إن المتابع لبعض عادات المصريين ــ وهم اهل الثقافة والعلوم والمعارف ـ سيكتشف بعض المفارقات الطريفة في أسلوب لغة التعامل اليومي؛ فمثلاً .. عندما تتحدث مع احدهم عن “ الفول”؛ ستجده يُحدثك ــ تلقائيًا ــ عن “ الطعمية “ او “ الفلافل ـ بلغة حبايبنا الإسكندرانية؛ وإذا ماحدثته عن المذاهب الاقتصادية وتطرقت إلى “ الرأسمالية” سيبادرك بالحديث عن “ الاشتراكية”؛ وفي عالم السياسة إذا ماحدثته عن الزعيم “جمال عبد الناصر” فإنه سيسهب فورًا في الحديث عن الرئيس “ أنور السادات”؛ وبافتراض ان الحديث كان عن عالم “ كرة القدم” وتطرقت إلى الحديث عن “ النادي الأهلي” سيكون الرد الفوري بالحديث عن “ نادي الزمالك” !
ولعلي أدخل في تلك المقدمة .. لنأتي إلى “ مربط الفرس “ فإذا ماحدثتك عن عالم “السينما”؛ فسيكون الرد الفوري المتوقع ـ والطبيعي ـ عن عالم “ المسرح “ أبو الفنون ؛ وهذا عين القصد من حديثي اليوم ! ودعني أبادرك ـ انا ــ بالحديث عن الحدث الفني الرائع الذي دار على أرض القاهرة عاصمة الفن والفنون في عالمنا العربي؛
وهو “ المهرجان القومي للمسرح المصري” .
فهو الحدث الفني الذي تقيمه وتشرف على فعالياته وزارة الثقافة المصرية؛ ويُعد أكبر ملتقى مسرحي على مدار العام؛ لأنه يضم أفضل العروض التي قدمت خلال العام من المؤسسات الثقافية المختلفة على مسارح الدولة والقطاع الخاص؛ وهو أحد أهم الأنشطة المسرحية التي تحتضنها مصرنا المحروسة؛ في احتفالية لحصاد عام كامل للسنبلات التي اخضوضرت ونمت وترعرعت في حقل المسرح المصري .
وبالرغم من المنافسة الشرسة من قبل منتجي قطاع السينما .. من حيث امتلاكهم لكل الإمكانات والأدوات الحديثة التي تتمتع بما أفرزته علوم التكنولوجيا المتقدمة؛ علاوة على إقبال الفنانين على التعامل مع الشاشة البيضاء كمصدر عالٍ للدخل المادي والشهرة بين قطاعات الشباب والشابات؛ فقد استطاع رجالات المسرح أن يعلنوا عن إقامة هذا المهرجان المسرحي؛ ليبدأ دورته الأولي في العام 2006 برئاسة الدكتور أشرف زكي الذي استمر لمدة خمس دورات متتالية.
والذي يهمني الإشارة إليه في المقام الأول؛ هو أن هؤلاء الرجال المخلصين لقضية المسرح ؛ لم يتحركوا لإقامة هذا الحدث الفني فوق ربوع مصر؛ لمجرد المحاكاة للأجيال السابقة؛ منذ الإدعاء ــ الذي انتشر بين العامة ــ بأن “يعقوب صنوع” ـ الصهيوني ولا أقول اليهودي ــ هو أول من وضع اساس المسرح المصري! ولكن صفحات التاريخ ــ بتصرف ــ تقول : “ إن فكرة المسرح المصري بدأت في العالم بالعصر الفرعوني؛ فقد قدموا فنونًا مسرحية عديدة ومتنوعة؛ وجدناها في النقوش التي ظهرت بمحيط المقابر الفرعونية ؛ واستُمد مصطلح “المسرح” جذوره من كلمة “ثياترون” الإغريقية ـ وننطقها نحن العامة ( تياترو)”؛ وهي التي تعني مكانًا مخصصًا للمشاهدة؛ وصنعه الفراعنة على شكل مدرجات نصف دائرية على منحدر التل ؛ وبالتالي يُعد العصر الفرعوني ـ وربما متزامنًا مع العصر الإغريقي ـ هما من وضعا الأسس العلمية للمسرح “ .
ولم يغب عن ذهن مؤسسي المهرجان القومي الأول للمسرح المصري في العام 2006؛ وضع التصور الأمثل لأهداف هذا المهرجان؛ ليتم تحديدها باستمرارية عرض نماذج متميزة مما قدم في صالات العرض المسرحي في مصر، من أجل تأصيل ملامح المسرح المصري المعبر عن شخصية وهويَّة وحضارة مصر؛ ونشر الرسالة التنويرية الواجبة لبناء الإنسان المصري، وفتح الأبواب لتشجيع المبدعين من فناني المسرح على التنافس الخلاق ــ من مؤلفين ومخرجين ومهندسي الديكور والإضاءة ــ وتحفيز الفرق المسرحية ــ الرسمية وغير الرسمية ــ على تطوير عروضها فكريًا وأدائيًا وتقنيًا من أجل المشاركة في صناعة مستقبل أفضل للوطن .. والمواطن .
