زياد خداش يكتب : صاحب حقل اللوز فى رأسه

مع زياد خداش
مع زياد خداش

زكريا محمد، الرجل العنيد والتوحدى. الماشى ببطء والبازغ من المنعطفات فجأة، والباقى على مواقفه. المتجول بمتعة بين التجارب الإبداعية المتنوعة. أتذكر جيدًا المرة الأولى التى رأيتُه فيها. لم أكن أعرف أنه الشاعر الذى عاد من الشتات مع العديد من الشعراء والمثقفين. أتذكر الكلمات التى قلتها لنفسى بصوت مسموع وغير مسموع: «هذا الرجل الغريب بحقل اللوز على رأسه لا يمكن إلا أن يكون شاعراً». وفجأة تطابق التوقع مع الحقيقة، وعرفتُ أن هذا الرجل هو زكريا محمد الشاعر الذى قرأت له كثيرًا. 


حاورته قبل سبعة أعوام، ولم أشعر بمتعة محاورة شاعر كما شعرتُ معه، فهو صريح وبسيط وعفوى. لا يتكلف عبارة ولا يفتعل بلاغة ما. أتذكر أن الفضول حينها كان يقتلنى لمعرفة إذا كان هو من ترك مجلة «الكرمل» التى كان يرأس تحريرها محمود درويش أم هى التى تركته، فأخبرنى بحسم أنه هو من تركها، لأنه كان يود أن يخصص وقتًا أطول للكتابة، وأن درويش لم يعارض حينها ذلك. لازلت أتذكر كلماته: «يصعب عليّ أن أعمل أكثر من أربع أو خمس سنوات فى مكان واحد. أنا حتى، لا أبقى فى بيت أستأجره أكثر من ذلك. فما إن تنقضى المدة حتى أحمل أبنائى مثل القطط، وأنتقل إلى مكان آخر. عندما تأخذنى ألفة مكان ما سرعان ما أقول: الرحيل.. الرحيل».

اقرأ ايضاً| زكريا محمد يكتب : رمية النرد الأخيرة


إنه زكريا محمد، الذى يمارس الاحتجاج والاستياء بجماليات غريبة، كان يقول لى دومًا: «اسمع يا زياد. نحن بحاجة إلى تقوية وتمتين نخبتنا الثقافية. نخبتنا الثقافية ما زالت ضعيفة مقارنة بالعالم، وحتى بالعالم العربى. وحين تكون النخبة ضعيفة يكون إنتاج كل فرد منها ضعيفًا». فهو يرى أن الإنتاج الثقافى إنتاج عام فى النهاية، أى تتحكم فيه قوة النخبة وعمقها؛ فلا يمكنك أن تتوقع عباقرة فى مكان لا يحدث فيه جدال عميق حول كل شىء، النخبة القوية هى التى تنتج العباقرة والأقوياء. وحكى لى أنه فى إحدى السنوات كان فى «مركز خليل السكاكينى الثقافى»، وكان الجدال يدور حول إن كان هذا المركز نخبويًا، فقد كانوا يريدون أن يجعلوه شعبيًا، وكان زكريا محمد ضد ذلك، إذ يرى أن على المركز أولًا أن يعمل على تمتين النخبة الثقافية، ثم بعد ذلك نذهب للناس. 


يسألنى: «كيف يمكننى أن أخوض الحرب فى مجال تاريخ فلسطين مثلًا إذا لم يكن هناك مختصون فى اللغات السامية، وفى اللغة المصرية القديمة، وفى الفخار، وفى البيئة، وفى عشرة علوم على علاقة بالتاريخ أيضًا؟ يا صديقى فى كل رام الله لم أكن أجد أحدًا يستطيع أن يقرأ كلمة هيروغليفية واحدة، بل ولم أجد أحدًا يمكن أن يفيدنى فى فهم كلمة آرامية. فكيف يمكن لى فى هذا المناخ أن أخوض حربًا؟ يجب أن نؤهل النخبة قبل أن نؤهل الناس».


اعتقد كثيرون أن زكريا محمد كان يرفض كل شىء لمجرد الرفض ولا يقدم حلولًا، لكنه لم يكن يعنيه ما يُقال عنه، ولم يهتم بالدافع عن نفسه، والحق أنه لم يكن يخوض معركة من أجل مصلحة شخصية، فهم لا يفهمون كيف أن واحدًا يمكن أن يخوض معركة لله، على حد وصفه.


