الافتراض المزدوج للسرد

ميلان كونديرا
ميلان كونديرا

فور ورود نبأ وفاة ميلان كونديرا فى باريس، التزم البرلمان الأوروبى دقيقة صمت حداداً على الكاتب الشهير والمنعزل الذى حولته مؤلفاته إلى كاتب منفي، يهجو الاستبداد ويستكشف الهوية والحالة الإنسانية. كما غرد رئيس الوزراء التشيكى بيتر فيالا تعليقًا على وفاته: «استطاع ميلان كونديرا الوصول إلى أجيال من القراء عبر جميع القارات بعمله، وحقق شهرة عالمية. لم يترك وراءه عملًا روائيًا رائعًا فحسب، بل مقالات مهمة أيضًا. كانت حياته رمزًا للتاريخ المضطرب لبلدنا فى القرن العشرين. وسيبقى إرث كونديرا حياً فى أعماله». كان كونديرا يحمل الجنسيتين الفرنسية والتشيكية التى فقدها ثم استعادها. وتُرجمت رواياته إلى عشرات اللغات، إلا أنه كان يمقت الدعاية المصاحبة لها، رافضًا إجراء مقابلات إعلامية.

طموح الواقعى
تظهر قراءة «جاك القدري» و»غراميات مرحة» على الفور مفارقات جمالية حادة. كيف لا تصدم بواقعية قصة مدام دو لا بوميراى والأب هدسون؟ وكيف لا نرى، قبل كل شىء، التناقض العنيف بين هذه الواقعية واللاواقعية الشاملة التى تُغمر فيها رحلة جاك وسيده؟ رحلة «بلا جسد» فى إطار بعيد الاحتمال؛ رحلة من أجل لا شىء ونحو اللامكان تشبه بشكل لا لبس فيه رحلات - ذرائع فولتير، الأكثر ارتباطًا بإرفاق بعض التأملات الفلسفية للقصة بدلًا من إضفاء الحيوية على شخصيات يمكن تصديقها، ومع ذلك، يقول جاك القدرى أكثر من كانديد، الذى يشار إليه أحيانًا: إلى عدم واقعية الحكاية والرحلة الرمزية، يضيف على وجه التحديد قصص طفيلية ثانوية، وتتحدى القارئ من خلال دقة الخط، ولكى نكون صادقين، من خلال واقعيتها. كيف نتعامل مع عدم الاتساق الواضح هذا؟ وعلى نحو محدد: كيف نفسره؟


بعد قرنين من الزمان، نشر ميلان كونديرا عمله: غراميات مرحة، مجموعة من القصص القصيرة المرتبة بذكاء (وفقا لعدد المراجعات المتتالية) تقدم تقريبًا نفس الخصائص الغريبة التى تتميز بها رواية جاك القدري. اللعبة بين المستمر-فى الموضوع، والعناصر المتكررة- والمتقطعة- تشظى القصة إلى مقاطع سردية متعددة، خاصة أن غراميات مرحة تنأى بنفسها مثل جاك القدري، عن الجماليات الواقعية (على سبيل المثال، كما سنرى، من خلال بارودي) مع الاحتفاظ بوضع واقعى يمكن تحديده تمامًا: براغ وضواحيها وأجواء تشيكية نموذجية. إذا كانت الرحلات، فى غراميات مرحة، تنطلق إلى مكان ما ومن أجل شىء ما، مع ذلك يبقى، لأسباب باقية لم تحدد بعد، انطباع من الشك حول ما نقرأ، وعدم اليقين فى ما يتعلق بصدق التفسير. لذلك فإن السؤال نفسه يطرح هنا: ما رأيك فى هذه المفارقة؟ هل يكشف الوجود المتزامن للواقعية وتحديها عن نية المؤلف، وإذا كان الأمر كذلك، أى نية؟
لذلك يبدو فى جاك القدرى كما فى غراميات مرحة، أن حركة مزدوجة تتشكل وتقبل الواقعية وترفضها فى آن. هذا هو الغموض الأساسى الذى يجب أن نحاول كشفه الآن.


اللحظة الواقعية
فى دراسته حول جاك القدري، عَلِق جاك سميتانكسى فى هذا التناقض القوى وتمكن من الخروج بصعوبة: لقد أدرك فى البداية أن الواقعية محدودة بسبب عدم اتساقات معينة وتذبذبات معينة فى القصة، لكنه مع ذلك اختار تفضيل القراءة الواقعية للرواية من خلال إظهار أنها تقوم على ما يسميه «لذة الواقع».


