احساين بنزبير يكتب :دريدا، القصيدة: زهرة البلاغة

احساين بنزبير يكتب :دريدا، القصيدة: زهرة البلاغة
احساين بنزبير يكتب :دريدا، القصيدة: زهرة البلاغة

رماد القصيدة إذاً. أو من باب جواز صماخ الشعر والسقوط فى المضمون كما لو فى بئرٍ (مضمون البلاغة والتفكيك مع دريدا). بطريقة أو بأخرى، يورطنا الشاعر غييوم أرتوس-بوفيه Guillaume Artous-Bouvet فى كتابات جاك دريدا الذى لم يَكُفَّ قط عن استنطاق الشعر والقصيدة فى متنه الفلسفي. الشاعر غييوم دخل فى مغامرة فكرية تتمرن وتفكك ما لا يمكن تفكيكه. الأمر فى غاية الإثارة وجدير بالقراءة، نشرع فى فتح كتابه «دريدا، القصيدة» ثم فجأة، نواجه ما يبقى سرا لكنه يتجلى: القصيدة/ الشعر. غييوم يكتب ويحلل عبر الجملة، الفقرة ثم الصفحة تحتوى هفوة قلم دريدا الحيوانى/ المتوحش. ما الذى يحدث حين نمارس القراءة بين/ عبر صفحات الكتاب؟ تحدث صلاة فلسفية مع دريدا وهو يفكك القصيدة/ الشعر. للتوضيح، عنوان الكتاب يتوجب أمرين على الأقل: قراءة الشعراء الذين قرأوا دريدا وبَعْده، أو قراءة الشعراء فى صحبة دريدا، كأننا فى حضور أو غياب (مع الشبح/ الطيف) للفيلسوف. كتاب الشاعر غييوم أرتوس-بوفيه يستوجب ويلح على قراءة نصوص التفكيك الدريدية. ذلك أكيد. حَدَثُ التفكيك كقراءة-كتابة تفترض معرفة دقيقة للنصوص المؤسسة للتقليد الفلسفى أو الإرث الفلسفي، الشعرى الغربي. هنا لا بد من ثمالة ما. ثمالة تحمل فى طياتها تهديد التفكيك للقصيدة تحت بركان دريدا فى كتاب الشاعر غييوم. 
اقرأ ايضاً| أحمد الزناتى يكتب : فى فردوس الكتب: عن أرنو شميدت وحياته وأدبه

أسلوب دريدا يلازم كتابة غييوم بين الجمل والفقرات والتحليل أيضا. لكن بدون تناسخ قدحى. إنه الظل الذى ينير طيف القصيدة. عموما ونحن صحبة الصفحات والرجوع إلى السطر وشيطنة المحتوى، نلتقى عبر فصول الكتاب بأماليس الأدب والفلسفة والقصيدة، دائما.
الشعر والتفكيك: الاسم، المكان، ما-بين.
منتدى: بقيا، الغرض، استثناء.
القصيدة، ما يصعب تفكيكه: نشيد، رماد، الجملة.
ثم هنا، نسافر فى تخوم دريدا حد الثمالة الفلسفية. ثم صفحات تتسلل فى فرنيسس بونج الشاعر وأرْتو وتسيلان وآخرين. دائما بقلق وضراعة دريدا. لأننا أمام لحظات فكرية سميكة بهيأتها التحليلية. أو سيناريو نقدى مميز لأنه يتحاشى كل ما هو سهل وجاهز للأخذ. 


