأول وشبه الوحيد لملايين المصريين، ولا يزال المعجزة الكبرى التى تستحق كل تقدير واحتفال واحتفاء.

◄ احتفالات القدماء تحولت إلى أسطورة عروس النيل

النيل الذى يتعامل معه البعض الآن بجهل وقلة احترام، كان محل تقدير وتبجيل المصري القديم، فهو المعبود حعبى أو حابى؛ أبو الآلهة، الذى تفنن المصرى القديم فى تبجيله وتقديم آيات الخضوع له، فهو يدرك جيدا أن حياته مرتبطة بفيضان النيل، لذا كانت الاحتفالات بنهر النيل أمرا معتادا ومعروفا، وذكر المؤرخ الروماني بليني الأكبر الاحتفالات بالنيل قائلا: «إن المصريين يقدمون الغذاء للتماسيح، ويلبسونها بعض الثياب فى وقت الفيضان ويلقونها فى النيل فتبدو ألوان الثياب الناصعة فى منظر بهيج يروق للناظرين». ويقول أنطون زكرى، الباحث الأثرى فى كتابه (النيل فى عهد الفراعنة والعرب): «والذى لا شك فيه أن كل الاحتفالات الخاصة بالمهرجانات التى تقام لفيضان النيل سنويا، كانت بمنزلة فريضة دينية يحترمها الناس كاحترامهم للنيل، وكان رؤساء النيل يقيمون لها الزينات المعتادة للأعياد العامة».

◄ «سيد الأنهار».. اللقب الذي أطلقه العرب عليه

◄ سيد الأنهار
الاهتمام بنهر النيل لم يتوقف بعد دخول الإسلام مصر، بل زاد وأصبح للنهر الخالد مكانة أساسية فى تقدير حياة أو موت مصر وأهلها، ومنذ اللحظة الأولى التى تقابل فيها العرب مع النيل، عرفوا له قدره وتعاملوا معه باحترام وتبجيل زائد، فقال عنه عبد الله بن عمرو بن العاص إنه «سيد الأنهار»، بينما قال المؤرخ والجغرافى المسعودى إن «نهر النيل من سادات الأنهار وأشراف البحار، لأنه يخرج من الجنة»، وانتشرت مقولة عن النيل بأنه «نهر مبارك الغدوات، ميمون الروحات»، ولولع المسلمين بالنيل، أن جعلوه من أنهار أهل الجنة، إذ رددوا الأسطورة التى تقول إنه ينبع من الجنة مباشرة، هذا على الرغم من معرفة الجغرافيين المسلمين أن منابع نهر النيل تقع فى الجنوب خلف خط الاستواء، لكن المدهش أن قدماء المصريين كانوا يعتقدون فى وجود نيلين واحد أرضى وآخر سماوى موجود فى الحياة الآخرة.

◄ المسلمون تحدوا الأساطير حوله بخطاب عمر

مكانة النيل ولّدت الكثير من الأساطير حوله فى الحقبة الإسلامية، ربما تكون أشهرها تلك القصة التى رواها المؤرخ الإخبارى عبد الرحمن بن عبدالحكم، إذ تروى كيف جاء أهل مصر إلى عمرو بن العاص وقد تأخر فيضان النيل، فقالوا له: أيها الأمير، إن لنيلنا هذا سنة لا يجىء إلا بها. فقال لهم: وما ذلك؟ قالوا: إنه إذا كان لثنتى عشرة ليلة تخلو من شهر بؤونة، عمدنا إلى جارية بكر من أبويها، فأرضينا أبويها، وجعلنا عليها من الحلى والثياب أفضل ما يكون، ثم ألقيناها فى هذا النيل.