بالتأكيد، تصوير الأعراف والمجتمع فى ذلك الوقت لا شك إنها دقيقة، وبالتأكيد تتوافق نفسية الشخصيات بلا شك مع انشغالات العصر. لكن مع كل ذلك، لا يمكننا اعتبار جاك رواية واقعية. نعتقد على العكس من ذلك، إذا كانت هناك واقعية معينة موجودة فى قصتينا، فهى بعيدة كل البعد عن الوجود فى كل مكان، وأنها تغطى على أى حال تساؤلات أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه. تظل هذه المشكلة الجمالية الأولى متناقضة فى الأساس: ونهاية «القصص» التى رواها ديدرو وكونديرا كافية لإظهارها.


بعد أن أشار مرارًا وتكرارًا إلى أن قصته، التى لم يكن لها بداية حقيقية، لن تنتهى أيضًا، وخاصة بعد انتقاده العنيف والمتكرر للروائيين فى عصره الذين لجؤوا إلى الوثائق الزائفة لإثبات صدقية قصصهم، إلا أن ديدرو يكرس نفسه لهذه الحيلة السردية لإغلاق الرواية. تكشف هذه النهاية عن كل غموض مقاربته: فهى تتضمن بعدًا نقديًا من خلال جانبها الساخر الواضح (نحن فى قلب نموذج أصلى للنهاية السعيدة على أساس مشهد تعارف)، لكنها مع ذلك تشكل نهاية؛ كأننا على الرغم من كل شىء، حتى بفتور، كان علينا الاستسلام للمواضعة؛ كما لو كان هناك خطر فى عدم إنهاء القصة بحدث نهائي، حتى لو كان مصطنعًا تمامًا. لذلك لا يوجد انقطاع مفاجئ فى السرد، هذه النهاية لا علاقة لها بالافتتاح، حيث انفجر النص حقًا أمام أعين القارئ. هنا، يمكن تحديد الخاتمة بوضوح على هذا النحو. إنها «تتويج» بطريقة ما عمل الرواية بإنتاج تأثير كلاسيكى فى الإغلاق.


يشارك كونديرا فى اللعبة نفسها، وإن كان على نطاق مختلف تمامًا، فى نهاية غراميات مرحة. بينما تنتهى القصة القصيرة الأخيرة من المجموعة «إدور والله»، فى جو خيالى يشبه الحلم (على أى حال من خلال غير المعقول) بظهور الله المفاجئ للبطل، وهو التدوين الذى يتبع الكلمات الأخيرة من القصة: كتبت فى بوهيميا بين عامى 1959 و 1968 «خلقت صدامًا بين ما لا يصدق الذى يسبق وبين الزمكان الواقعى جدًا لتقلبات الكتابة، وهكذا يتم التأكيد على التذبذب بين صيغتى الجمال- ويمكن أن يفترض لأنه يقدم بروح الدعابة، هنا نجد أنفسنا فى مواجهة غموض لا يمكن تجاوزه على ما يبدو. لذلك تبدو مشكلة تقاطع الواقعية ومناهضة الواقعية شائكة بشكل خاص، دون أن يتمكن أحد من القول:» ديدرو واقعى «أو» كونديرا مناهضة للواقعية «. من ناحية أخرى، يمكن أن نقول إن الواقعية تظهر فى بعض الأحيان وإن لها، فى جاك القدرى كما فى غراميات مرحة، مناطق معينة. 


المعالم المكانية والزمانية
بالنظر إلى الإطار الجغرافى والزمنى للعمل، من الواضح أن كونديرا أكثر واقعية من ديدرو.
فونتينوا، موقع معركة شهيرة مميتة للغاية للمجندين الشباب، لشبونة، مسرح الزلزال الذى لا يقل شهرة، وكونش، فى نورماندى (النسخة الفرنسية ص.63)، حيث يمر جاك وسيده، تشكل الأماكن الوحيدة المعروفة فى جاك القدري، يتم التخفيف من أهمية هذه العناصر الواقعية من خلال مكانتها فى الحكاية. الأول والثانى ينتميان إلى مستوى ثانوى من السرد، فى زمن بعيد: تم ذكر لشبونة فى الصفحة 75 خلال قصة ف. جان (إشارة إلى كانديد)، وفونتينوا فى الصفحة 36، فى بداية سرد غراميات جاك. الأماكن الدقيقة قليلة جدًا لدرجة أنها تشكل أفقًا أسطوريًا تقريبًا مما يساهم فى اغترابها عن الواقع أكثر قليلًا. لكن فى المستوى الأول من الرواية، رحلة جاك وسيده، لا يوجد مكان محدد بوضوح. فقط قصة مدام لا بوميراي، وهى قصة ثانوية، تدور بوضوح، مع تأثيرات قوية للواقع، فى الفضاء الباريسى (الأم وابنة إينون تأتيان من«الضواحى»).


