قراءة في نتائج قمة سان بطرسبورج| عودة روسيا إلى أفريقيا قرار مصيري

القادة والزعماء المشاركون بالقمة الأفريقية الروسية
القادة والزعماء المشاركون بالقمة الأفريقية الروسية

■ كتب: أيمن موسى

استضافت مدينة سان بطرسبورج الروسية التى تعتبر بمثابة العاصمة الثانية لروسيا قمة «روسيا - أفريقيا» فى نسختها الثانية فى الفترة من 27- 28 يوليو، حيث تباينت التقديرات سواء قبل أو بعد القمة حول أهميتها ومدى تأثيرها على العلاقات بين روسيا ودول القارة أو حتى مدى نجاح روسيا فى العودة بذات القدرة والقوة التى كان عليها الاتحاد السوفيتى السابق.

ولكن قبل الخوض فى مدى صحة هذا أو ذاك من التقديرات يجب أن نعترف بحقيقة أساسية على هذه الخلفية، وهى أن رغبة روسيا فى العودة من جديد للقارة إلى جانب اهتمام دول القارة باستئناف روسيا دورها وتعزيز التعاون معها، هو نتيجة إيجابية فى حد ذاتها بل الأهم من ذلك هو أن الجانبين قد أكدا تلك الرغبة بشكل عملى لا يدع أى مجال للشك.

إن من يتذكر تنظيم روسيا للنسخة الأولى من القمة فى 2019 والنسخة الثانية منها فى 2023 لن يجد أى مجال لعدم الاعتراف لروسيا بالقدرة الفائقة على تنظيم مثل هذه الفعاليات الضخمة بالشكل الذى يليق بوضعها كدولة عظمى، وتقديرها للضيوف الذين يحلون عليها وقدرتها على توفير من يمثلون لها قيمة خاصة دون ترك أى انطباع لدى أى طرف آخر بأنه يحتل أية مكانة أقل، وخير دليل على ذلك هو أسلوب استقبال الرئيس الروسي بوتين للرئيس عبدالفتاح السيسي، وهو الأسلوب الذى يؤكد بجلاء أن الرئيس بوتين لا يعتبر الرئيس المصرى مجرد شريك أو رئيس دولة لها تعاون وثيق مع روسيا، بل إنه الرجل الذى يوقره ويوقر دوره البارز فى بلاده والمنطقة بل وعلى المستوى الدولى، ومن يتابع كلمة الرئيس الروسى سواء خلال لقائه مع الرئيس السيسى أو خلال الجلسة الرئيسية للقمة سوف يلمس على الفور أن بوتين يعتبر الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي شريكا أساسيا له فى القمة وفى مسيرة تعزيز علاقات روسيا مع القارة، حيث صرح بوتين فى كلمته «بأنه فى القمة الأولى كانت مصر رئيسا للاتحاد الأفريقى وكان لها دورها فى نجاح القمة الأولى، بينما فى القمة الثانية فمصر تعتبر رئيس برنامج الإنماء الأفريقى وهو ما يعطى روسيا مساحة للحديث مع مصر عن الكثير فى هذا المجال».

وفي كلمته فى الجلسة الرئيسية تحدث الرئيس الروسى عن إمكانية تحقيق الكثير من المشروعات المفيدة بين بلاده والدول الأفريقية، واستدل على ذلك بتجربة التعاون مع مصر التى تمخض عنها تنفيذ الكثير من المشروعات الضخمة والطموحة سواء فى الماضى أو الحاضر.

◄ اقرأ أيضًا | «مدبولي» يستعرض الرسائل المُهمة بكلمة الرئيس في القمة «الروسية الأفريقية»

