جاء من قرية سندوب وأشعل القاهرة بالفن:شعبان يوسف يكتب :محمد حجى ملك البورتريه

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

لم تكن طفولة الفنان محمد حجى سهلة أو مريحة فى قريته «سندوب» التابعة لمحافظة الدقهلية. السنوات الأولى له كانت شاقة وعنيفة وتحمل قدراً كبيراً من المعاناة، محمد هو الشقيق الأكبر لسبعة من الأخوة، مع العلم أن شقيقه الثانى المقاتل والطبيب البيطرى أحمد حجى شارك فى معارك المدفعية الضاربة عامى 1969 و1970 أثناء حرب الاستنزاف بكل طاقته، وتوفى فى مطلع 1972 إثر معاناة قاسية وهو على خطوط المواجهة، قبل انتصار أكتوبر 1973.


كان الأب مزارعاً فقيراً - كما حكى محمد حجى للناقد فؤاد دوارة فى مجلة الطليعة، نوفمبر عام 1973- ورغم ذلك الفقر، إلا أن هناك دلالات قويةً على الصبر والعناد والإرادة، وكان قد بدأ حياته أجيراً معدماً، وفى صباًه هام بابنة أحد الإقطاعيين، وبادلته الفتاة الحب، فهدده أهلها بالقتل إن لم يترك الفتاة فى حالها، وتبعاً لذلك هجر الأب العاشق القرية، وقرر بينه وبين نفسه أن يصبح ثرياً مثل هؤلاء الإقطاعيين لكى يستطيع مواجهتهم ودحر طغيانهم وظلمهم الذى استشرى فى البلد.

اقرأ ايضاً| انتصار محمد تكتب :ثورة 23 يوليو فى عيون السينما المصرية


اقتصد الوالد من أجره المحدود الذى يتقاضاه ما استطاع أن يشترى به اثنى عشر فداناً من الأراضى البور، أخذت تزداد حتى قاربت المائتين، وتحولت بعد عمل ودأب شاقين، إلى أرضٍ خصبةٍ ونافعة ومثمرة. ودون استطراداتٍ فى قصة الوالد، نقفز سريعاً إلى أن ذلك الثراء أغراه لكى يدخل فى مضارباتٍ ومغامراتٍ مالية كبيرة، وانتهى الأمر به إلى الإفلاس، حتى أن اقتنع فيما بعد بامتلاك خمسة أفدنة وُزعت عليه تطبيقاُ لقانون الإصلاح الزراعى بعد قيام ثورة 23 يوليو عام 1952.


لم يعِ محمد وأحمد وبقية الأخوة، ذلك الثراء الذى عاشه الوالد فى السنوات السابقة، ولكنهما أدركاه، وهو فى حالة مالية ليست على ما يرام. يقول محمد إنه عرف وشقيقه أحمد فى طفولتهما كل مظاهر الفاقة والحرمان، وسارا فى أزقة القرية حافيين، بملابس ممزقة، ومع ذلك أحسا بأنهما مغتربان عن أطفال القرية، نتيجة لثراء أبيهما الذى كان، وعزلته عن أهل القرية، وبيتهم الكبير، وهو الأثر الوحيد الباقى من العز الغابر الذى لم يشهداه، وأصر الوالد على الاحتفاظ به رغم المعاناة المالية التى أحاطت به، وربما منحهما العناد، الذى ورثاه عن الوالد، قدراً من التصميم والإرادة ليحققا أمجاداً كبيرة على مستويات عديدة.


ترك الفقر الذى تعيشه القرية، مشاعر معادية لبقايا الإقطاع والرأسمالية الزراعية، وكان محمد وأحمد قد أتما تعليمهما الثانوى، وانتقلا إلى القاهرة. دخل محمد كلية الفنون الجميلة، وأحمد كلية الطب البيطرى، وفى تلك المرحلة كانت القراءة النهمة أحد أشكال مقاومة الظلم، وكان الكتاب بالنسبة لمحمد زاداً مهماً أكثر من أى شىء آخر فى حياته، ورغم وجودهما فى القاهرة، إلا أن صلتهما بالقرية ظلت قائمة، وعملا على تحريض أهل القرية، وفى عام 1961 أعدا مجلة حائط فى القرية للتعبير عن كل ما يدور فى رءوسهم من أفكار كثيرة، وشرعا فى إنشاء مشروع محو الأمية، وقد عانى الأخوان فى البداية من معارضة أهل سندوب، لكن إصرار محمد وأحمد على إنشاء ذلك المشروع أتى بنتائج إيجابية كبيرة، وفى سنة 1963 تخرج من المشروع مائتان من الفلاحين والفلاحات.


