يكاد يجمع من أحبوا فيلم كريستوفر نولان الجديد “أوبنهايمر” على ضرورة مشاهدته مرة أخرى. ليس فقط بسبب تعقد مستوياته، ولكن لإعجابهم بالعمل الذي أوقن أنه سيكون ضمن قوائم أفضل الأفلام في تاريخ السينما العالمية.
في صالات السينما حول العالم، انقسم المشاهدون فريقين لا ثالث لهما، فريق أحب “أوبنهايمر” وانبهر به وعده ضمن الأيقونات السينمائية التي عرفها في حياته، والفريق الثاني كره العمل كراهية شديدة واعتبره فيلما مهلهلا لا يستحق أيًا من الدعاية التي سبقت عرضه وأحاطت به. هذه الرؤية أو المشاعر القصوية تجاه الفيلم أراها طبيعية تماما، ذلك أن “أوبنهايمر” جاذب للمشاهد الذي إما يعرف قليلا عن التاريخ الأمريكي، قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، أو المشاهد الذي لا يستهدف شيئا مسبقا قبل دخول السينما لمشاهدة الفيلم. المشاهد الذي قاس في ذهنه على أفلام كريستوفر نولان السابقة، أو كان ينتظر أن يشاهد فيلما مبهرًا عن ضرب مدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان بالقنبلة الذرية، فهو حتما سيكره الفيلم وسيعتبر المخرج قد نصَب عليه وأضاع من وقته ثلاث ساعات، في صراعات غير مفهومة.
أوبنهايمر الذي يحمل الفيلم اسمه، هو يوليوس روبرت أوبنهايمر، عالم الفيزياء الأمريكي، الذي وصفته الصحافة بـ”أبو القنبلة الذرية” وصار هذا لقبه حتى وفاته عام 1967، رغم تغيٌر مواقفه وانخراطه في قيادة حملة سياسية لوقف التسلح النووي.
ترأس أوبنهايمر مختبر لوس آلاموس الذي يدور فيه قسمًا كبيرا من أحداث الفيلم، وهو المختبر الذي أنشيء في صحراء مكسيكو سيتي، ضمن مشروع مانهاتن العسكري العلمي تحت قيادة الجيش الأمريكي، باختيار من أوبنهايمر نفسه، الذي كان يقود العمل داخل المختبر ويشرف عليه بل ويحكمه تقريبا، أو كما جاء في الفيلم “كان العمدة والمأمور والعالم رئيس العلماء”.
ولد أوبنهايمر لأسرة يهودية ألمانية فقيرة، هاجرت مبكرا إلى الولايات المتحدة، وعاشت في نيويورك. الأم رسامة غير شهيرة والأب موظف مجد في عمله، حتى أنه أصبح مالكا لمصنع للغزل والنسيج كان يعمل فيه موظفا عاديا في مقتبل حياته المهنية.
في عامه الأخير بجامعة هارفارد حيث كان يدرس، اهتم أوبنهايمر بالكيمياء وقرر أن يتخصص فيها، رغم ميوله الأدبية، أظهر أوبنهايمر تفوقا ملحوظا في الفيزياء النظرية، مع كراهيته للدراسة المعملية، وبعد حصوله على البكالوريوس من هارفارد الأمريكية انتقل للدراسة في جامعة كامبريدج البريطانية، حيث التقى بأساتذة الفيزياء العظام آنذاك.
عاد إلى الولايات المتحدة، وأسس قسم الفيزياء النظرية الذي أصبح في وقت قليل من أبرز الأقسام العلمية في الجامعة، وفي هذا التوقيت انخرط أوبنهايمر في المجموعات اليسارية في الجامعة وتحمس لتكوين رابطة نقابية لأساتذة الجامعة مثل العمال وباقي الفئات، وارتبط عاطفيا في هذا الوقت بالطبيبة النفسية اليسارية جين تاتلوك. كانت هذه الفترة شديدة الأهمية في حياة أوبنهايمر، ليس في وقتها فحسب، بل أيضا في النصف الثاني من حياته، حيث قامت اللجنة التي حققت معه باستغلال علاقاته في الفترة المذكورة، لمحاولة تأكيد كونه مرتبطا بالشيوعيين السوفييت وبأنه يعمل جاسوس لصالح الاتحاد السوفييتي، رغم كل ما قدمه لبلاده حيث كان السلاح الذي اخترعه هو العامل الحاسم في استسلام اليابان وإعلان انتصار الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية.