◄ قمة سوتشي
لا شك أن تجربة القمة الأولى فى سوتشى كانت ناجحة بالشكل الذى لم يتوقعه الكثيرون، وكما أشرنا فى كتابات سابقة أنه لولا الظروف الدولية الخارجة عن إرادة أحد مثل جائحة كورونا والأزمة فى أوكرانيا، لقطعت روسيا وأفريقيا شوطا كبيرا على طريق تعزيز التعاون بينهما، وهذا بالتحديد ما حاول المشككون الاستناد إليه فى التهوين من قيمة القمة الثانية، واستند هؤلاء على بعض الحقائق للتأكيد على فقدان روسيا القدرة على توسيع التعاون مع دول القارة، وذلك على أساس أنه أمامها العديد من المنافسين الأشداء على غرار الاتحاد الأوروبى الذى يبلغ حجم التبادل التجارى بينه وبين دول القارة 412 مليار دولار ومع الصين 282 مليار دولار ومع الولايات المتحدة 68,2 مليار دولار وحتى مع تركيا 32,8 مليار دولار، ناهيك عن السخرية من حجم التبادل التجارى لروسيا مع دول القارة الذى وفقا لبعض الإحصائيات يصل إلى 18 مليار دولار، ووفقا لتقديرات مركز التجارة العالمى - ITC نحو 10,5 مليار دولار، وسواء صح هذا أو ذاك فنصف تجارة روسيا مع دول القارة هو من نصيب دول شمال أفريقيا وتستحوذ مصر وحدها على ثلث حجم تجارة روسيا مع أفريقيا، علاوة على أن حجم استثمارات روسيا فى دول القارة ربما لا يزيد عن 1% من إجمالى حجم الاستثمارات الأجنبية فى القارة.

إلا أن هؤلاء يتناسون شيئا هاما وهو أن روسيا لديها الكثير مما يمكن أن تقدمه لدول القارة ومما تحتاج إليه هذه الدول بالفعل التى لم تعد ترغب فى أن تصبح مجرد مورد للثروات الطبيعية والمواد الخام التى يستغلها الآخرون بأبخس الأسعار ودون أن تشعر دول القارة بشكل ملموس بقيمة الاستثمارات التى تجرى بها.

لقد حاولت مختلف وسائل الإعلام تصوير ما يجرى فى أفريقيا على أنه «سباق المليارات» أو ساحة التنافس الجديدة بين القوى الكبرى فى العالم، وهذا التقدير ربما يكون صحيحا من بعض الأوجه، حيث حرصت القوى الكبرى فى العالم على عقد المؤتمرات وندوات تنظيم التعاون مع أفريقيا مثل «قمة الصين – أفريقيا» و«الاتحاد الأوروبى – أفريقيا» و«الولايات المتحدة - أفريقيا» واليابان والهند، وقبل ذلك الأمم المتحدة، وكافة هذه القمم تدل بجلاء على وجود تسابق محموم على تعزيز وتوسيع التعاون مع القارة التى تمتلك احتياطيات ضخمة من الثروات الطبيعية، هذا التسابق لو ظل على وضعه الحالى لن يكون فى مصلحة القارة ما لم تكن هى المبادر بتوزيع أدوار المتسابقين عليها، أى أنه يتعين على دول القارة قبل المشاركة فى القمم المختلفة مع القوى المختلفة أن تجتمع مع بعضها البعض وتوحيد كلمتها والاتفاق على اتجاهات مشتركة فى التنمية للاستفادة من الاستثمارات الخارجية الضخمة فى تحقيق مشروعات كبرى تحقق الفائدة على مختلف دول القارة مجتمعة.

◄ طريق العودة
حاول بعض المشككين أن يوحوا بأنه يغيب عن روسيا خريطة طريق للعودة إلى أفريقيا، وفى نفس الوقت لم يوضح هؤلاء ماهية خرائط طريق الدول الأخرى، حتى أن بعض المحللين وأكبر مراكز التحليل فى روسيا مثل «نادى فالداى للنقاش السياسي» الذى يهتم الرئيس الروسى كثيرا بتقديراته حاولوا الإيحاء بأنه فى المرحلة الأولى وبينما تتحسس روسيا طريقها فى أفريقيا أن تتابع وتدرس تجارب القوى الأخرى التى لها تعاملات واستثمارات كبيرة فى القارة للاستفادة منها، ولكنى هنا أشير إلى أنه من المهم جدا بمكان للقارة الأفريقية أن تكون لها خريطة طريق مشتركة للتنمية خاصة بها بما يحقق لها التوازن فى العلاقات مع الدول الكبرى والاستفادة منهم جميعا فى مجال تنفيذ المشروعات التى تحقق لها طموحات شعوبها، وفى نفس الوقت لا تدع الفرصة أمام القوى الكبرى للعب على الخلافات سواء بين مختلف فئات وطوائف الشعوب وبين الدول بعضها البعض إعمالا لمبدأ فرق تسد والإبقاء على حال العداء والفرقة بين مختلف دول القارة لاستغلال واستنفاد ثرواتها.