يكتب زكريا محمد الشعر مثلما يتحدث، كما تقول الناقدة والشاعرة الفلسطينية الراحلة سلمى خضراء الجيوسى فى تقديمها لتجربته الشعرية، فهو يلعب أحيانًا ضد اللغة، كما أنه فى مرات كثيرة رغب فى إذلالها، أى رغب فى جعلها غير بليغة، فالبلاغة عنده بمثابة سُمّ للغة. وفى النهاية، النهاية القصوى، الشعر ذوق. ذوق فقط. لكن من ناحية ثانية، ليس لديه مشكلة فى أن يكتب الحياة كما هى. إنه يستخدم فقط طريقة تجعل القارئ يشعر أنه يتحدث معه ويروى له قصة. 


أمضى زكريا محمد شطرًا كبيرًا من عمره يرى أن الشعر سيده الأول والأخير. كان يقول: «لا يمكن لى أن أخدم سيدين معًا وفى لحظة واحدة». لكنه عندما جاوز الأربعين، أى عندما وصل لعمر النبوة، أحس بأنه حر، وبأنه قادر على فعل أشياء كثيرة. أتذكر أنه قال لى: «لقد فقدت الحياء تمامًا». فقد كان قادرًا على أن يرسم وينحت ويكتب الرواية وقصص الأطفال. وظل يسأل نفسه: «هل كنتُ أخون الشعر بهذا؟ أم أننى كنتُ أفتح منافذ أخرى لمياهه المحشورة؟ هل كنت أخدم سادة آخرين يكرههم الشعر، أم أنه هو من كان يرسلنى لخدمتهم راغبًا راضيًا؟».


أغلب الظن أنه كان يهرب من سطوة الشعر، وصعوبته. فلم يهتم زكريا محمد إذا كان يكتب قصيدة منثورة أم منظومة. لقد نأى بنفسه عامدًا متعمدًا عن الجدال الدائر حول هذه المسألة. فلم يكن يرغب فى أن يقف فى معسكر ضد آخر، وظل يكتب بالطريقة التى يرتاح بها. فكان دومًا مهتمًا بفكرة أنك عندما تخسر الوزن فعليك أن تعوضه بشكل ما. يقول لى: «هناك من يعتقد أن خسارة الوزن أمر هين.. لا يا سيدى.. الوزن، أى الموسيقى بشكل ما، ترتبط بأعماق أعماق الشعر. أنا مهتم بتعويض الخسارة لكى يظل الشعر شعرًا. وأعتقد أن كل شاعر جدى سيفعل هذا».


ظننتُ كثيرًا مثل غيرى أن حياة زكريا كانت حافلة بالمجد والحب والشعر والنضال والآلام، والبطولات الصغيرة التى عاشها فى المنفى، لكنه فاجأنى بقوله: «لم أعش مجدًا ولا بطولات ولا غير ذلك. بإمكانى أن أقول (أشهد أننى لم أعش)، أى عكس ما قاله نيرودا. أنا لم أعش جيدًا. كانت حياتى تفلت منى، فلم أكن قادرًا على السيطرة عليها والاستمتاع بها». لكن تجربة المرض الخطيرة التى تعرض لها قبل سنوات، نبهته أخيرًا للحياة، وجعلته ينشغل بها. الحياة والعمل المثمر، الحياة والحرب ضد الظلم. فقد عاش حياته كلها يعتقد أنه لن يبلغ الأربعين، وظل شبح الموت يطوف فى عقله.


يقول لى بعد تجربته مع المرض: «لن تحس بطعم الحياة الحقيقى إلا إذا مسّك الموت. إلا إذا مس ثعلب الموت بأنفه الرطب خاصرتك. وقد مس خاصرتى وشعرت برطوبة خطمه على لحمى. لكن هذا منحنى إحساسًا أشد بالحياة. ومنحنى التفاؤل. أقول فى نفسى: يجب أن أكون ممتنًا، فقد أعطانى الله فرصة أخرى، سنوات قليلة أخرى لكى أكون هنا. وأنا ممتن فعلًا. لكننى أحس أن الله منحنى هذا الوقت الزائد لكى أقوم بشىء ما، لكى أنجز مهمة ما. وأنا أحاول أن أنجز هذه المهمة».


وها بعد أن مسك الموت يا زكريا، أتمنى أن تكون قد أنجزت مهمتك، وأن تكون قد شعرت بطعم الحياة الحقيقى.