في كل مرة اشاهد فيها فيلما لعادل إمام، يطوف بوجداني شعور واحد بالإنتفاضة على الاستسلام واليأس، وصوت واحد يناجي لا بديل عن الانتصار في معركة الحياة..
ذات مرة خرجت من قاعة العرض، وأقسمت أنني لن أسمح لأي “غول” ينال من أحلامي، ربما أكون “منسي”، لكن لن أتراجع عن كوني جزء واضح في تاريخ أيامي.
نعم، نحن نشاهد أنفسنا في شخصيات النجم الاستثنائي، ويبحر بنا في عوالمنا، ونقفز فوق أمواجها العاتية حتى يرسو بنا إلى شاطئ البهجة، ونشعر بدفئ أنفسنا من جديد.
تلك القيمة الكبرى لعادل إمام، والتأثير الوجداني، بينما التأثير الآخر هو الدرس الآتي من صمود النجاح ورسوخه على مدار أكثر من 60 عاما في عمر فنان.. هذا الصمود يحتاج إلى دراسات.. تلك العلاقة الممتدة بينه وبين الجمهور ومكانته في القلوب بحاجة إلى تأريخ.
فهو يجلس على القمة سواء من حيث النجومية أو الإيرادات طوال سنوات عديدة بلا منافسة، فلم نشاهد فنانا نجح في الإستمرار بهذا الشكل، وهذا أمر لافت للنظر.
بالإضافة إلى تأثيره وتأثره بأسماء أخرى من المؤلفين والمخرجين الذين تحققت أحلامهم معه، كما استقطب عددا لا يستهان به من النجوم المصريين، كبر معهم، وكبروا معه، أتذكر المؤلف الكبير الراحل وحيد حامد وهو يقول بكل تواضع “لولا وجود عادل إمام في أفلامي لما حققت هذا النجاح الكبير.. وعادل ليس ممثلا نمطيا، فهو فنان مثقف وعالي الموهبة ومتصل بالناس، وهو واحد منهم، ويعتبر نموذجا يحتذى به، فلقد عملنا سويا في مرحلة الشباب، وكان يمثل غالبية المصريين، واستطاع أن يجسد شخصياتي بإتقان وبراعة لا مثيل لها”.
نعم عادل إمام أحد صناع البهجة المستنيرين، اشتبك بأعماله مع قضايا بسيطة ومؤرقة شكلت في مجملها حياة.. هي حياتنا، اقتربت من أوجاعنا لمستها، طيبت بخاطر أنفسنا، وهو ما ظهر بجلاء في مجموعة من أعماله، خاصة في الربع قرن الأخير، وقدم الحلم الممزوج بالواقع بشخصية “حسن بهلول” في “اللعب مع الكبار” مع المخرج شريف عرفة، حيث الحلم الممزوج بالواقع والعبث الاقتصادي والاجتماعي بمصائر البشر، والذي يقوم به المستغلون الكبار بحق الضعفاء الذين لا حول لهم ولا قوة في مواجهة هذا الإرهاب الواقع عليهم، وامتلك بشخصيته قدرا كبيرا من الحب والإحساس بالمسئولية تجاه وطنه.
ثم كان هناك فيلم “طيور الظلام” الذي شكل علامة فارقة في قراءة مستقبل وألاعيب خفافيش الظلام، بجرأة فنية وفكرية في الطرح ليس فقط شريف عرفة ووحيد حامد، لكن لنجم ذي سطوة جماهيرية كبيرة، جسد الحالة بإحساس واع وتعبيرات أدائه اللماح الأخاذ.. عادل إمام في هذا الفيلم مختلف، صادق وحيوي، يؤدي دوره بحميمية شديدة، ينفذ بها إلى مشاعر المتفرج وعقله بسهولة.. فقد شاهدناه فنانا يعرف كيف يصل بأدائه وتعبيرات وجهه إلى معنى الجملة التي ينطق بها.
وبرؤية أخرى نموذج المحامي “حسن سبانخ” في “الأفوكاتو”، ومتعة الفانتازيا والكوميديا السوداء مع المخرج رأفت الميهي، وكشف فيه بعض الأنماط الفاسدة في المجتمع بما فيها السجين والسجان، متجاوزا المحاذير التي ظلت بعيدة عن النقد والتعرض لها من خلال السينما.
أيضا وقفنا طويلا أمام أدائه المدهش في فيلم “الغول” بشخصية الصحفي “عادل عيسى”، الذي قدم خلاله أكثر من مشهد مهم في مشواره كممثل، خاصة مشهد الخلاص من “غول” الجشع، والاستغلال والافتراء “الكاشف”، عندما أخفى “ساطور” داخل الصحيفة قام بغرسها في قلب رجل الأعمال الفاسد، فأرتاح ضميره، وتنفسنا معه لحظة الخلاص.
وفي مشوار شخصيات عادل إمام التي غيرت في مساره “اللص ماهر” بفيلم “المشبوه” للمخرج سمير سيف، كان تألقا وهو يواجه مصيره هو وزوجته “بطة” بين ضابط المباحث “طارق” ورفقاء سنوات النشل، وفتح هذا العمل نوعية أدوار تراجيدية أخرى بعيدة عن الكوميديا، تكشف أمراضا أخرى تفشت في المجتمع وصراع طبقات تلتهم الأحلام، ومنها فيلم “حتى لا يطير الدخان”، وتجسيده لشخصية “فهمي” وهو شاب ظروفه صعبة وطموحه أكبر من إمكانياته، ويعتز بنفسه ويحمل بداخله الكثير من الحقد، وبين الدراما والكوميديا عشنا “آهة” عادل إمام التي أطلقها وهو يجسد العميد “مجدي” في “النوم في العسل” كانت بمثابة الخلاص أيضا، وتلك النوعية بلا شك هي النموذج السينمائي الذي تعشق مشاهدته رغم أنه يؤلمك، ويزيد من عمق جراحك، لكنه في الوقت نفسه يطيب بخاطر مشاعرك ويشبع رغبتك ولهفتك في رؤية مختلفة للحياة.