فجأة، أشياء بونج الشاعرية تأخذ حيزا طويلا فى الكتاب. خصوصا وأن الشعر فى نظر دريدا استكتاب أو محو متعدد اللسان من أجل تصوير حفلة لغوية وهى فى حِدَادٍ. ثم تتدحرج كرة بونج فى محبرة دريدا (ص.80). ويواصل الكاتب محاولا تفكيك ما يمكن أن تنحته الفلسفة بخصوص الشعر والقصيدة. لحظات تأمل واستفسار، إذا افترضنا أن الشعرى هو ما نريد أن نتعلمه، لكن من الآخر، بفضل الآخر، وبفضل الاستكتاب عن ظهر قلب (القلى الشعرى من طبيعة الحال) لنجد أنفسنا كقراء فى توقيع بونج Signéponge:
• فرنسيس بونج، الذى تعهد ألا يكتب إلا ما يُوَقِّعُه ليتجنب غفلة الاسم واللقب، إنه يخلط بين نصه وتوقيعه: أعماله حدث متفرد نادر لا بديل له، فى كل مرة.
• بونج يطاوع إيعازا مزدوجا: 1/ (نُعوظ érection) يشيد ويعيد ضخامة نصب توقيعه الأدبى. / (تقليص الورم اللغوي) يتركه ليمتص تضخمه فى النص الشعرى.
• توقيع نص أو عمل أدبى، يعنى أن نحسم فيه كما ينبغى، أن نعتقله، لنجعل منه شيئا شعريا.
• ليدوم الشىء الشعرى مؤثرا فى نفسه، يتعين عليه أن يعيش فى اللغة نظيفا، غير مدنس، أمام الالتهاب الذى يهدده فى القصيدة.
• فرنسيس بونج إسفنجة، مساحة تشكيلية أى سند تصويرى ملتبس وغامض، غير قابل للتقرير والحسم أيضا كغشاء البكارة hymen.
هكذا، يزج بنا غييوم أرتوس- بوفيه فى أخدود بونج حين القصيدة متعددة فى سمو أرضه. ما علينا إلا أن نقرأ ديوانه التحيز إلى الأشياء le parti pris des choses ونصه العميق الموسوم بغيظ / غضب التعبير / العبارة la rage de l’expression لنسقط فى تكوين / تشكيل دمل شعرى. الشىء يصير عالما كختان جريح يجب فك شفرته. شفرة تربط بين حيوانية الشعر ومملكة مياه ذهنية. لأن القصيدة مع بونج تصل إلى الذى يبادر بالكلام. كلام محتدم، بالأساس.
كلام دريدا فى بونج يشبه شمسا قابلة للقسمة أو صوت شريط أو استيقاظا من الضوء (تعريف دريديٌّ للشعر). ثم غييوم يحفر أكثر فى الصفحة 83 من كتابه على الشكل التالي: «مُوَقِّعاً عمله الأدبى بتفرد كتابة جَذْبَوِيَّة، الشاعر بهذا الشكل يجعل هاوية الكتابة تفاضلية فى حد ذاتها. وحدها هذه الكتابة-المتعددة، إثباتا لما تقدم، تشمل طريقة ثالثة للتوقيع. « لأن توقيع العمل الأدبى يصير كاسم أو كلقب محظوظ يجتث شيئية الأثر الميال إلى الانشطاب/المحو». الشاعر بونج يكتب الشىء بالتحيز إليه. يدور فيه. يهيجه شعريا. ثم، يتم اللقاء عبر أعمال الشاعر الذى يسترد محتوى التورط فى كذا عمل شعرى. كتابة الشىء فى القصيدة مقاومة صعبة بالكاد. لكن فرنسيس بونج يتكلف. الشىء  la chose فى قصيدة بونج يصير تضحية فى طريق الطريق، فى عبور الطريق من أجل جهل متعلم. هنا باذات، كما يشير الكاتب فى الصفحة 76، الشىء الموضوع - الرهان – فى مقاولة بونج الشعرية لن يكون غير القانون الذى يسوى نظام الأشياء المستكتب فى الفلسفة التى تقارب الشعر. دريدا مرة أخرى يحسم قائلا بأنه يتكلم عن قيادية الشىء بدون رحمة أو هوادة. وبعيدا عن أن القصيدة تأخذ الشىء كموضوع لها، كما تقترحه بديهية الصيغة الشعرية وقانونها الذى لا مثيل له، الشىء الشعرى يملى القصيدة على القصيدة وينص عليها. عالم فرنسيس بونج فى أشيائه وهو يكتب. وهو يُوَقِّع على الشىء باسمه. قوة دريدا المفكر/الكاتب. يكشف لنا أن بونج لا يتكلم كفيلسوف، عبر المفاهيم والاعتبارات العامة، بل يوقع باسمه العَلَم. يتعهد بالتزام ما أمام الشىء: هذا الأخير هو الذى يبادر على الكلام، لكن بطريقة خرساء. الشىء الأخرس، إذاً. يهدر الشاعر لسانه ليتكلم فى انحياز شعرى تام حتى لا نقول بشكل مطلق. كل الشىء يمر عبر التوقيع فقط!