فيما يتعلق بالزمن، يسود الغموض دون منازع: فقط عن طريق الاستنتاج يمكننا إعادة بناء التاريخ الذى حدثت فيه الرحلة. بفضل معركة فونتينوا (1745)، التى أخبرنا جاك أنها حدثت» قبل ثلاثين عامًا «، يمكننا تقدير أن الرحلة حدثت فى حوالى 1770-1775، بالنسبة للبقية، علينا أن نتعامل مع عدم الدقة: إذا كانت الطبقات الزمنية قابلة للتحديد بشكل أو بآخر، كما هو موضح فى مقالنا البنية المقدم فى الملحق، فلا يوجد شىء محدد بشكل واضح. ثلاثة مستويات من الزمن، مع حدود غير واضحة المعالم.


تتقاطع: زمن صفر، لحظة تلفظ ديدرو المرلف.
زمن1، المستوى الأول من الماضى (الرحلة).
زمن2، ماضى غراميات جاك وكل الأحداث الواقعة بشكل أو بآخر على هذا المحور.
زمن3، الماضى البعيد، قبل غراميات جاك.
هاتان الفئتان الأخيرتان هما تلك التى تطرح المشكلة الأكثر حساسية: إنهما تشكلان سديمًا حيث يستحيل التمييز بوضوح بين تسلسل الأحداث. يقدم العديد من هذه الأخيرة دون معرفة ما إذا كانت تحدث قبل أو بعد غراميات جاك، مما يجعل تصنيفها صعبًا، ويكاد يكون غير مجد إعادة تكوين تسلسل زمنى متماسك.


ومع ذلك، إذا كانت الدقة المكانية والزمانية مفقودة فى جاك القدري، فيجب أن ندرك، مع جاك سميتانسكي، أن صورة أعراف المجتمع فى ذلك الوقت مرسومة بدقة. يستخدم ديدرو أحيانًا خطاب المؤلف الضمنى بنفس الطريقة التى استخدمها بلزاك بعد قرن من الزمان، على سبيل المثال فى الصفحة 41 حيث قرر ترك أبطاله فى نزاعهم اللاهوتي، يقوم الراوى برسم صورة للمجتمع فى ذلك العصر، حتى إنه يصر على «سوء الإدارة والبؤس الذى ضاعف عدد الأشرار». بفضل دقة الخط هذه، سيتعرف القارئ على فرنسا تحت النظام القديم كما وصفها منذ ذلك الحين العديد من المؤرخين:


وقت مضايقات الفلاحين الصغار، والإثقال المذهل بالضرائب وانتشار البؤس المعمم. يوضح هذا المثال أن هناك بالفعل «واقعية اجتماعية» فى جاك القدرى، حتى لو كانت فى أغلب الأحيان غير ظاهرة؛ الإيمائية هى بلا شك جزء من جماليات السرد.  يجب أن نلاحظ أيضًا أن استئناف الراوى للصيغة المشفرة لسرد البيكارسكى يقطع شوطا طويلًا فى تبرير هذه الإيمائية الاجتماعية: حسب التقاليد، يتجول البيكارو/البطل المغامر، بالقرب من عامة الناس، فى الريف ويلتقط نوعًا من صورة فرنسا فى عصره. فى منعطف مشهد الساعة المسروقة، أعد ديدرو المشهد: «كان موسم الحصاد: كانت الحقول مغطاة بالعمال»


(ص 61). لم يكن هناك تطور طويل ولكن لمسات صغيرة تساهم فى بناء واقعية بسيطة متواضعة، تلك الخاصة بالواقعة الصغيرة الحقيقية. ما زلنا بعيدين عما يسميه بلزاك «التطور الطويل». على الرغم من عدم وجود تاريخ والغموض الفنى الذى يميز الكون المكانى والزمانى لجاك القدري، فقد تمت استعادة الجو الذى يجعل من الممكن تعبئة المجال المرجعى والثقافى المتاح للقارئ.


فى غراميات مرحة، إنها أيضًا شكل من أشكال «الواقعية الاجتماعية»، أو بالأحرى «الواقعية السياسية» التى تسمح بربط القصة بعالم مرجعى معين. تبدو الزمنية أكثر اتحادًا وأقل تشظيًا مما كانت عليه فى جاك القدري، على الرغم من عدم تحديد موقعها بدقة. إذا لم يتدخل أى تاريخ فى القصص المختلفة، فإن بعض عناصر الكون السياسى الممثل تسمح مع ذلك بتسييق غامض، القمع السياسى الذى يطفو على السطح فى مناسبات عديدة، ولا سيما فى القصة الأخيرة، «إدوار والله»، توحى بأن القصة تدور حول استيلاء موسكو على تشيكوسلوفاكيا.


