مؤسسة محمود درويش عن زكريا محمد:صوت قادم من عصر النبوات والمزامير

زكريا محمد
زكريا محمد

عام 2020 منحت مؤسسة محمود درويش زكريا محمد جائزة محمود درويش للثقافة والإبداع، وشاركه فيها كل من المفكر الأمريكى نعوم تشومسكى والشاعر والمترجم المغربى عبد اللطيف اللعبى، وقد كتب البيان الخاص بحيثيات منح زكريا محمد الجائزة، الأكاديمى والمترجم الفلسطينى البارز الدكتور إبراهيم أبو هشهش، وذلك بتكليف من لجنة الجائزة.. وقد جاء فى البيان:


منذ القصائد الأولى التى نشرها زكريا محمد فى الصحف العربية فى أواخر السبعينيات، لفت الانتباه إلى نبرة شعرية جديدة متفردة بعيدة كل البعد عن الأصوات الكبرى السائدة فى المشهد الشعرى العربى آنذاك، بل يمكن القول إن زكريا محمد قد أصبح دفعة واحدة صوتًا شعريًا مكرسًا ومؤثرًا فى مجايليه من الشعراء حتى قبل أن ينشر مجموعته الأولى «قصائد أخيرة» (1981)؛ فقد لاقت قصيدته «اعتذارية»، على سبيل المثال، التى نشرها فى جريدة  الأخبار الأردنية عام 1978، ترحيبًا لافتًا فى الصحافة الثقافية، وظلت موضع تداول نقدى مدة طويلة، وعدها كثيرون إعلانًا عن حساسية شعرية جديدة تفترق عن السائد الحماسى.

اقرأ ايضاً|عبد المنعم رمضان يكتب : مات العابر مثل غيمة

وتجعل الفرد فى بؤرة الاشتغال الجمالى، وهو أمر ما يزال يميز تجربة زكريا محمد برمتها، سواء فى قصائد التفعيلة فى مجموعاته الأولى، أو نصوصه الشعريه النثرية؛ فالصوت الشعرى الفردى يقف فى مواجهة كون واسع بمجراته وفصوله وجماداته وكائناته الحية، وفى الوقت نفسه، يظل  شديد الانغراس فى اليومى، وهو مزيج فذ يمارس دومًا تأثيرا ذهنيًا ووجدانيًا فريدًا شديد الأسر على المتلقى.


إن العلاقة الحميمة بالتراث الكلاسيكى وبالمعجم العربى القديم من جهة، وقوة الاتصال بالموروث الشعبى من جهة أخرى، ورهافة الانتباه إلى الحياة وكائناتها المختلفة من جهة ثالثة، أعطى قصائد زكريا محمد فرادة خاصة يجعلها  كأنها صوت قادم من عصر النبوات والمزامير والمراثى القديمة، فاللغة التى تبدو للوهلة الأولى عارية من أى حمولة بلاغية، ولا تسعى سوى إلى جلاء فكرتها الخاصة، تغدو من خلال قوة الخيال والانعطاف المفاجئ فى الصورة الشعرية - ذات وقع آسر تمتلك قوة مجازية خاصة، فهى نصوص لا تهتم فقط بالصورة المفردة، بقدر ما تركز على الصورة الكلية التى تتآزر فيها جميع عناصر النص من أوله إلى آخر كلمة فيه على إحداث الأثر الكلى للفن، فنصوص زكريا تعيد الاعتبار إلى المفردة الشعرية سواء المتداول اليومى منها أو المعجمى الكلاسيكى، بوصفها وحدة أولى أساسية، يؤدى استخدامها  غير المتوقع فى النص إلى إنتاج رموز جديدة، فترتفع  مفردات يومية مثل الحجر والتراب والليل والنهار والنخلة والغراب والخريف والعصا وأريحا وجبل الأربعين...إلخ، إلى مستوى النماذج البدئية العليا، فيشعر المتلقى كأنه يستمع إلى صوت أول إنسان يترك أثر خطواته الأولى على الأرض  فى زمن البشر السحيق، ويمنح نصوصه بُعدًا أنطولوجيًا وجوديًا فريدًا.


بالإضافة إلى كل ما سبق مما تمثل فى ثمانى مجاميع شعرية نشرها زكريا محمد حتى الآن، وجعلته واحدًا من أبرز الشعراء العرب المعاصرين، ومن الذين وصلوا بالنص الشعرى عمومًا وقصيدة النثر على وجه الخصوص إلى آفاق جديدة غير مسبوقة، فإن زكريا محمد أيضًا أديب شامل متعدد الاهتمامات؛ فهو روائى نشر روايتين هما العين العمياء وعصا الراعى، ومؤلف قصص أطفال مدهشة تكسر السائد وتعيد قراءة الموروث الشعبى من زاوية جديدة خلاقة، وكاتب مقالات فريدة، وباحث فى اللغة والتراث والأسطورة، ورسام ونحات، وشخص شديد الانهماك فى الشأن العام، وبالغ الشجاعة فى التعبير عن رأيه وموقفه، مثلما هو بالغ الشجاعة فى إعادة النظر فى رأيه نفسه إذا بدا له وجه  آخر من الحقيقة.
لكل ذلك فإن اللجنة ترى فى منحه جائزة محمود درويش للإبداع استحقاقًا مسوّغا فى ذاته.