ونحن نتقدم فى قراءة الكتاب، ندخل مغارة شعرية هائلة. ويستوقفنا فجأة لسان دريدا الفلسفى وهو يفكك شاعرا آخر: بول تسيلان. الاستثناء الشعرى بامتياز. الرجة. إنه تسيلان الذى يُشَكِّل لوحده شعبا شعريا فى قصيدته. هنا، كلمة شعب تحمل زهرة البلاغة كموضوع للشعر والفلسفة أيضا. هنا بالذات، دريدا يفتح طريق الذكاء ليجعل القارئ فى مأزق. البلاغة تصير هيئة الهيئات ومكان الأمكنة. زهرة البلاغة تتقمص دور التحيين والتحديث. تحيين وتحديث الكلام الشعرى.


ثم أهلا بالشيبوليث Schibboleth (السنبلة)، الكتاب الذى خصصه دريدا لقراءة المتن الشعرى لتسيلان. فى الشيبوليث يتعلق الأمر بكتابة الآخر الشعرى فى آخر يحاول البَيِّنة الشعرية. أو الشهادة الشعرية Témoignage poétique. القصيدة تدلى بالشهادة. لا نعرف على ماذا ولماذا، لمنْ ولأجلِ مَنْ، تشهد من أجل الشهادة، القصيدة تشهد. طالما تمارس الشهادة على الشاهد (الشاعر)، وهو يكتب حروفه فى خزانة إلهية سرية تحاول الشهادة هى الأخرى. لكن، ما الذى يبحث عنه دريدا كفيلسوف فى شعر تسيلان؟ إنه يحاول مقاربة جِلْدٍ بلاغى منفتح، عن أذُنٍ وصوتٍ، عن هيكل الغموض المرعب والمخيف فى القصائد التسيلانية. أو بشكل أعمق، يبحث عن «ثيولوجيا الأنوار» التى تفكك فى الهوامش من طبيعة الحال وفقط. يدعونا الكاتب غييوم إلى ولوج فكر دريدا عبر إجراءات شعرية، حيث لن تكون واضحة كالضوء/كالنور، أو حتى شفافة (بائنة). لأن القصيدة عند تسيلان تستوجب شرحا معينا أى إعادة الصياغة الشعرية ليتوصل القارئ إلى خيال وتجربة الشاعر. هكذا الشاعر يبقى، يظل، يستمر، يواصل فى استحالة (عدم القدرة) السيطرة أو الطّوْعِ لقراءة نصوصه والمُؤوِّل يَلْقُمُ من الصدى المُؤَرِّق للكلمات المستخدَمَة عبْر أشباح الماضى للشعراء/الكُتَّاب. لأن الأسلوب الشعرى يخدش ويترك نفسه للانْجِراح. الشعر، حسب دريدا، يُكْتَبُ بأكثر من أسلوب. وفى هذا الأكثر، تنحدر زهرة البلاغة من سلالة قصيدة موجزة إلى حد الغموض الذى يحير التأويل الفلسفى للشعر بشكل عام. حضور التفكيك يصر. يزيح القصيدة من مكانها المعهود والمألوف ليزج بها فى حيز الأثر والمحو. يجب على الفيلسوف أن يحمل الشاعر فى كتابته. وهذا ما يفعله دريدا. تسيلان يكتب «أنا» والفيلسوف يفكك ليقول: «أنا» كضمير متكلم لا شىء، «أنا» مرة واحدة فقط، «أنا» لقب لا أحد: رماد ليس إلا.