ويشكل ذكر «لجان الشوارع» و «لجان الأحياء» فى القصتين الأولى والأخيرة تأثيرًا للواقع مما يسمح بوضع العمل تقريبًا فى وقت الكتابة «بين عامى 1959 و 1968». تمثل هذه السنوات فى الواقع الحقبة الكاملة للتنظيم الطبقى والهرمى للمجتمع الشيوعى حيث لكل فرد الحق فى النظر إلى تصرفات جاره. فى هذه القصص، فإن الرسم الاجتماعى والسياسي، الموجود بشكل تلميحي، كما لو كان فى الخلفية، يسمح بالتالى بوضع السياق المكانى والزمانى المحيط بالسرد.


من ناحية أخرى، بالنسبة إلى القصص الأخرى مثل «المحاورة» أو «ليخل الموتى القدامى للموتى الجدد» فإن التأريخ والموضعة أكثر دقة: تحدث المؤامرات فى عالمين رمزيين غير محققين للغاية لأنهما  غير محددين للغاية.


لا ينطبق الأمر نفسه على الغالبية العظمى من مواقع غراميات مرحة التى تبين بعد التحقق أنها واقعية تمامًا. يتم احترام عالم براغ بدقة فى «لن يضحك أحد»، القصة الأولى ولكن أيضًا القصة ذات الإطار المكانى الأكثر تفصيلًا. المدن والقرى المحيطة، سيلاكوفيتشى (ص13)، ليتوميسيل(ص 21)، تشكل مراجع حقيقية للقارئ التشيكى القادر على تصور هذه الأماكن. بالإضافة إلى ذلك، تفاصيل صغيرة عن الحياة التشيكية، مثل شرب «سليفوفيتس»(ص 12)، والمشروب الوطني، تكمل صورة واقعية لكون براغ، وذكر أماكن معينة، مثل ميدان فاتسلاف فى بداية قصة «التفاحة الذهبية للرغبة الأبدية»(ص 59) أو «شارع القصر»(إشارة إلى كافكا، حاضر جدًا فى جو هذه القصة)، وفى قصة «لن يضحك أحد»(ص 31)، يعيد بأمانة جغرافية العاصمة التشيكية.


يساهم إطار نبع الماء الحار فى القصة السادسة، «دكتور هافيل بعد عشرين عامًا»، بنفس الطريقة فى واقعية السرد: حتى لو لم يذكر اسم المدينة، فإن الصورة الحقيقية للمكان التى رسمها كونديرا (ص 215 وما يليها) يجعل من السهل التعرف على كارلوفى فاري، مارينياد سابقًا، على أنه «منتجع صحى حيث تدور هذه القصة»(ص 217).


لذلك، فى الكتابين، يختلط عدد معين من العناصر الواقعية، غالبًا ما تكون ذات طبيعة اجتماعية وسياسية، بآثار عدم الواقعية وعدم التحديد. ولكن إذا أخذنا هذه القصص الآن فى استمراريتها، فإننا ندرك أن الواقعية، التى رأيناها بالفعل كانت دقيقة نسبيًا، تظهر فى موجات، فى بعض الأحيان، وبالتالى فهى تستجيب لحاجة تتعلق، على ما يبدو، بمحتوى القصة.


تحديد اللحظات الواقعية
يمكننا أن نقول عن واقعية ديدرو وكونديرا إنها «موضعية» وليست «شاملة» كما يمكن أن تكون واقعية بلزاك. إنها الواقعية العرضية التى تظهر فى لحظات محددة جدًا من القصة، كما يوضح الرسم التخطيطى لدينا، تميل الواقعية من النوع البلزيكى إلى جعل المجال الخيالى يتطابق مع مجال الواقع (يتم تعريف مساحة الالتقاء بين هذين المجالين على أنها جماليات المحاكاة حيث الأماكن والأزمنة والشخصيات هى تلك الخاصة بالواقع).


على العكس من ذلك، تميل الواقعية «المقترة» والجزئية و»الموضعية»، مثل الواقعية لدى ديدرو وكونديرا، إلى تقليل تراكب المجالين إلى حد أدنى حيوي. فى هذا النظام السردي، يترك مكاناً أكبر لإبداعات الخيال المحضة: وهكذا يتم دمج مجال الواقعى فى العملية الروائية لجزء صغير فقط.