فقال لهم عمرو: إن هذا لا يكون فى الإسلام، وإن الإسلام يهدم ما قبله. وأرسل يستشير الخليفة عمر بن الخطاب فيما يصنع، فرد الأخير برسالة وطلب إلقاءها فى النيل، وكان نصها: «من عبد الله أمير المؤمنين، إلى نيل مصر. أما بعد، فإن كنت إنما تجرى من قبلك فلا تجرِ، وإن كان الواحد القهار هو الذى يجريك، فنسأل الله الواحد القهار أن يجريك». فألقى عمرو بالرسالة فى النيل فجرى الماء وبطلت هذه العادة. ورغم الطابع الأسطورى لهذه الرواية إلا أنها سكنت سريعا فى الذاكرة الشعبية وعُرفت باسم قصة عروس النيل، التى رسخت أكثر مع فيلم سينمائى يحمل نفس الاسم من بطولة رشدى أباظة ولبنى عبد العزيز إنتاج 1963.

◄ الفراعنة قدسوا واهب الحياة في صورة الإله حابي

ويفند أنطون زكري أصل أسطورة عروس النيل، إذ يقول: «لا نعثر على نص مصرى يؤيد ما نُسب إلى قدماء المصريين عن تقديمهم ذبيحة بشرية فى حفلة فيضان، أو لأجل أن يجود النيل على البلاد بفيضه السنوى. ويظهر أن منشأ هذه الخرافة قصة رواها بلوتارك، المؤرخ اليونانى، وتناقلها عنه غيره من قومه، ومن الرومان ومن العرب؛ إذ قال: اعتمادًا على وحى أجيبتوس ملك مصر قدم ابنته قربانًا للنيل ليخفف غضب الآلهة، وأنه بعد فقد ابنته ألقى بنفسه فى النيل.

فهذا القول هو أصل الاعتقاد بتقديم فتاة عذراء قربانًا للنيل المعبود كل سنة، ويكفى أن البداهة الذوقية تُكذب هذا الزعم، بعد العلم الراسخ بما كان للمصريين من القدح المُعلى في المدنية، ورقة الشعور، وسمو العواطف حتى مع الحيوانات العجم، فبالأولى تشمئز سجيتهم عن إلقاء فلذة كبد من أكبادهم فى مجرى المياه المتلاطم الأمواج، التى لا تبقى شيئًا من إرهاق النفوس واختطاف الأرواح من أجسادها، ولم يكن هناك أقل نسبة عقلية بين اقتراف هذا الجرم وانخداع النيل بارتكابه». وقد تسبب إلقاء المصريين القدماء لعروس من الخشب محملة بالحلى كرمز احتفالى لكى يتزوجها النيل الذى رمز له فى الأساطير المصرية بصورة رجل مترف، فى التباس عند الشعوب التى لم تفهم سر الاحتفال المصرى فأطلقوا الشائعات وظنوا أن العروس الخشبية هى فى الحقيقة عروس بشرية.

◄ فتح الخليج
بعيدًا عن أجواء الأساطير، فإن الاهتمام بنهر النيل لم يتوقف على المستوى الرسمى، ففي مناسبة وصول الفيضان الجديد كل عام كانت تقام احتفالية كبرى يشارك فيها حاكم مصر لم يختلف الأمر بين مصر القديمة ومصر الإسلامية، فلدينا سجل شبه كامل لاحتفالات الحكام المسلمين ذكره لنا المؤرخون المصريون على مدار أكثر من تسعة قرون، وكان هذا الاحتفال يعرف باسم كسر الخليج أو فتح الخليج، احتفالا بوصول مياه الفيضان الجديد للخليج الذى يغذى العاصمة المصرية بالمياه، وقد أسهب المقريزى فى كتابه (المواعظ والاعتبار فى ذكر الخطط والآثار)، فى ذكر الاحتفالات الفاطمية والمملوكية فى هذا الاحتفال الذى يعد ضمن احتفالات أكبر تعرف باسم وفاء النيل، وعن الأخير يقول المقريزى: «ولوفاء النيل عندهم قدر عظيم، ويبتهجون به ابتهاجا زائدا. وذلك لأنه عمارة الديار، وبه التئام الخلق على فضل الله، فيحسن عند الخليفة موقعه، ويهتم بأموره اهتمامًا عظيمًا أكثر من كل المواسم»، ولم يقتصر هذا الاهتمام على خلفاء الفاطميين بل استمر حتى أيام سلاطين المماليك، فتواصلت الاحتفالات بعيد وفاء النيل طوال هذا العصر، ومنه إلى العصر العثمانى وإن كان ببهاء أقل، وصولا إلى العصر الحديث.