الختان قصيدة فى شعر تسيلان. تاريخ. لقاء مع الكلام. ترجمة تقول ما هى شاهدة عليه عبْر غموض واضح. ذاكرة وأثر. فم قلب يجعل يستكتب ويُملى على القارئ صعوبة ولوج المعنى الشقى. ويحدث أن يخاطب تسيلان القارئ على طريقته:
«غَطِّ مغارات الكلمات
بِجُلُودِ الفهد،
وَسِّعْ نطاقها، نَحْوَ ومُنْذُ الجِلْدِ،
نحْو ومنذ المعنى،
زَوِّدْها بِسُيُورِ ماءٍ، بِغُرَف، بِدِسَمٍ
وبساحاتٍ متوحشة، بجدارية كهفٍ،
واصْغِ إلى التالى منها
وكل مرة التالى واللكنة الثانية.»
وكأننا فى لحظة من العصر الحجرى، حيث تسيلان يريد توسيع نطاق القصيدة عبر المغارات أو عبير الما-بين: الجِلْد والمعنى فى المقطع الشعرى المتعدد المعنى. فى هذه الحالة، القصيدة تأمر الشاعر بمضاعفة الكلمات-المغارات Mots-cavernes بِجُلُودٍ حيوانية كغطاء خارجى. ثم الكاتب غييوم أرتوس-بوفيه يكشف لنا على تأويل دريدا الذى يرى فى هذا القصيدة هندسة فضاء مبهم. إنها زُجاجة كلاين La bouteille de Klein حيث الداخلى والخارجى يصيران غيْرَ مُحَدَّدَيْن وقابليْن للتبادل. توسيع الكهف/المغارة كما لو توسيع القصيدة. ثم لا يجب تحاشى حضور الحيوان/الفهد. وكأنه مقدمة إلى فهد شكليٍّ فى مغارة مرتعشة. القصيدة إذاً فهد من أجل مساء القصيدة فى متن تسيلان الشاعري/الشعرى. 


ألسنا أمام جنون فلسفى ونحن نقرأ الكتاب؟ ألسنا أمام الغياب فى الحضور؟ ألسنا أمام ما لا يمكن القبض عليه؟ ألسنا فى مأزق دريدا التفكيكى؟ ألسنا أمام زهرة البلاغة أو قنفذ الشعر؟ ألسنا أمام القصيدة على حساب الشعر؟ إننا ونحن نقرأ، ما هو مكتوب سابق لما هو صوت. الرماد الشعرى ليس إلا. ولا تبحثوا. القارئ يضحى بالمعرفة ليرسم فم القصيدة على بركان لغوى، بامتياز.


عبْرَ كتاب غييوم أرتوس-بوفيه، نتوقف كثيرا لنعيد قراءة الشعر فى مغارة دريدا. مغارة مسكونة ومهووسة بالتفكيك كاقتراح فكرى متعدد الوجوه والزوايا. نملك لسانا واحدا؛ لكنه ليس لنا ! ثم من الممكن أن نقول إن «التفكيك حركة حطام أو زعزعة استقرار العالَم، الظواهر، المؤسسات التى نفهمها كنصوص.» (مارك غولدشميت Marc Goldschmit). التفكيك ليس فلسفة أو نظرية. إنها الكتابة انطلاقا من الرماد والأثر الأدبى.


بشكل عام وجد عام، نتعلم من هذا الكتاب أن اللقاء مع الشعر استهلال وتمرين مستحيل. لذلك، قانون القصيدة أنَّ أثرها المُعْطى به متروك ومهجور ولا يمكن تصوره. القصيدة بَرَكَة (تبريك) تخاطب محطة ممحوة/محذوفة لتتحول إلى رماد.
لنبتسمْ مع دريدا كى نقول معه: «القصيدة تدعونا إلى ارتداء العالَم، إلى إعادة التفكير فى الفكر نفسه للعالم». من القنفذ إلى الفهد من أجل إقامة فى حضرة مغارةٍ تفكك وجه القصيدة.
• هامش:
‏Guillaume Artous-Bouvet, DERRIDA, LE POÈME, De la poésie comme indéconstructible, Hermann éditeurs, 2022