النظام الواقعى المقتر لنظام الواقعى التقليدى
يمكن اعتبار مرحلتين من السرد كمرحلتين واقعيتين بشكل نموذجى فى جاك القدرى: قصة السيدة دو لا بوميراى وقصة الأب هدسون. تقودنا عدة معايير إلى هذا الاستنتاج. لهاتين القصتين الداخليتين بداية ونهاية ومهنستان معماريًا حول حبكة واضحة تمامًا ويمكن تحديدها؛ وهو بالطبع بعيد كل البعد عن أن يكون هو الحال بالنسبة إلى جميع القصص التى تتقاطع فى الكتاب. 


علاوة على ذلك، يوضح ملخصنا للمقاطع السردية، المقدم فى الملحق، أنه على عكس القصص الأخرى، التى يصعب تحديدها على هذا النحو لأنها متقطعة للغاية، فهذه القصص غير مقطعة نسبيًا. من المسلم به أن قصة مدام دو لا بوميراى تبدأ فى الصفحة 143، ثم تترك لسبع عشرة صفحة. ولكن عندما تستأنف، فإنها تذهب إلى نهايتها. الانقطاعات الستة التى تتدخل بين استئناف القصة (ص 160) ونهاية هذه القصة (ص 195) هى اضطرابات أكثر منها انقطاعات: نحن نشرب، نتحدث، نقد نصيحة، لكن الخيط الموضوعى لهذا الجزء الداخلى لهذه القصة داخل الرواية لم ينقطع أبدًا (وهو ما يحدث فى معظم حالات الروايات الثانوية الأخرى)،

ولذلك هناك وحدة موضوعية عميقة وراء الاضطرابات، ويمكننا حتى أن نقول إن هذه الأخيرة موجودة لإحياء الاهتمام بالقصة، لإضفاء الطابع الدرامى على هذا الاهتمام: «أود حقًا أن أعرف ما هى خطتهم»(ص. 174) يعلن السيد، بينما لم يعد جاك يستطيع،ويهتز على كلمات صاحب النزل، أن يكبح قلقه: «لا بد لى من تناول مشروب لأهدىء من روعي»(ص 180)، ولذلك تعيدنا تعليقات المتحاورين دائمًا إلى القصة، دون أن تأخذنا إلى مناطق أخرى مختلفة تمامًا، كما هو الحال على سبيل المثال فى قصة السيد، وأجات وفارس سان وان، بين الصفحة 266، حيث تفتح هذه القصة، والصفحة 296، حيث تنتهي، هناك ستة انقطاعات؛ العدد نفسه من الاضطرابات كما فى قصة مدام دو لا بوميراي، ولكن ذات طبيعة مختلفة تمامًا: تدخلات الراوى «تسحب» تمامًا انتباه القارئ عن القصة التى كان يتابعها. يدرج ديدرو قصة صانع عصير الليمون، بالإضافة إلى العديد من الاستطرادات الشخصية حول جماليات القصة بشكل عام. فى النهاية، سيكون القارئ قد غادر، ثم وجد سبع مرات السيد، وأجات والفارس.


فى قصة مدام دو لا بوميراي، على العكس من ذلك، لا نجد هذا الميل إلى الانتقال غير المنطقي. تؤكد إرادة الاستمرارية الشخصيات نفسها الصفحة 167:
«وإذا ما علقنا لحظة قصة السيدة دو لا بوميراي؟» (جاك)» لا يمكن أن يكون ذلك»(المضيفة)، من المثير للاهتمام أن نلاحظ، فى نفس السياق، أن ديدرو المؤلف يتدخل مرة واحدة فقط (ص 169) خلال السرد (والذي، بالنظر إلى التكرار الطبيعى لمقاطعاته، نادر للغاية). بالإضافة إلى ذلك، فإن هذا التدخل، على عكس كل التدخلات الأخرى، يعزز الواقعية فقط: فهو يصف، فى فقرة واحدة، موقف تلفظ المضيفة بالقصة، مضيفًا مصداقية إضافية وتأثيرًا للواقع. بدقة وصفية قصوى (« على اليسار»،» فى الأسفل «)، تمكن ديدرو من جعل القارئ يتخيل راوية القصة ومستمعيها، وبالتالى عليه أن يصدق أكثر قليلًا ما يقرأ. نحن فى استراتيجية سردية كاملة للوهم الروائي. مرة أخرى، لا يعيق الانقطاع بأى حال من الأحوال نشر الجماليات الواقعية.


