عبد المنعم رمضان يكتب : مات العابر مثل غيمة

زكريا محمد
زكريا محمد

صحيح أننى الآن أحد سكان الطوابق العليا، الطوابق القريبة من السماء، والتى يسميها البعض بجرأة، طوابق الرحيل والفراق، رحيل الخصوم وفراق الأصدقاء، حيث الرحيل أكثر إثارة للحزن لأنه مصحوب بالندم، فيما الفراق مصحوب أكثر بالحنين، هكذا فارقنا زكريا محمد، لم أعد أتذكر متى التقينا بالتحديد، هل فى خاتمة القرن الماضى، قرن الأحلام المغدورة، أم فى فاتحة هذا القرن، الذى يجبرنى سلطان الوقت على تفادى تسميته خشية الأذى، كنا زكريا محمد وأنا مدعوين ضمن شعراء آخرين إلى باريس، ودون تدبير اصطفى أحدنا الآخر، فيما بعد سيتضح لى، أننى آنذاك أدركت علامته التى يحرص عليها، علامته الغالبة، وهى ألا يكون ظلًا لأحد، أن يكون ظل نفسه.

أيام لقائنا فى باريس، عرفتُ منه كيف كان ضمن أول هيئة تحرير لمجلة الكرمل، تلك المجلة التى رأس تحريرها منذ بدايتها الشاعر محمود درويش، فاستنتجت دون أن أصارحه، لماذا لم يستمر، ليس فقط، هكذا قلت لنفسى، لأنه صاحب روح متواضعة وصلبة، تواضعها جعلها أحيانًا مرئية، وصلابتها جعلتها عاجزة عن الانحناء، ولكن أيضًا لأنه صاحب جذور قرر أن يقضي عمره فى التنقيب عنها، والحماسة لكشفها، بالطبع لا يمكن لأحد ممن عاشوا هذه الفترة، أن ينسى أن محمود درويش فى تلك الأيام، وفى كل الأيام، كان نجمًا فى أكثر من سماء، ورغمًا عنه، أى عن درويش، وربما دون اختيار، تعوّد على قبول انحناءات الآخرين، ورغمًا عنه أيضًا، وبسبب تكاثرها، أعنى الانحناءات، استمرأها، ومعه كل الحق، عمومًا فى تلك الأيام، أيام بدايات الكرمل، كان زكريا لا يملك سوى أحلامه، التى أظنها كانت آنذاك ساخنة، سواء حول بذور شعره، أو حول جذور أحلامه، أيامها كان زكريا ينشد لنفسه مثل شاعر جوال:

اقرأ ايضاً|تلَّة صغيرة اسمها الأمل مختارات شعرية لزكريا محمد


حين تبلغ الستين
سوف يجلس حولك الفتية 
كى تقص عليهم حماقات عمرك
أما أنا 
فلا نساء ألقيتهن على العشب
ولا لمعت بالدم سكاكينى
ولا قدماى سارتا فى الأرض البور
فى أرض الغابات
لقد أحببت نساء وجدتهن صدفة فى المرآة
وصدقت رجالًا من أجل حبة (هيل)
لم يعد ثمة وقت
عليّ أن أحطم جرارًا كثيرة
وأن آكل من أكباد الجوارح والطيور
وإلا كيف يمكننى وأنا فى الستين
أن أعطى أولئك الفتية 
كأسًا من خمر تقلب رؤوسهم


هذه القصيدة (خمرة الشتاء)، كانت إحدى قصائد ديوانه (أشغال يدوية)، الذى صادفنى وقرأته قبل أن ألقاه فى باريس، الديوان صدر سنة 1990، وسنة 1990 هى إحدى سنوات الحافة التى انطلق منها الشعر الجديد آنذاك، والناشر هو دار رياض الريس، والدار أيضًا هى إحدى دور النشر الراعية لهذا الشعر، فى لقائنا بباريس ظللتُ محفوفًا بأجواء هذا الديوان، وعندما دعتنا الروائية العراقية إنعام كجه جى إلى غذاء أو عشاء، لا أذكر، أعقبه انتقالنا إلى مقهى شرقى خالص، يديره أو يملكه زوج إنعام، صاحب الصوت الراسخ، والذى يذكرنى بكيف كان صوت زكريا مسكونًا بهدوء صافٍ، وكيف كان صمته مسكونًا بأسئلة خالصة، أما كلامه عما يشغله فقد صدّقته الأيام التالية، بعد باريس لم نتقابل ثانية، كانت أحيانًا تصلنى بعض أخباره، ومنها أنه اعتاد كتابة قصائده عبر صفحته على «الفيسبوك»، أعترف أننى خارج هذه الامتيازات، لذا لم أستطع مطاردة كتاباته تلك، مما أجبرنى على الاكتفاء بالعودة إلى أشغال يدوية كلما رغبت فى التواصل معه، حماستى لديوانه ذلك، أغرتنى ذات مرة بالسعى فى سبيل طباعة أعماله فى مصر، كلمت الصديقة الروائية سهير المصادفة أيام كانت تشرف على النشر فى هيئة الكتاب، فرحبت، أو على الأدق، لم تعترض، غير أن كمبيوتر زكريا صرفه عن الاهتمام بالأمر ساعة عرضته عليه، أظنه وافق، أظنه بعد ذلك تباطأ فى إجابتى، ثم أظنه صمت، كأنما أراد أن يعود إلى ما يريد أن يفعله، بألا يترك وقتًا بين الكتابة والنشر، بأن يجعلهما عملية واحدة، بلغة أخرى أصبح شعره بهذه الطريقة أقرب إلى الشعر الشفاهى، كان زكريا يطارد عفريتين، عفريت البراءة، وعفريت المطابقة بين همومه الثقافية وعودته إلى الجذور، هذه البراءة أجبرت قصيدته على أن تتخلى عن إعادة النظر، تتخلى عن التحكيك، فى سبيل انتصار براءة الكتابة الأولى، كان هذا الهاجس السوريالي يطارده مثلما تطارده دراسته للجذور، لكننى لا بد أن استدرك وأقول، كان زكريا صادقًا، كان قديسًا ونبيًا، لولا أن فمه تراخى بعض الوقت فشنقت النظرية بعض شعره، نعم نعم، ولكننا لا بد أن نشكره، لأنه أجرى التجربة التى سنتعلم منها، لا بد أن نشكره لأنه ذات يوم صدق شعرية «الفيسبوك» وكذّب ما نتداوله زاعمين أن للشعر جناحين، جناح الفطرة وجناح الصنعة، ولا يمكنه، أى الشعر، أن يطير بأحدهما فقط، مازلت أعتقد أن زكريا كان أكثر حرصًا على الشعر، مازلت أظنه أحد دراويشه، لكن ديوانه (كشتبان)، ديوانه الفيسبوكى، ربما خيّب ظنى، خاصة أنه كُتب وكأنه إخلاص وأمانة، كُتب وكأنه شعر سوريالى، مات زكريا محمد وترك لنا دواوينه، الجواد يجتاز اسكدار، ضربة شمس، قصائد أخيرة، أحجار البهت، ومعها أشغال يدوية، حيث سيمكننا أن نرى روحه ترفرف وتهدأ.