أعتقد أن القيادة الروسية تدرك ذلك جيدا وتدرك أنه رغم وجود فارق كبير بين إمكانيات روسيا المادية وإمكانيات القوى الأخرى إلا أنه لدى روسيا قدرات تمكنها من توسيع التعاون مع دول القارة وفقا لتصورات واعية لاحتياجات دول القارة وهذه التصورات تدرك القيادة الروسية أنها متوفرة لدى مصر التى طرحت فى الكثير من المناسبات والفعاليات مقترحات حول تنفيذ مشروعات تربط دول القارة ببعضها البعض وتحقق لها التنمية المستدامة بشكل مشترك وقبل كل شيء تحقق لها الاستقلالية الحقيقية والفكاك من سيطرة القوى الخارجية عليها.

هذه الأفكار التى ما فتئت مصر تطرحها بقوة فى كافة المحافل وجدت انعكاسها الواضح على البيان الختامى لقمة «روسيا – أفريقيا» الذى شمل 74 بندا مقابل 47 فى بيان القمة السابقة، وهو ما يدل على أن القمة الحالية كانت قمة قائمة بذاتها ولم تكن مجرد نسخة من القمة السابقة، ويمكن تقسيم بنود بيان قمة 2023 إلى عدة أقسام، على رأسها يأتى القسم «السياسى والأمنى»، الذى ينطلق من العمل المشترك فى مواجهة الاستعمار الجديد ورفض سياسات الإملاء والعقوبات خارج إطار الشرعية الدولية ومحاولات فرض قانون دولى موازٍ للقانون المتعارف عليه وغيرها من الاعتبارات التى تحقق العدالة فى المعاملات الدولية، وعلى رأسها العمل على قيام نظام عالمى جديد يقوم على التعددية القطبية، وشخصيا أعتقد أن النقطة الأخيرة يجب أن تحظى فى هذا القسم بالاهتمام الشديد من جانب القارة الأفريقية وغيرها من مناطق العالم التى ظلت دائما فريسة للمنافسات بين الدول الكبرى، حيث يتعين على دول القارة أن تجتمع على تصور مشترك لدورها فى النظام العالمي بحيث لا يصبح النظام العالمى الجديد مجرد استنساخ للنظام السابق مع اختلاف عدد الفاعلين فيه ونطاقات نفوذ كلٍ منهم، وربما يتفق ذلك مع ما دعا إليه السكرتير العام لمنظمة الوحدة الأفريقية من ضرورة حصول القارة الأفريقية على التمثيل الدائم لها فى مجلس الأمن الدولى.

أما «الشق الأمنى» الذى يحظى أيضا باهتمام روسيا على اعتبار أنه لا مجال للتنمية وتشجيع الاستثمار دون توفر الاستقرار السياسى والأمنى، فقد اتسع مفهومه فى نص البيان الختامى ليشمل ضرورة التعاون فى مجال تسوية المنازعات بين دول القارة والعمل على إنشاء آليات للإنذار المبكر من إمكانية نشوب النزاعات وهو أمر هام للغاية، على اعتبار أن الأوضاع الأمنية فى دول القارة تؤثر فى بعضها البعض وعلى اعتبار أن التفكير فى تنفيذ قاعدة مشتركة بين دول القارة سوف يتطلب توفير الاستقرار والأمن للجميع.

◄ الغذاء والاقتصاد
وهناك «القسم الاقتصادي»، وربما يكون هذا القسم هو الأوسع مجالا، وشمل الاتفاق على التعاون فى الكثير من الاتجاهات بما فى ذلك التعاون فى مجال رفع العقوبات عن مختلف الدول الأفريقية مع الإفراج عن الاحتياطيات النقدية المجمدة والمساعدة فى ضم دول القارة فى مجموعة العشرين وإعادة النظر فى قواعد منظمة التجارة العالمية وتعزيز تعاون القارة مع مجموعة بريكس وشنغهاى وغيرها من المنظمات الدولية والإقليمية المختلفة.