أصبحت الجمالية أكثر فاعلية من خلال عملية أن قصة مدام دو لا بوميراى تبدو إلى حد بعيد الأكثر تحديدًا فى الزمان والمكان: حتى لو كنا لا نعرف فى أى عام وقعت الأحداث التى سردت، فإننا نتابع شهرًا بعد شهر، يومًا بعد يوم، وفقًا لتقدم (زمني) منطقى لا تشوبه شائبة. يشار إلى الفضاء الباريسى بوضوح من خلال الإشارة الدقيقة إلى» شارع ترافيرسير» و»فندق هامبور»(ص 191).


من الواضح جدًا أنها ثنائية القطب، حيث توجد أحياء الطبقة العاملة (« وكر القمار ») من جهة والأحياء الثرية (منزل مدام دو لا بوميراى) من جهة أخرى. هذه الواقعية، التى تتعارض مع غياب التحديدات المكانية والزمانية التى لوحظت بالفعل فى القصة الإطارية لجاك القدرى، ليست عائق؛ بل أنها مفضلة. يظهر موقف جاك وسيده، اللذان يستمعان إلى القصة وبالتالى يتم وضعهما فى موقع القراء، المتعة التى يثيرها السرد الواقعى جيد التوجيه. إنهما» عالقان «فى الوهم الروائي، ويلتزمان تمامًا بمحتوى القصة: بينما يبدو أن جاك يعيش القصة من الداخل («خوفى يتضاعف»، ص 180)، يفقد السيد أعصابه أمام مدام دو لا بوميراى حيث لا يمكنه أن يصدق أنها غير واقعية حتى لو قدمنا ​​له الدليل على أنها غير موجودة («مدام دو لا بوميراى هى امرأة سيئة»، الصفحة 184؛ ثم» الوغدة، العاهرة، الكلبة المسعورة»، ص 189). نحن القراء نتفاعل مثل هؤلاء المستمعين للقصة: نحن نلتزم دون تحفظ كبير ونعجب بالفخ الوحشى الذى تضعه الماركيزة للماركيز؛ بينما نلاحظ مع السيد:» يا لها من امرأة شيطان»(ص 180). لذلك يبدو أن العناصر الإبداعية المختلفة للوهم الروائى متحدة فى هذه القصة المركزية. وهو ما سيجعل الراوية تقول فى نهاية قصتها: «لقد أخبرتك بالأمر كما حدث»(ص 196).


قصة الأب هدسون، من جانبها، تذهب إلى أبعد من قصة مدام دو لا بوميراى فى التزامها بالاستمرارية والواقعية. فى الواقع، لا يوجد انقطاع بين الصفحتين 216 و 232. مسار التوجيه المكاني- الزمانى غير مضطرب بأى حال من الأحوال، مما يساهم فى جعل هذه الحلقة واحدة من أكثر الأحداث واقعية من غيرها، تحويل التاريخ إلى قصص قصيرة وتجديل الأفعال والأقوال فى قصة ساخرة وكلها أكثر بهجة. «لم يعد لمفهوم القصة/ التاريخ ذاته الكثير من المعنى، لأن مسيرة العالم كما تظهر لنا غير متماسكة، وتتألف من خطوات إلى الأمام وإلى الخلف، كما يلاحظ جاك بمرارة،» تجرى الحياة فى حالات من سوء الفهم «(ص 89)، أى أنها تتبنى حركة وإيقاعًا يفلتان منا. من خلال الطعن فى فكرة التاريخ هذه، فإن الواقع نفسه هو الذى ندركه. يخرج القارئ من جاك القدرى وغراميات مرحة بعد أن رأوا الأكاذيب والخيال يتراكمان فى فوضى لا توصف. وهكذا يفقد المَعلَم وفكرة الواقع، لأن هذه الكلمة لم تعد تعنى شيئًا فى هذا العالم الذى غرق فى المظاهر والادعاءات.


هكذا فإن المرور عبر الحوار، الذى بدا وكأنه يجسد إمكانية الوصول إلى الحقيقة، ولكنه فى الواقع يعقد كل شىء، وتدريجيًا، من خلال طمسها، دمر مرجعية الواقع، التى يتم إنكارها فى الاختراع الروائي. تضاعفت الاحتمالات، مما جعل المرجع الفريد غير محتمل، وبالتالى فإن الجمالية الواقعية عفى عليها الزمن تمامًا. فى هذه المرحلة، تبلغ الهجمات التى شنها مؤلفونا ضد الواقعية ذروتها: فقد أصبح الواقع متعددًا تحت تأثير الحوار، فقد تم استبعاده تمامًا وببساطة لأن الرواية لم يعد لها مرجع معيارى لتمثيلها ولكن فقط التفسيرات المتباينة التى يجب أن توضع فى الاعتبار. وبالتالي، فإن جماليات الفوضى التى تترتب على ذلك تشير إلى نهاية التخوف من واقعية العالم فى قصصنا، لم يعد يمكن للواقع أن يشكل إما موضوع الرواية أو الغرض منها، والتى تتغذى الآن على التمثيلات غير المباشرة والمواربة والاستعارات والرموز. يبدو أن الصورية انتصرت بالتأكيد على التناظرية.


