زكريا محمد يكتب : رمية النرد الأخيرة

زكريا محمد يكتب : رمية النرد الأخيرة
زكريا محمد يكتب : رمية النرد الأخيرة

«لستُ ابنًا لمحمود درويش».. هكذا كان يردد زكريا محمد، فى الخفاء والعلن، فى الصحو والمنام، كأنه يردد صلاة، أو تعويذة لكى تحميه من السقوط فى الفخ؛ فخ الخلافة، والدروشة. فما من شاعر فلسطينى لم يشعر بعبء الإرث الذى تركه درويش، أو خشى -على الأقل- أن يضع نفسه فى مقارنة معه، أو أن يفعل الآخرون ذلك. لقد حسم زكريا أمره من البداية: «تخليت عن اسمى الذى أعطانى إياه أبى: داود، وسرت باسم غيره، كى أصير خليفة نفسى». هكذا اختار صعود الجبال الوعرة، لا السير فى الطرق الممهدة، ونهض شعره بالكامل فى معاكسة شعر محمود درويش.


مجموعته الشعرية الأولى الصادرة عام 1981، كان عنوانها صادمًا للكثيرين، وهو «قصائد أخيرة»، إذ ظنوا أن زكريا يُعلن اعتزاله قبل أن يبدأ، وأنه لا يثق أنه سيصير شاعرًا فى وجود عملاق مثل محمود درويش، والحق أنه لم يكن يثق، ولكن فى جدوى الشعر، وكان على الشعر أن يكشف له عن جدواه، كى يستطيع أن يمضى وإياه فى سفرهما الطويل. ربما لهذا لم يسع يومًا إلى تصنيف شعره، ولم يفكر فى الدخول فى المعارك الطاحنة حول قصيدة النثر، وظل يُعرف نفسه ككاتب للشعر غير الموزون، لكنه شعر يبحث عن الإيقاع فى الوقت نفسه.

اقرأ ايضاً| د. خالد سالم يكتب : وَلَه جمال الغيطانى بإسبانيا


يرى زكريا محمد أن أسهل شىء يمكن أن يفعله الشاعر هو مخاطبة الإنسان، أما الشديد الصعب فيتمثل فى العثور على لغة لمخاطبة الكائنات الأخرى: «الشجرة، الطائر، الوزغة، والفهد فى سهوب السافانا». مهمة الشعر عنده هى العثور على هذه اللغة، والتى ستكون لغة غامضة، تشير ولا تفصح، تعتذر ولا تفاخر. يقول: «يصير الشعر شعرًا حين يتحول إلى لغة كونية، وإن لم يتمكن فلن يكون سوى سيرة ذاتية بشرية مكررة».


استطاعت الطبيعة بكائناتها إذًا أن تسيطر عليه، وعلى التسع مجموعات شعرية التى أنتجها على مدار أكثر من أربعين عامًا، إذ قدم  شعر استعادة لها من جهة، واعتذار ورثاء لها من جهة أخرى.
عام 1994، ومع مجموعته «الجواد يجتاز إسكدار»، شعر زكريا محمد أنه حصل على ما يبحث عنه: البساطة والعمق، وأنه قبض أخيرًا على حريته، فلم يعد يعبأ برأى الآخرين، أو بسطوة الشعر عليه، ووجد نفسه ينفتح على الأشكال الكتابية الأخرى. لم يعد شاعرًا فقط، وهكذا كتب الرواية وقصص الأطفال والأبحاث والمسرحيات، كما جرب الرسم والنحت.


ثمة وجهة نظر سائدة تعتقد أن انشغال الشاعر بالأبحاث يؤثر سلبًا على شعره ويجعله جافًا، لكن تجربة زكريا محمد تعاكس هذا السائد، فقد انخرط طويلًا فى أبحاثه عن ديانة العرب قبل الإسلام، وعن أساطيرها، وأنتج عدة كتب فى هذا المجال. هذا الانخراط هو ما حماه -فى ظنه- من الموت الشعرى المبكر، إذ استند شعره إلى حقل الميثولوجيا فى تغيره وتطوره. لقد أنقذته الميثولوجيا إذًا وأنقذت شعره.. شعره الذى حين يذهب إليه ينسى كل شىء، البحث والسياسة، ويمضى نحوه كما لو أنه آدم الذى هبط إلى الأرض للتو، وبدأ يلفظ أسماء الأشياء للمرة الأولى.


قبل عام بالضبط، وبعد صدور مجموعته «تمرة الغراب»، فكر زكريا محمد فى التقاعد عن الشعر، لكنه عاد وسأل نفسه: ما الذى سيفعله الشاعر بعد أن يتقاعد، خاصة إذا كان فى حالته، فقد نضج شعريًا فى وقت متأخر، حين اشتعل الرأس شيبًا، ففى الماضى كان الشعر يأتيه متقطعًا، وكان أحيانًا يُمضى عامًا أو أكثر دون أن يكتب سطرًا شعريًا واحدًا، لكنه منذ 2012 تقريبًا لم يعد ينتظر الشعر ووحيه، وشعر أن نبعًا تحت قدميه قد انفجر، فظل يغرف بيديه منه كل صباح.


كان من المفترض أن يقضى زكريا محمد هذه الأيام وهو ينتظر صدور مجموعته الشعرية الجديدة «تلة صغيرة اسمها الأمل»، لكنه فضل أن يرمى بزهرة النرد الأخيرة، وينادى على الموت: «تعال يا عصفور الموت، خبزتك هنا فى كفى.. تعال، حفرة صغيرة تكفى لى ولك».