كما نجد الكثير من الكتب المخصصة لنيل مصر منها: (فوائد شتى فى زيادة النيل ونقصه على الدوام) لعلى بن رضوان (المتوفى سنة 460هـ/ 1068م)، و(أخبار نيل مصر) لشهاب الدين الأقفهسى (المتوفى سنة 808هـ/1406م)، و(نيل الرائد فى النيل الزائد)، لشهاب الدين الحجازي (المتوفى سنة 875هـ/ 1470م)، و(الفيض المديد فى أخبار النيل السعيد) لابن عبد السلام المنوفى (المتوفى سنة 931هـ/ 1524م).

وقد ذكر النيل فى عشرات المصادر الإسلامية سواء كانت كتابات المؤرخين المصريين أو الرحالة أو الجغرافيين، وأحصى معظم هذه الأعمال الدكتور محمد حمدى المناوى فى كتابه الرائع (نهر النيل فى المكتبة العربية).

وقد تواصل هذا الاهتمام بالنيل فى كتابات عصر النهضة فى مصر القرن التاسع عشر، فنجد كتاب (التنبؤ عن ارتفاع النيل قبل ارتفاعه) لمحمود حمدى الفلكى، و(نخبة الفكر فى تدبير نيل مصر) لعلى مبارك، و(تقويم النيل) لأمين سامى، ثم كتاب (نهر النيل) لمحمد عوض محمد مؤسس المدرسة الجغرافية فى الأكاديمية المصرية، ونجد ملمحا مهما فى كتاب (سيد الأنهار) للدكتور محمد محمود الصياد، فعلى الرغم من تخصصه الأكاديمي كأستاذ للجغرافيا، إلا أنه فضل كتابة كتابه بأسلوب أدبى لا يشق له غبار ليمزج ما كُتب فى العصور القديمة والوسطى بالمنهجية الحديثة في بناء أدبي يشكل خلاصة هذه الرحلة الطويلة من الكتابة عن نهر النيل، رمز الخلود فى الوجدان المصرى، كما كتب ابنه الدكتور نزار الصياد، المؤرخ العمرانى العالمى، كتابا عن النيل وأشهر المدن التي قامت على ضفتيه بعنوان (مدن وحضارات على ضفاف نهر)، فيما يعد كتاب (نهر النيل) لأحمد السيد النجار أحدث الكتب الصادرة عن النيل، ويتتبع فيه تاريخ النهر وصولا إلى الأزمة المصرية الإثيوبية.

◄ ثرثرة فوق النيل
ودخل نهر النيل الأدب المصري الحديث من أوسع أبوابه، فهو مكون التراجيديا الكبرى للمصريين، لذا لم يكن غريبا أن يبدع الشعراء الكبار فى تقديم القصائد فى مدح النهر كعابد يقدم القرابين لمحبوبه، فنرى قصائد لشوقى وحافظ ومحمد حسن إسماعيل وعلى محمود طه وغيرهم الكثير من الشعراء، كما كتب أدباء روايات تدور فى النيل أو فى عالمه، مثل رواية (ثرثرة فوق النيل) لنجيب محفوظ، و(عصافير النيل) لإبراهيم أصلان. فرغم كل شيء لا يزال النيل يجرى ويشق حياة المصريين ويذكرهم بأمجاده وأنه لازال مفتاح الحياة للمصريين، فعلى الجميع سواء كانت الحكومة أو المجتمع المدنى أن يعملوا على استعادة الاحتفال بالنيل وعيد وفائه ليكون عيدا وكرنفالا لجميع المصريين يعاد فيه الاحتفال بتاريخ طويل صاحب المصرى فيه النيل الوفى، النهر الخالد.