الثرثرة، الشراب، النسيان، أو السخرية منه
لا يزال من الضرورى دعم وضوح الشخص الساخر.
لا يزال من الضرورى تحمل رؤية هذا المجال من الخراب، البقايا النهائية لحقيقة العالم والمشروع الروائي. أليس الكلام، فى النهاية، هو اللعبة المتبقية للدمى؟ كيف ننسى الاكتشاف الرهيب وهو الكون المثير للسخرية؟ ألا نسكر من الكلمات كما نسكر من الخمر، فى محاولة للتغلب على فشل النهج السيميائى الذى اتبعناه؟ نحن نؤمن، فى الواقع، أن الشراب والكلام، حيث رأينا لأول مرة احتمالية ظهور الحقيقة، فى الواقع يلازمان ليلة الدينونة والوجود البشري، وأنهما يساعدان على قبول ذلك، علاوة على ذلك، مع دعوة للشراب، تنتهى جاك القدري:» دعونا نحضر الكؤوس والنبيذ. بسرعة، بسرعة... «(ص 330).


يبدو هذا الاستعجال وكأنه دعوة موجهة للقارئ. لأنه أيضا خضع للتجربة السيميائية ويعرف، إذا كان يقظًا، أن كل هذا أدى فقط إلى العدم وإلى تعدد المعنى الذى لا يسبر غوره. نحن هنا أقرب إلى الكحول الذى يغرق فى خيبة الأمل أكثر من«كاهنة دلفى المحمولة» وادعاء معرفة مبهجة فى شكل» الحقيقة من خلال النبيذ «(ص 263). فى هذه الليلة التى هى الوجود البشري، حيث يرى البعض حتمية كاملة، يخلق الكلام المخمور مساحة فريدة من الحرية الممكنة، وهى الوحيدة المتبقية لهذه الدمى غير المتسقة التى هى الشخصيات. حتى لو لم يجعل من الممكن كسر غموض العالم، فإنه يجعل من الممكن قبوله واتخاذ جانب السخرية منه.


لأن الكحول يسمح بهذه القفزة الأخيرة من الوضوح التى هى الضحك. ضحك لاذع يتحدث عن استبصار الفرد بظرفه؛ ضحك مخلص ومتحرر أخيرًا يؤدى إلى عدم أخذ أى شىء على محمل الجد والتعويض عن الشعور بوجوده المثير للسخرية من خلال الاستهزاء بكل ما يحيط به، هذا هو الموقف الذى أوضحته شخصية الراوى فى نهاية قصة « لن يضحك أحد «:» يمكننى اختلاق أى شىء، والضحك على ذقون الناس، وأقوم بكل أعمال التدليس، وكل أنواع الخداع دون أشعر أننى كاذب؛ هذه الأكاذيب، إذا شئت تسميتها أكاذيب، هى أنا، أنا على حقيقتي؛ فبهذه الأكاذيب، لا أخفى شيئًا، بهذه الأكاذيب أقول الحقيقة حقًا «ص 48-49».


لدينا هنا وصف جيد جدًا للمزحة العظيمة التى يمثلها المشروع الروائى لديدرو وكونديرا: لأنهما، فى الكتابة، لم يفعلا شيئا آخر. لقد كذبا أولًا، أى قاما ببناء رواية لعبية مرحة تسمح لهم «بالضحك على ذقون الناس»(وكما رأينا، على القارئ فى المقام الأول)، وعلى الواقع ككل. من خلال هذا الخيال، وهو جزء من الملاحظة الجادة للغاية لعدم جدية العالم، استجابة لهذا اللا جاد بقصص غير جادة، للمثير للسخرية «بقصص ساخرة». فى هذا، نجحا فى التعبير عن حقيقة حياة الإنسان، مشيريين إلى تناقضها وعدم اتساقها وعدم وضوحها.


إذا كانت الكلمة المنطوقة تشكل كل ما تبقى للدمى، فإن الرواية تظهر بالتالى على أنها كل ما تبقى بلا حدود للرواة. شكل متغير يستطيعان من خلاله اللعب بخيالهم لتأكيد حريتهم الصغيرة. وهكذا، يتلاعب ديدرو وكونديرا بالأشكال، والمسرح، والسرد، والخطاب، والواقعية، ويستفيدان بشكل كامل من هذه المساحة الإبداعية المتبقية لهم.