وقصة العمل التوعوى والتثويرى فى قرية سندوب للأخوين طويلة، ولكن قال لى الأستاذ والباحث الفلسطينى عبد القادر يس، والذى كان قريباً من محمد حجى، أن الأخير كان قد ارتبط بالمنظمات اليسارية فى أواخر الخمسينيات، وقد كان طالباً فى كلية الفنون الجميلة، ومسئوله السياسى هو الفنان محمد حمام. قبض على حمام فى عام 1959، لكن محمد حجى أفلت من ذلك الاعتقال الشهير. ثابر حجى فى الكلية حتى تخرج، والتحق بالعمل الصحفى، وفيما بعد استقرت قدماه فى مؤسسة روز اليوسف التى تعج بالفنانين الكبار من طراز: حسن فؤاد وصلاح جاهين وجمال كامل وإيهاب شاكر، ورجائى ونيس، وجورج البهجورى، وأحمد حجازى الشهير بـ «حجازى»، ومن دفعة حجى كان الفنان أحمد اللباد وغيرهم من الفنانين العظماء، ورغم أن معظم رسامى مجلتى روزاليوسف وصباح الخير كانوا رسامى كاريكاتير، إلا أن محمد حجى سار على خطى جمال كامل العظيم.

وهو من أكبر وأبدع وأجمل رسامى البورتريه، كذلك أبدع حجى فى البورتريه قبل أن ينتقل إلى المرحلة السيريالية عام 1969، عندما رسم سلسلة حلقات كتاب «التفسير العصرى للقرآن» للدكتور مصطفى محمود، ثم بعض حلقات الرواية الفذة «فساد الأمكنة» لصبرى موسى، وقبل ذلك رسم مئات البورتريهات لكثير من الفنانين والكتاب والشخصيات السياسية بالفحم والألوان معاً، بخطوطه الجميلة، واستطاع أن يتميز عن رسامى البورتريه، واقتفى آثار أسلافه، وطور من نفسه وترك بصمة ظلت تنمو حتى صار مدرسة مهمة فى عالم البورتريه، وبرع منذ منتصف عقد الستينيات فى وضع الرسوم التى صاحبت القصص فى مجلة «صباح الخير»، وقد بدأ فى 25 أغسطس عام 1966، بقصة للكاتب الشاب حازم محمد هاشم، عنوانها «راجل جدع»، وصاحبت القصة رسمة محمد حجى مع توقيع مميز، صار مشهوراً به فيما بعد، رغم أن له توقيعات أخرى، لم تطغ على شهرة توقيع مغامرته الفنية الأولى، والرسمة كانت بارزة الملامح، فقد تميز حجى فى تلك المرحلة، بإبراز الملامح النفسية لكل شخوصه بوضوح واقعى لا لبس فيه، وصارت تلك طريقته قبل أن ينتقل - كما ذكرت - إلى المرحلة السيريالية، ومن بعدها إلى المرحلة الروحانية، ومارس ذلك التطور عندما سافر فى مهمة عمل إلى الجمهورية الليبية عام 1973، ليقضى هناك أربعة أعوام، ويعود فى عام 1977، وهناك أنجز كتاباً عنوانه «رسومات من ليبيا»، صدرت طبعته الأولى عام 1984 عن الدار العربية للكتاب.