والاتجاه الثاني هو التعاون في مجال توفير الأمن الغذائى وأمن الطاقة لدول القارة من خلال تنفيذ مشروعات مشتركة فى مجال الزراعة والتصنيع الزراعى والطاقة والمياه والرى وغيرها من القطاعات التى تحد من اعتماد دول القارة على القوى الخارجية فى تدبير الاحتياجات الأساسية للسكان.

والاتجاه الثالث هو مساعدة دول القارة فى مجال التصنيع واستغلال ثرواتها وقدراتها فى تصنيع وإنتاج سلع وبضائع سواء للاستهلاك المحلى أو التصدير.

وكافة هذه الاتجاهات وغيرها كما أشرنا من قبل ينبغى أن تنبع من دول القارة، بحيث تحدد احتياجاتها وتفكر بشكل جماعى فيما يمكن تحقيقه من مشروعات تربطها ببعضها البعض وتحقق الفائدة المشتركة بما فى ذلك فى مجال الرى والاستغلال الرشيد للمصادر المتاحة للمياه وتنفيذ مشروعات طاقة كبرى توفر الطاقة بشكل جماعى وغيرها من المشروعات التى تظهر حركة القارة بشكل جماعى وبما يؤهلها لتبوؤ المكانة الحرية بها فى أى نظام عالمى قادم.

ويأتى القسم الثقافى والإنساني، الذى يعترف بحق القارة فى إعلاء قيمها ومنظومتها الأخلاقية بعيدا عن التطرف والمغالاة والقيم المفروضة عليها من الخارج، وبطبيعة الحال فإن كل ما تقدم لا يمكن تصور تحقيقه دون الارتقاء بالتعليم والثقافة وهما عاملان تتمتع فيهما روسيا بميزة جربتها القارة الأفريقية فى السابق، لذلك فروسيا اليوم تخطو خطوات عملية فى هذا الاتجاه سواء من خلال مضاعفة عدد المنح المقدمة لدول القارة أو من خلال تقديم جامعاتها ومراكزها التعليمية والدراسية للتوسع فى مساعدة الدول الأفريقية فى تدريب الكوادر فى مختلف المجالات إلى جانب الاتجاه لإعادة فتح المراكز الثقافية الروسية فى مختلف الدول الأفريقية وفتح أفرع لجامعاتها فى مختلف ربوع القارة الأفريقية.

◄ الاتجاه الإنساني
وتمثل الاتجاه الإنسانى فى إظهار روسيا لظروف القارة فى الوقت الراهن وفى ظل أزمة الغذاء، لذلك بادر الرئيس الروسى بالتعهد بتوفير احتياجات القارة من الحبوب مع الوعد بتقديم كميات كبيرة منها للدول الأكثر احتياجا دون مقابل، كما تحدث الرئيس الروسى عن إيفاد بعثات طبية وإقامة تعاون واسع النطاق بين مختلف المراكز الطبية فى روسيا وبين الدول الأفريقية لمواجهة مختلف أنواع الأمراض والأوبئة المنتشرة فى القارة.

وبذلك يمكن القول بأن عودة روسيا لأفريقيا هو قرار مصيرى صدر ولا رجعة فيه وأن روسيا تسير بالفعل على هذا الدرب بخطى محسوبة بعناية حتى لا تقع فى فخ التسابق مع أحد، خاصة إن كان يتمتع بإمكانيات وظروف أفضل مما هى عليه فى الوقت الراهن، كما أن روسيا تعى جيدا أن بُعدها لفترة طويلة عن القارة أفقدها أدوات تأثير وعليها العمل على إعادة بنائها عن طريق وضع إطار فكرى وعملى سواء بالعمل المشترك على حل المنازعات ودرئها وتعزيز التعاون الجماعى بين دول القارة، كما تدرك روسيا جيدا أن عودتها للقارة ستكون من خلال بوابة مثالية، واعترفت بأن خير بوابة للعودة للقارة هى مصر التى ربما مرت بتجربة مماثلة للتجربة السوفيتية فى القارة ولكنها أعلم الجميع بمشاكل القارة وسبل حلها.