يبقى أمر واحد فقط: اللذة. بالإضافة إلى الدقة والحقيقة، توجد فكرة الاستمتاع قدر الإمكان بهذه المنطقة غير الجادة التى أصبحت الرواية. عليك أن تضحك. إن استهزاء الخلق الروائى يصبح بالنسبة إلى الرواة بمثابة انتقام من عدم اليقين فى الواقع. عليك أن تنظر إلى هذا الأخير بابتسامة ساخرة، كما لو كنت تحمى نفسك منه. هذه الضحكة، التى تعبر عن اللذة والتمزق والجدية وعدم الجدية، هى التى يتحدث عنها كونديرا فى نهاية كتاب فن الرواية.


فى هذه الصفحات، التى لن يتنصل منها ديدرو بالتأكيد، يحدد مؤلف كتاب غراميات مرحة هوية الرواية ذاتها فيما يتعلق بهذا الضحك الذى يجب أن ننحاز إليه. هذا الضحك الذى يترجم عجز الفرد عن فهم الواقع الذى ينزلق بعيدًا:
«ما هى الرواية؟ يوجد مثل يهودى رائع: الإنسان يفكر والله يضحك. مستلهمًا هذه الجملة، أود أن أتخيل أن فرانسوا رابليه سمع يومًا ما ضحك الله، هكذا ولدت فكرة أول رواية أوروبية عظيمة. أحب أن أعتقد أن فن الرواية جاء إلى العالم باعتباره صدى لضحك الله.


ولكن لماذا يضحك الله وهو ينظر إلى الإنسان الذى يفكر؟ لأن الإنسان وهو يفكر تفلت الحقيقة لأنه كلما زاد تفكير البشر، ابتعد فكرهم عن بعضهم البعض. وأخيرًا، لأن الإنسان ليس أبدًا كما يعتقد. إنه فى فجر العصور الحديثة، تم الكشف عن هذا الوضع الأساسى للإنسان، الذى يخرج من العصور الوسطى: يعتقد دون كيشوت، كما يعتقد سانشو، ليس حقيقة العالم فحسب، بل وحقيقة ذواتهم تهرب منهم. لقد رأى الروائيون الأوروبيون الأوائل واستوعبوا هذا الوضع الإنسانى وأسسوا عليه الفن الجديد، فن الرواية (ص 194-195).


هذا التعريف الرائع للرواية هو ذلك الذى نود أن نعطيه لقصصنا، لأننا لم نتمكن من العثور على تعريف أكثر صوابًا. إنه يعبر عن كل سعة عدم الجدية والترفيه التى تصورها ديدرو وكونديرا؛ هذه اللا جدية أقل عقمًا مما يبدو لأنها تتغذى على هذه الحقيقة المكتسبة وهى إنه لا توجد حقيقة نمسك بها بشأن العالم. 


دعونا نر هنا مفتاحًا لشرح نهاية المجموعة، حيث «يبتسم إدوارد! يبتسم وابتسامته سعيدة...»(ص 303). هذه الابتسامة وكأنها تأمل ضحك الله، وولادة الوضوح، ولحظة إدراك سخافة كل شىء، وهو يبتسم يقف إدوارد إلى جانب أولئك الذين يعرفون أنهم لا يعرفون شيئًا. إذا كان دون كيشوت وسانشو يفكران، فإن جاك والسيد وهافيل والطبيب وإدوار وإليزابيث والآخرون يفكرون ويتحدثون بلا نهاية. الزلل والاضطراب والسكر فى كلماتهم سيجعل المنظم العظيم يضحك بلا شك. لكنهم هم أنفسهم سيجعلونهم يضحكون.


أليس هذا الوعى الذاتى هو النصر النهائى الذى يمكن أن نتباهى به قصصنا فى النهاية؟ أن نكتسب هذا الوضوح، وأن نصدع ليلة الدينونة والوجود قليلًا، قليلًا فقط، أليس هذا هو ما نكتسبه من التسلية، من لعبة السخرية، من لعبة سرد القصص؟
أليس هذا ما يكتسبه القارئ من يأتى، تاركًا تقديره الواقعى التقليدى للرواية، مستوعبًا غياب المعنى الذى يسود العالم، ليرى نفسه فى ضوء طاغ لدرجة أنه يجب عليه المزاح بشأنه. من المؤكد أنه من ليل جاك ولدت الرواية. لكن ضحكة القارئ هى التى ستفسخ النسيج فى النهاية، مثل صدى جديد لضحك الله.