وفى العدد التالى من مجلة صباح الخير، نُشرت قصة بعنوان «الغريب» للكاتب الأردنى المصرى غالب هلسا، صاحبتها رسمة بديعة، تألق فيها حجى بامتياز، وظلت رسوماته تتواتر فى المجلة، وتم الاستعانة به فى الموضوعات الرئيسية فى المجلة، ومنها: موضوع عنوانه «عفريتة والت ديزنى» كتبته من باريس الصحفية أمينة حلمى، إثر حالة كاسحة عمت فرنسا وجاءت تحت عنوان «موجة جديدة فى أوروبا، اسمها الفكاهة السوداء»، وجاءت رسمة حجى مصحوبة بفقرة طويلة تقول: «أمام منضدة التحريك، رينيه لالو، يرفع لوح البللور عن المنظر ويحرك الشخصية المقصوصة إلى أجزاء بسيطة بمساعدة ملقاط دقيق، ثم يعيد الغطاء البللورى ويلتقط للشخصية فى هذا الوضع صورة واحدة أو صورتين متماثلتين أو ثلاثاً قبل أن يحركها مرة أخرى، وذلك حسب السرعة التى يريدها لها فى الفيلم»، وهذا التوضيح النثرى الذى رافق الرسمة، يدل على تلك المرحلة الواقعية التى بدأ بها حجى، وانغمس فيها لسنوات عديدة، ومن أبرز وأبرع ما رسمه للمجلة، بورتريهات لتوفيق الحكيم وعماد حمدى ونور الشريف فى بداياته وغيرهم من كتّاب وفنانين وقادة.


وكما رافقت رسومات رجائى ونيس كتابات مصطفى محمود، ورسومات حجازى كتابات عبد الله الطوخى النهرية، رافقت رسومات محمد حجى كثيراً من الكتاب المرموقين، مثل: عبد الرحمن الخميسى، ثم كامل زهيرى وعلاء الديب، وهذه الغزارة من الرسومات، أعطت مصداقية كبيرة للفنان الشاب، وراحت المجلة ترسله فى رحلاتٍ إلى القرى، وكان قد أيقن تماماً بثورة يوليو، ففى 11 سبتمبر أجرى موضوعاً بديعاً كتابة ورسماً تحت «درين فى الجلباب الأبيض»، وكتب حجى مقدمة جاء فيها: «كانت (درين) أول قرية تتسلم عقود تمليك الأرض، كان ذلك يوم 9 سبتمبر 1953، وفى سبتمبر 1963 فكر أبناء الدقهلية فى الاحتفال بهذا اليوم فى (درين)، وكان احتفالاً رائعاً عظيماً، أوحى بفكرة عيد الفلاح، وليس هناك قرية مصرية ذاقت ما ذاقته (درين) على يد البدراوى وأسرته، كان محرماً على الفلاحين كل شىء، حتى الجلاليب البيضاء والأحذية والملابس الداخلية، بل وحتى عمل الجيوب للجلاليب الزرقاء، والتى لابد أن تكون زرقاء، وليس هدفى اليوم أن أتحدث عن مظالم الإقطاع، فذلك موضوع قد انتهى، أنا فقط أحكى لكم عن درين اليوم..


عندما نزلت القرية، والتقيت بأهلها، كانوا جميعاً يلبسون الجلاليب البيضاء الناصعة، قال لى الشيوخ: «الحمد لله.. احنا فى نعمة كبيرة بالنسبة لزمان، حد كان يصدق؟ ولكن الشباب الذين ولدوا ولم يروا للبدراوى ولا للإقطاع خلقة». قالوا: «لا... درين فى إمكانها تكون أحسن من كده بكتير»، قلت: «إزاى؟»، بعد ذلك يستطرد حجى فى رسم الشخصيات التى قابلها من شباب القرية، وصاحبت الرسوم كلماتهم التى كانت تشهد على واقع فى أزمةٍ آنذاك، أزمة تحتاج إلى حلولٍ، وكانت الرسوم معبرة جداً.


ورغم أن الحديث عن محمد حجى يطول، إلا أنه لا يمكن أن يغطى على كافة الجوانب التى تطرق إليها ولم نأتِ على ذكرها هنا، مثل دوره فى تطوير صناعة الأغلفة والكتاب فى العقود السابقة.