واليوم .. نلقي الضوء على الدورة السادسة عشرة لهذا المهرجان؛ والتي انطلقت فعالياته خلال الفترة من 29 يوليو حتى 12 أغسطس 2023 برئاسة الفنان المائز الجاد محمد رياض ومديره الفنان القدير ياسر صادق ؛ وجاءت الدورة حاملة لاسم الفنان المحبوب الملقب بالزعيم عادل إمام .
فقد أعلنت وزيرة الثقافة الفنانة د.نيفين الكيلاني، انطلاق فعاليات الدورة الـ 16؛ وذلك خلال الحفل الذي أُقيم على المسرح الكبير، بدار الأوبرا المصرية ؛ حيث قامت بتكريم 10 من رموز المسرح المصري، هم : صلاح عبدالله، خالد الصاوي، رياض الخولي، أحمد فؤاد سليم، رشدي الشامي، محمد محمود، محمد أبو داود، سامي عبدالحليم، مهندسة الديكور نهى برادة، الكاتب محمد السيد عيد، وذلك بإهدائهم شهادات التقدير ودرع المهرجان، إضافة إلى تكريم أعضاء لجنة مشاهدة العروض .
وقالت : “إن الدورة السادسة عشرة من المهرجان، هي دورة استثنائية، نحتفل من خلالها بِاسم كبير في عالم المسرح المصري والعربي -الفنان القدير عادل إمام-”، وأضافت وزيرة الثقافة: “إن هذه الدورة تُكرم عددًا من نجوم المسرح بمختلف فنونه، تقديرًا لعطائهم الذي أثرى المسرح المصري لسنوات “.
وقال رئيس المهرجان بدوره الفنان محمد رياض : “إن أهمية المسرح تأتي لكونه المُعبر عن الواقع المصري، وقد حمل رايته الكثيرون من رموز الفكر والإبداع، وفي هذه الدورة نحيي رموز المسرح الذين أفنوا أعمارهم في سبيل المسرح، فالمهرجان القومي للمسرح، هو أكبر ملتقى للمسرحيين في مصر، وكان اختيارنا للزعيم عادل إمام لتحمل الدورة اسمه؛ ليس لكونه ابن المسرح فحسب؛ وإنما تقديرًا لمسيرته الفنية والمسرحية الطويلة “.
ووجه رياض الشكر لكل من أسهم في خروج الدورة إلى النور؛ وفي مقدمتهم د.نيفين الكيلاني؛ التي قدمت كافة سُبل الدعم لخروج المهرجان بهذا الشكل، وكذلك كل رؤساء المهرجان السابقين، وفي مقدمتهم الدكتور أشرف زكي - مؤسس المهرجان-، وكذلك قطاعات وزارة الثقافة كافة .
ولقد أسدل الستار على الدورة السادسة عشرة للمهرجان القومي للمسرح المصري؛ وذلك بمسرح النافورة المكشوف بدار الأوبرا المصرية؛ بعد عروض مكثفة وندوات وورش تدريبية على مدى أسبوعين بمختلف مسارح القاهرة وشاهد الجمهور عشرات العروض المتميزة التي طرحت أفكارًا جديدة بأسلوب فني مبدع، وباستخدام أحدث التقنيات؛ مما حوّل المهرجان هذا العام إلى عرس فني وكرنفال شعبي؛ وكان الجمهور هو كلمة السر في نجاح هذه الدورة .وكذلك حالة التفاني الكبيرة التي خيمت على أداءات القائمين على المهرجان وفعالياته شديدة التنوع والخصوبة التفافا حول النجم الجميل محمد رياض الذي استطاع أن يحمل عبئا ومسئولية ليست بالهينة ونجح في مهمته باقتدار ،وكان للجنة التحكيم دور بارز في تقييم الأعمال فلم تخلف أي استياء أو جدل بعد إعلان الجوائز،وختاما اطلق الفنان الكبير أشرف عبد الغفور توصيات المهرجان القيمة وسط حالة من الفرح والغبطة وبخاصة بعد صعود سيدة المسرح سميحة أيوب بكلماتها التي تعد شهادة نجاح دورة هذا العام،وتركتنا نتلهف الدورة القادمة التي ستحمل اسمها بتاريخه الفني المشرف.