هذه هي قصة حياة أوبنهايمر باختصار، وهي قصة حياة عالم يعيش حياة الفنان بكل عنفوانها وجنونها، وفي كل محطة من هذه الحياة، التي قد تكون وصفت بكلمة واحدة، إلا أنها محملة بمشاعر وتعقيدات نفسية على المستوى الذاتي، ومؤثرة جدا في التاريخ والعلاقات السياسية في أمريكا، على المستوى الموضوعي، ولكن كيف قدم كريستوفر نولان أوبنهايمر في فيلمه؟ وهو صاحب السيرة الثرية والشهرة الطاغية التي تجعل اسمه على أي فيلم عامل جذب قوي لمشاهدته.
في الواقع لقد قدم نولان نسخته هو لأوبناهايمر، مستخدما في ذلك نمطا شكسبيريا، وأقصد الكاتب الإنجليزي الشهير وليم شكسبير حينما أعاد بناء قصة يوليوس قيصر ليقدم منها مسرحية تاريخية عالمية، باتت بالنسبة للملايين هي المرجع في معرفة يوليوس قيصر وليس كتب التاريخ التوثيقية.
هذا هو الفن.. هذا هو المسرح، وهذه هي السينما. لم يقدم نولان عملا توثيقيا لحياة أوبنهايمر، وإلا كان صنع فيلما تسجيليا عن العالم النووي، الذي تسبب في مقتل نحو 220 ألف ياباني، ثم أعرب في مناسبات عدة ومواقف متكررة أنه نادم على ذلك.
بداية، لم يلجأ كريستوفر نولان للسرد التتابعي الخطي في تقديم الحكاية، بمعنى أنه لم يقدم قصة حياة أوبنهايمر بالشكل التقليدي أو المتعارف معه، من البداية إلى النهاية كخيط متصل، من الطفولة مثلا إلى تكريمه في البيت الأبيض قبل وفاته، وبينهما المحطات الكبرى، بل اعتمد ما يشبه الخطوط الدائرية المتقاطعة وفي قلبها أوبنهايمر، متفرع منه خط الصراع العلمي مع أستاذه في كامبريدج مثلا الدكتور نيلز بورو الذي كاد أوبنهايمر أن يقتله ذات يوم بتفاحة مسمومة، ثم صراعه فيما بعد مع زميله ومرؤوسه وقت لوس آلاموس العالم إدوار تيلر الذي نشط للتبشير بالقنبلة الهيدروجينية، وبالطبع منافسته الصراعية مع العالم الأمريكي الأشهر أينشتاين.
وفي السياسة وصراعاتها، هناك خطوط صراعاته مع ضباط الجيش الأمريكي الذين لا يعجبهم سلوك أوبنهايمر الذي يتعارض مع الانضباط العسكري والأمني، وبالطبع عقدة الخطوط الدرامية المتعرجة في صراعه مع السياسي لويس ستراوس رئيس لجنة الطاقة الذرية السابق، الذي مثلما انتقم من أوبنهايمر وعرضه لسحب ترخيصه الأمني بعد أن وضعه في جلسات تحقيق في غرفة صغيرة مقبضة، إلا أن الانتقام الكارمي انتصر لأوبنهايمر في النهاية وحُرم ستراوس من المنصب الوزاري الذي عاش يحلم به.
على صعيد السينما، نجح كريستوفر نولان في استخدام كل العناصر السينمائية التي يتقنها، التصوير والإضاءة والصوت وتقنياته، والأهم المونتاج المدقق الذي مكنه من تقديم هذه السردية المتقاطعة، والانتقال بين المشاهد الملونة والأبيض والأسود، دون أن يفقد المشاهد الخيط شرط أن يكون على علم مسبق ببعض وقائع التاريخ الأمريكي في تلك الفترة.
وقبل كل هذا، تميز نولان في الكاستنج أو اختيار فريق العمل، فراهن رهانا ناجحا على كيليان مورفي لتقديم دور البطولة وتجسيد شخصية أوبنهايمر، الذي كان نحيفا مدخنا شرها ويمتلك عينان قويتان ونظرة قوية ملفتة، بينما وضع نولان في كل الأدوار الأخرى ممثلين كبار أكثر شهرة وخبرة من مورفي، مثل روبرت داوني جونيور أحد أبرز نجوم مارفل، الذي قدم في الفيلم دور السياسي القذر ستراوس، والنجم مات ديمون في دور الجنرال ليزلي جروفز المشرف على مشروع مانهاتن وغيرهم من النجوم في أدوار ظهروا بها على الشاشة لدقائق قليلة.
لقد أعاد نولان في الفيلم الاعتبار لفن السينما وليس للتوثيق أو للتاريخ، مثلما أعاد الرئيس كيندي الاعتبار للعالم أوبنهايمر حينما كرمه، وشتان بين الاثنين.