خواطر الإمام الشعراوي .. العقل الطبيعى يهتدى للحق

خواطر الإمام الشعراوي
خواطر الإمام الشعراوي

يبدأ الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية 209 من سورة البقرة: «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» بقوله: والزّلة هى المعصية، وهى مأخوذة من (زال)، وزال الشيء أى خرج عن استقامته، فكأن كل شيء له استقامة، والخروج عنه يعتبر زللا، والزلل: هو الذنوب والمعاصى التى تُخالف بها المنهج المستقيم.

 «مِّن بَعْدِ مَا جاءتكم البينات» إنه سبحانه يوضح لنا أنه لا عذر لكم مطلقا فى أن تزلوا؛ لأننى بينت لكم كل شيء، ولم أترككم إلى عقولكم، ومن المنطقى أن تستعملوا عقولكم استعمالا صحيحا لتديروا حركة الكون الذى استخلفتكم فيه، ومع ذلك، إن أصابتكم الغفلة فأنا أرسل الرسل. ولذلك قال سبحانه: «وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً» «الإسراء: 15». لقد رحم الله الخلق بإرسال الرسل ليبينوا للإنسان الطريق الصحيح من الطريق المعوج. والحق سبحانه وتعالى يترك بعض الأشياء للبشر ليأتوا بفكر من عندهم ثم يرتضى الإسلام ما جاءوا به ليعلمنا أن العقل إذا ما كان طبيعيا ومنطقيا فهو قادر على أن يهتدى إلى الحكم بذاته. وفى تاريخ الإسلام نجد أن سيدنا عمر قد رأى أشياء واقترح بعضا من الاقتراحات، ووافق عليها الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ينزل القرآن على وفق ما قاله عمر، وقد يتساءل أحد قائلا: ألم يكن النبى صلى الله عليه وسلم أولى؟ نقول: لو كانت تلك الآراء قد جاءت من النبى صلى الله عليه وسلم لما كان فيها غرابة؛ لأن النبى صلى الله عليه وسلم معصوم ويوحى إليه، لكن الله يريد أن يقول لنا: أن العقل الفطرى عندما يصفو فهو يستطيع أن يهتدى للحكم الصحيح، وإن لم يكن هناك حكم قد نزل من السماء. ولذلك تستفز أحكام سيدنا عمر عددًا كبيرًا من المستشرقين ويقولون: أليس عندكم سوى عمر؟ لماذا لا تقولون محمدا؟ نقول لهم: لقد تربى عمر فى مدرسة النبى صلى الله عليه وسلم، فما يقوله هو، إنما قد أخذه عن النبى صلى الله عليه وسلم، وقد أقر عمر بذلك وقال: (ما عمر لولا الإسلام)، ونحن نستشهد بعمر لأنه بشر وليس رسولاً، ويسرى عليه ما يسرى على البشر، فلا يوحى إليه ولم يكن معصوما. إذن كأن الحق أراد أن يُقَرِّب لنا القدرة على الاستنباط والفهم فنكون جميعا عمر؛ لأن عمر بالفطرة كان يهتدى إلى الصواب، ويقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «نفعل كذا»، فينزل الوحى موافقا لرأيه، فكأن الله لم يكلفنا شططا، إنما جاء تكليفه ليحمى العقول من أهواء النفس التى تطمس العقول، فآفة الرأى الهوى، ولولا وجود الأهواء لكانت الآراء كلها متفقة. . والله سبحانه يبين لنا ذلك فى قوله: « وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ» «المؤمنون: 71». إذن فالحق سبحانه وتعالى يعصمنا حين يُشَرع لنا، فالبشر يضيقون ذرعا بتقنينات أنفسهم لأنفسهم، فيحاولون أن يخففوا من خطأ التقنين البشري، فيقننوا أشياء يعدلون بها ما عندهم، ولو نظرت إلى ما عدلوه من قوانين لوجدته تعديلا يلتقى مع الإسلام أو يقترب من الإسلام. لقد سألونى فى أمريكا: لماذا لم يظهر الإسلام فوق كل العقائد برغم أنكم تقولون: إن الله يقول فى كتابه: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ». ومع ذلك لم يظهر دينكم على كل الأديان، ولم يزل كثير من الناس غير مسلمين سواء كانوا يهودا أو نصارى أو بلا دين؟ قلت: لو فطنتم إلى قول الله: «وَلَوْ كَرِهَ الكافرون» و«وَلَوْ كَرِهَ المشركون» لدلكم ذلك على أن ظهور الإسلام قد تم مع وجود كفار، وظهوره مع وجود مشركين، وإلا لو ظهر ولا شيء معه فممن يُكرَه؟ إن العقيدة التى يكرهها أهل الكفر هى التى تعزز وجود الإسلام. إذن «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون» يدل على أن ظهور الإسلام يعنى وجود كافر ووجود مشرك كلاهما سيكون موجودا وسيكرهان انتشار الدين. وعندما نرى أحداث الحياة تضطر البلاد الغربية عندما يجدون خطأ تقنينهم فيحاولون أن يعدلوا فى التقنيات فلا يجدون تعديلا إلا أن يذهبوا إلى أحكام الإسلام، لكنهم لم يذهبوا إليه كدين إنما ذهبوا إليه كنظام، إن رجوعهم إلى الإسلام لدليل وتأكيد على صحة وسلامة أحكام الإسلام، لأنهم لو أخذوا تلك الأحكام كأحكام دين لقال غيرهم: قوم تعصبوا لدين آمنوا به فنفذوا أحكامه. ولكنهم برغم كرههم للدين، اضطروا لأن يأخذوا بتعاليمه، فكأنه لا حل عندهم إلا الأخذ بما ذهب إليه الإسلام. إذن قول الله: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون» قوة لنظام الإسلام، لا لتؤمن به وإنما تضطر أن تلجأ إليه، وكانوا فى إيطاليا على سبيل المثال يعيبون على الإسلام الطلاق ويعتبرونه انتقاما لحقوق المرأة، ولكن ظروف الحياة والمشكلات الأسرية اضطرتهم لإباحة الطلاق، فهل قننوه لأن الإسلام قال به؟ لا، ولكن لأنهم وجدوا أن حل مشكلاتهم لا يأتى إلا منه. وفى أمريكا عندما شنوا حملة شعواء على تناول الخمور، هل حاربوها لأن الإسلام حرمها؟ لا، ولكن لأن واقع الحياة الصحية طلب منهم ذلك. إذن «وَلَوْ كَرِهَ الكافرون»، «وَلَوْ كَرِهَ المشركون»: معناهما أنهم سيلجأون إلى نظام الإسلام ليحل قضاياهم. فإن لم يأخذوه كدين فسوف يأخذونه نظاما.