هدى الهرمى تكتب : كونشرتو الصمت

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

سكون المكان يجلد ذاكرة صاخبة تتوسّط أريكة فارغة لامرأة باغتها الصمت، الشفاة مُطبقة وناشفة، بالكاد تعاند ترنيمة «كونشرتو الكلارينيت» لموزارت Mozart...أينما وجّهت صوتها المكتوم تخطفه موسيقى «وردة الصحراء». كانت حفلة مكشوفة فى فضاء خالٍ من المعالم لكنه متعرّج فى روحها كأنهار ملتوية، فقط ظلّها كان مسطّحا تماما بعد أن أضناه القحط. لقد هجرت خشبة المسرح باكرا، خانتها حبال الصوت، وانقشعت نبرته فجأة. فقط هاته السمفونية تطبع كومات من الجزر المُلّونة داخلها.. لكن قلبها مُتمسّك بتوليفة اللغة والموسيقى. أما الأرض فقد كانت ترقص. فى الغالب ضاعت تلك الصُّدوع المعقوفة فى حلقها.


كانت مُضطّرة إلى الصراخ حين تنفرد بنفسها لعلّ صوتها ينبت من جديد ويتقّد كما تريد بالضبط، بذات الدرجة التى تلهث فيها. إنها بحاجة لفتح فمها كل مرّة كما لو أنها تطرد ضوضاء روحها، إذ لم يكن لها خيار آخر، تواصلها العميق مع صوتها الضائع غير مُتوقّع، رغم أنها تلمس الخوف والخيبة من عجزها عن الكلام. لم تدرك مطلقا أنها تقاوم حياتها الفارغة من النطق ب الموسيقى. كأنها تخدش الصمت بملاقاة ذاتها الغارقة فى نوتة الوجود برمّته. فكان يسحبها نحو صخب مُعمّرٍ فى مصبّات المحيط والممدود بين طبلة الأذن وشريان القلب، كشواطئ متوتّرة على طول المدّ والجزر.

اقرأ ايضاً| كريم على القاهرى يكتب :الرجل الخارق


لقد خيّرت أن تطارد هذا الشعور، أن تبتلعه وترهقه بشكل عجائبى، فلم يشغل بالها طوال سنة من الصمت غير استرجاع هويّتها، نبرة صوتها. لكنّها الآن تغرق فى عوالم الموسيقى وتستحضر أجواء الحفل الفنّى العالمى، الذى أقيم ليلة أمس بكلّ تفاصيله، وكأنّها تتحوّل إلى كائن يجيد الإصغاء بشكل آخر عوضاً عن النطق حتى لا يتبدّد الضوء المعاكس فى إحدى الزوايا المعتمة، وتتلاشى صورتها المُشعّة والشفّافة،لكنّها فى ما مضى تعلّمت أن تتحدّث إلى نفسها، وتتفوّه بكلمات تتنشّقها ثم تحتسيها فى جرعة واحدة.


كانت تلك المحاولة كافية لتشعر بأنّها لن تتوقّف عن استعارة الكلام أو تتهاون فى رصد ترنيمة موسيقية تخوضها بعزيمة، فتجلس على المقعد ثمّ تفكّر فى احتمال واحد :
«هذا الصوت الضائع سيعود لا محالة». لقد جعلت من هذا التّبصُّر جرعة أمل متسمّرة بلا حراك فى روحها.
نفضت الغبار عن الأريكة ثم فتحت النافذة فى الجهة الخلفيّة للبيت الصغير المحاذى للبحر تماما. لقد استأجرته من أسابيع قليلة لتخلو إلى نفسها دون فقدان التواصل مع والديها عن طريق السكايب، بعد أن أكدت لهما أن انتقالها هنا ليس سوى لفترة مؤقتة لا أكثر، لم ترغب أن تظلّ حبيسة أكثر بالغرفة، كانت تريد أن تستمتع بالمشهد البحرى، كما أنها تعشق السباحة بمعزل عن رُوّاد الشاطئ المُتطفلّين، وقبل أن يحلّ فصل الصّيف قريبا ويسلبها هذه المتعة.


الشاطئ ملىء بالحصى والقواقع التى تحملها الأمواج وبات جذّابا أكثر من أى وقت. نظرت حولها فشدّت انتباهها صدفة كبيرة الحجم بشكل معقّد. تساءلت عمّا إذا كانت فارغة من الكائن الرخوى الذى يسكن داخل هذا الجسم الصلب، وبحكم هوسها بالأصداف وعالم المحيطات، تأكدت أنها قوقعة الشانك المقدس أو الشنكا التى تتميّز بألوانها الزاهية وأشكالها الساحرة، إضافة الى استعمالها فى المجال الموسيقى بعد أن يتم دقّ رأسها. لكنّ شعورا غريبا انتابها فجأة.


أزاحت حبّات الرّمل عن الصدفة ثم ملأتها بماء البحر كى تتأكد من خلوّها. نشّفتها بمنديل ناعم كان بحوزتها. لقد استحوذت عليها رغبة عارمة فى النفخ بالصدفة ومحاولة سماع صوتها عوضاً عن ضوضاء المحيط. إنها تعلم جيّدا «أن الصدف مثل آلة النفخ يحتوى على مجموعة من الترددّات الرنّانة حيث يهتزّ الهواء داخل الغلاف بقوّة أكبر». هذا ما خبرته من خلال اطلاعها على دراسة قام بها عالم بريطانى بجامعة أوكسفورد.


شعرت بقشعريرة مع اقتراب الغروب، وأدركت على الفور أنه الوقت المناسب لسماع صوتها، فإذا ما ذهب إلى هناك حيث المحيط الشاسع وعاد فعلا من خلال الشنكا، فسيغدو كائنا مقدّسا فعلا. لطالما شعرت أنها عديمة الصدى مثل غرفة صامتة عازلة للصوت، كما لو أنّ روحها مُعلٌقة على الخطاف لتجفّ، حين تكتفى بتصوّر جوقة من المُصّفقين أمامها مباشرة بينما تشيح ببصرها بعيدا، غير مصدّقة أن صوتها تسرّب منها دون عودة، وهى غارقة فى الأضواء المتقوقعة باتجاهها. 


سحَرها ملمس الصدفة وفتنة شكلها، ويدها الّتى قادتها لهذا الشعور تلتصق بأذنها اليمنى ثم تنزل تدريجيّا لثغرها. تنامى إحساسها الغريب بتبعات ما ستقوم به، وأسرّت إلى نفسها أنها مُعلّقة داخل القوقعة من خلال موجات صوتها. إنه يرتدّ داخل قشرتها ويهتزّ.


فى الخارج كان الهواء مُشبعا برطوبة البحر، لكنه صار ملفوفا بالصدى. لقد اختلط بنبرة مُبتلّة خرجت للتوّ من شفاة مشقوقة، فاخترقت الأفق بعد أن تمكّنت من الإفلات من قبضة الصمت لتعود إلى قعر المحيط... ملاحظة: كونشرتو أو Concerto هى كلمة إيطالية تعنى حفلة موسيقية،«وردة الصحراء» مقتبسة من عنوان الحفل الموسيقى العالمى للموسيقار مالك جندلى.