في شهادة الناقد الكبير كمال رمزي، قال هناك عدد من الأولويات تجمعت في عادل إمام بشكل كبير، فهو يتمتع بوجه شعبي مصري عربي خالص، كما أنه صاحب موهبة كبيرة في التمثيل، ويجيد اختيار كتاب السيناريو المتميزين، كما أنه غير منفصل عن الشارع المصري، فنجح في التعبير عن هموم ومشاكل الناس على مدار أجيال متعددة منذ ستينيات القرن الماضي وحتى وقتنا الحالي، وعبر عن قطاع كبير من المصريين سواء الطبقات الدنيا أو العليا.
أعود إلى مرحلة سابقة، اتذكر فيها عادل إمام ممثلا من العيار الثقيل، في وقت كان مشغولا بمسار الكوميديا، حيث فاجئتنا تجربة فيلم “إحنا بتوع الأتوبيس” للمخرج حسين كمال، المفعم بالدراما السياسية، والأجواء القاسية، ليس لعادل إمام وحده، بل كان معه نجم كوميدي آخر هو عبدالمنعم مدبولي، مرزوق (عبد المنعم مدبولي) وجابر (عادل إمام) شخصان تجمعهما علاقة جوار. يركبان في أتوبيس كالمعتاد، وتحدث مشاجرة تنتهي بهما إلى التوقيف في قسم للشرطة، وللمصادفة التعيسة يتم دمجهما مع مجموعة من المعارضين الذين يحوّلون إلى الأمن، وهناك يموتون تحت التعذيب.
جسد عادل إمام شخصية صعبة منغمسا في كل تفاصيلها النفسية بإقتدار في فيلم يؤرّخ لمرحلة ما قبل نكسة 1967، وإجراءات الأجهزة الأمنية التعسفية تجاه الطلبة والفنانين والمثقفين ونشطاء الرأي والسياسيين وغيرهم.
يجسد الفيلم تحقيقات الأجهزة الأمنية الواهية، ولا أنسى مشهد التحقيقات، حيث تُنتزع الإعترافات بالتعذيب التي قد تؤدي للوفاة في بعض الأحيان دون أي حسيب، وكيف يمكن أن يُقبض عليك عشوائيًا في مشاجرة بالأتوبيس لتتحول إلى معتقل سياسي، ويعد هذا الفيلم من أهم أفلام عادل إمام في فترته نحو طريق ذهبي بالكوميديا.
أعتقد إن سينما الوعي لدى عادل إمام بحسب ما أتذكر، لمستها بأفلام مثل “المحفظة معايا”، التي اصطدم فيها بعالم كبار الحرامية، وأيضا ثلاثية “رجب فوق صفيح ساخن، شعبان تحت الصفر، رمضان فوق البركان”، وكانت هناك إشارات فنية إلى ثغرات اجتماعية واقتصادية في مجتمع عصر الانفتاح، وصدم عادل إمام الجميع وهو يمهد لمرحلة جديدة، وكان الملفت هو الإقبال الجماهيري الكبير على هذه الثلاثية التي توجته نجما أحاديا للشباك، أيضا فيلم “الهلفوت” الذي تجلى فيه عادل إمام بالشخصية البسيطة المشهورة المعروفة بـ”عرفة مشاوير”، نتيجة عمله كحمّال.. “عرفة” شاب من الطبقة المسحوقة، ومن خلفية عائلية مجهولة، إذ وجد وهو رضيع في محطة للقطار، الأمر الذي جعله دومًا في منزلة أدنى حتى بين أفراد طبقته البائسة، لكنه سيصنع تغييرًا كبيرًا في حياته، وسيكون ثمن ذلك التغيير خسارته لصديقه الوحيد ولزوجته التي أحبها بعمق، وكل ذلك كي لا يبقى هلفوتًا.
أتذكر أيضا كيف كان محورا إنسانيا مختلفا في “حب فى الزنزانة”، وكيف عندما تكون فقيرًا معدمًا فأنت لا تملك الخيارات العديدة للهروب من قبضة الفقر والموت والمرض، ما قد يدفعك لدخول السجن طوعًا والاعتراف بجريمة لم ترتكبها في مقابل حفنة من الأموال يدفعها لك أحد الرجال الأغنياء حتى يزيح التهمة عنه.
يناقش الفيلم سلطة رأس المال وما تفعله بالبشر ودوافع الانتقام، قصة حب تولد داخل الأسوار لجريمة لم يرتكبها السجين، وتنتهي بدوافع الانتقام، في فيلم “المنسي” وضعنا عادل إمام بشخصية عامل التحويلة في يوم واحد يحكمه صراع بين شاب هامشي ورجل أعمال جبار، صراع بين الخير والشر، لكنه يقدّم صورة عن عالم المتنفذين الكبار، من خلال رجل أعمال يريد تقديم سكرتيرته الشابة كقربان لتاجر يريد إبرام صفقة معه خلال حفل كبير في قصره.
تلجأ السكرتيرة إلى كشك تحويلة الخطوط الحديدية، وتطلب الحماية من العامل فيها، الذي سوف يصطدم مع أعوان رجل الأعمال.