..مهما تتداعى الأسئلة وفي صيغ مختلفة؛ فجميعها محورها واحد هو؛ هل مخازي وجرائم الجماعة الإرهابية في القرن الماضي تختلف عن جرائمهم في هذا الزمان؟!
القراءة؛ ومنذ فجر التاريخ تظل أهم أدوات المعرفة، في حين تراه القوى المعادية من المهوسيين والمتشددين دينيًا انحرافًا أخلاقيًا لا تستقيم معها الحركات الإسلامية إلا بوقوع مخاضات قوية يُستباح فيها الوطن، وينتعش الإرهاب في فورة جاهلية تنتهي بالمجتمع إلى مصائد المستعمرين – ولكن تظل خيانة الأوطان لا تحتمل فرصة أخرى وأخيرة يمنحها الوطن للخائن؛ فعندما بدأ التحقيق مع محمود عبد اللطيف الرجل الذي وجه للزعيم الراحل جمال عبد الناصر ثماني رصاصات في ميدان المنشية بالإسكندرية محاولاً اغتياله، وينتمي للعصابة الإرهابية في السجن الحربي، تصادف وقتها أن أسلاك الكهرباء في السجن أصيبت بخلل فـ ساد الظلام وتم التحقيق معه على ضوء الشموع، فبدا وجه هذا الإرهابي غريبًا، كان شعر رأسه هائشًا، ولم يكن حليق الذقن، نظراته زائغة ضائعة، لا يزال يرتدي نفس الملابس التي ارتكب بها جريمته، لمح المحقق آثار ندب قديم في وجهه فسأله عنه، فأجاب قائلًا: «كنت أتدرب على ضرب المسدسات فانطلقت رصاصة خاطئة لم تخرج من الفوهة، بل خرجت من الوراء وأصابت شظاياها وجهي وأصابعي»، عاد وسأله المحقق؛ «لماذا أطلقت الرصاص على جمال عبد الناصر»؟، ومضى في صوت كأنه الفحيح يردد مجموعة من الكلمات التي لا هي معلومات أو حتى نطلق عليها من قبيل الاستنتاجات أجاب الإرهابي محمود عبد اللطيف: «إذا حصلت حرب في كوريا الجنوبية – هكذا قال بالحرف الواحد - فسيعود الإنجليز إلى احتلال مصر من الإسكندرية إلى أسوان».
المفارقة أنه بعد أيام قليلة من التحقيق مع الذي حاول اغتيال رجل يوليو القوي الراحل جمال عبد الناصر، وفي 4 نوفمبر سنة 1954، كتب الإرهابي رسالة ندم من داخل السجن الحربي، قال فيها نصًا: «أنا محمود عبد اللطيف محمد أتمنى أن الرصاصات الثمانية اللي وجهتها للرئيس جمال عبد الناصر كنت أطلقها في صدور من دفعوني إلى هذا العمل الإجرامي وأقصد تحديدًا الهضيبي والمحامي هنداوي دوير وكل أمثالهم من جماعة الإخوان الشياطين».
فالهدف الأول والأسمى لثورة 23 يوليو سنة 1952؛ كان إرساء مبدأ الوطنية، وألا يسقط مشروع القومية العربية كما تخيله زعيم الثورة؛ فالهدف السياسي والاجتماعي تحقق بالفعل بإزاحة الملك وأعوانه عن السلطة، والمطالبة من خلال المفاوضات المكثفة بجلاء القوات العسكرية البريطانية عن الأراضي المصرية والاستقلال التام، وبدلًا من أن ينضم الإخوان الإرهابيون للثورة المصرية وضعوا شروطًا للاعتراف بها، بهدف سرقتها – مثلما تحقق لهم ذلك بعد هوجة يناير 2011 – قبل أن ينتفض المصريون على قلب رجل واحد ضد الاستبداد الديني في 30 يونيو؛ فـ فكر هذه الجماعة قائم أساسًا على إنكار الأوطان، وترسيخ روح العداء لها؛ فعقب استقالة وزارة علي ماهر في 7 سبتمبر سنة 1952، ظهر أول صراع حقيقي بين الثورة والإخوان، وبدأوا في تدبير الفتن، فهم على مر السنين ومنذ نشأتهم من 95 سنة لا يتغيرون أبدًا، يحملون نفس الكراهية للدولة وللشعب المصري؛ ففي يوم 28 فبراير سنة 1954 دبرت عصابة المقطم لمظاهرات مسلحة تنطلق من جامعة القاهرة وساروا قاصدين ميدان الجمهورية ورددوا هتافات عدائية ضد الثورة، ولما تصدت لهم قوات البوليس عند كوبري قصر النيل حدث احتكاك عندما حاول أصحاب الفتنة انتزاع الأسلحة من رجال الشرطة، فتوجه بعض من هؤلاء إلى فندق سميراميس وأثاروا فيه الفزع، وقبض في هذا اليوم على 118 شخصًا منهم 46 من زعماء الإرهابية، وأوقفت الفتنة عند هذا الحد.
فما دبرته هذه الجماعة وقتها من مخططات إرهابية لهدم الوطن، لم يكن الاستعمار ذاته يحلم بتحقيقه، وإن كان أراده على يد هذه الجماعة؛ أنشأوا ما يعرف باسم كينونات بديلة للوطن، بتكوين التنظيمات السرية، وإقامة البيعات الحزبية وترسيخ ثقافة الإحباط وكسر روح الولاء والانتماء للوطن لدى من ينتمون للجماعة، وأن الوطن الحقيقي هو الولاء للتنظيم، ولا وطن بعد حضن الجماعة، فاخترعوا بما يعرف بنظام الأسر، والذي يتم فيه توزيع أفراد الجماعة إلى مجموعات صغيرة، يقود كل مجموعة شخص يسمى بالنقيب أو الأمير، وهو ما يُعرف أيضًا بنظام الخلايا السرية، وهنا يروي محمود الصباغ وهو واحد من أخطر أعضاء التنظيم الخاص للجماعة في كتابه «حقيقة النظام الخاص» قائلًا نصًا: «إنه كان أول ما يُختبر به العضو الجديد فيما يعلن من رغبته في الجهاد في سبيل الله؛ أن يكلف بشراء مسدس على نفقته الخاصة والذي لم يكن يزد ثمنه في هذا الوقت عن ثلاثة جنيهات، ولم يكن الانضمام للنظام الخاص بالأمر اليسير؛ فالشخص المرشح يمر بسبع جلسات بمعرفة «المُكَوّن» ـ وهو يعني الشخص الذي يقوم بتكوين أعضاء النظام ـ، وتبدأ هذه الجلسات بالتعارف الكامل على المرشح، ثم جلسات روحية تشمل الصلاة والتهجد وقراءة القرآن، ثم جلسة للقيام بمهمة خطرة ـ وتكون بمثابة الاختبار ـ حيث يُطلب من الشخص كتابة وصيته قبلها، ويستتبع ذلك مراقبة هذا المرشح وسلوكه ومدى نجاحه في المهمة التي كُلف بها، إلى أن يتدخل الشخص المكوّن في آخر لحظة ويمنع الشخص المرشح من القيام بالمهمة، ويستتبع ذلك جلسة البيعة التي كانت تتم في منزل بشارع الصليبة بجوار سبيل أم عباس؛ حيث يُدعى المرشح للبيعة والشخص المسئول عن تكوينه بالإضافة للسندي زعيم النظام الخاص، حيث يدخل الثلاثة لغرفة البيعة التي تكون مطفأة الأنوار ثم يجلسون على فرش على الأرض في مواجهة شخص مغطى جسده تمامًا من قمة رأسه إلى قدمه برداء أبيض يُخرج يداه ممتدتان على منضدة منخفضة «طبلية» عليها مصحف شريف، ويبدأ هذا الشخص المغطى بتذكير المرشح بآيات القتال وظروف سرية هذا «التنظيم» ويؤكد عليه بأن هذه البيعة تصبح ملزمة والتي تؤدي خيانتها إخلاء سبيله من الجماعة ويخرج هذا الشخص مسدسًا من جيبه ويطلب من المرشح تحسس المصحف والمسدس والقسم بالبيعة وبعدها يصبح المرشح عضوًا في «الإرهابية».
مهما فعلوا، مصر وكما يقول المفسرون؛ كنانة الله في أرضه من رماها أحد بسوء إلا أخرج الله من كنانته سهامًا فرماه به فأهلكه.