غموض كونديرا وتناقضاته حول الهوية

ميلان كونديرا
ميلان كونديرا

فور ورود نبأ وفاة ميلان كونديرا فى باريس، التزم البرلمان الأوروبى دقيقة صمت حداداً على الكاتب الشهير والمنعزل الذى حولته مؤلفاته إلى كاتب منفي، يهجو الاستبداد ويستكشف الهوية والحالة الإنسانية. كما غرد رئيس الوزراء التشيكى بيتر فيالا تعليقًا على وفاته: «استطاع ميلان كونديرا الوصول إلى أجيال من القراء عبر جميع القارات بعمله، وحقق شهرة عالمية. لم يترك وراءه عملًا روائيًا رائعًا فحسب، بل مقالات مهمة أيضًا. كانت حياته رمزًا للتاريخ المضطرب لبلدنا فى القرن العشرين. وسيبقى إرث كونديرا حياً فى أعماله». كان كونديرا يحمل الجنسيتين الفرنسية والتشيكية التى فقدها ثم استعادها. وتُرجمت رواياته إلى عشرات اللغات، إلا أنه كان يمقت الدعاية المصاحبة لها، رافضًا إجراء مقابلات إعلامية.

ذكر كونديرا فى كتابه الشهير «فن الرواية»: «أحلم بعالم يحكمه قانون يُلزِم الكُتاب بالحفاظ على سرية هويتهم واستخدام أسماء مستعارة». استخدم كونديرا الجملة ردًا على الأسئلة التى طرحتها عليه Le Monde des Livres فى عام 2011، حين وافق أخيرًا على إجراء حوار.


افتُتحت رواية كونديرا الأشهر، «كائن لا تحتمل خفته» بمشهد مؤلم لمرور الدبابات السوفيتية فى براغ، العاصمة التشيكية، موطن المؤلف حتى انتقاله إلى فرنسا فى عام 1975. نسج كونديرا فى روايته «موضوعات الحب والنفى والسياسة والذاتية العميقة»، ما أكسبه عددًا كبيرًا من القراء الغربيين الذين أعجِبوا بالإيروتيكية والثورية المناهضة للسوفييت فى هذه الرواية والعديد من أعماله اللاحقة، كما نالت أعماله إشادة من النقاد.


فى عام 1989، طردت الثورة المخملية الشيوعيين من السلطة وعاد وطن كونديرا إلى الظهور من جديد باسم جمهورية التشيك، ولكن بحلول ذلك الوقت كان قد خلق لنفسه حياة جديدة، وهوية كاملة فى باريس.


إن وصف علاقته بوطنه الأم بالمعقدة سيكون مختزلًا، إذ عاد كونديرا إلى جمهورية التشيك نادرًا ومتخفيًا، حتى بعد سقوط الستار الحديدي، كما تُرجمت أعماله، التى ألفها فى النهاية بالفرنسية، إلى اللغة التشيكية فى وقت متأخر. افتتح كونديرا روايته الأولى «المزحة» بشاب تم إرساله إلى المناجم بعد انتقاده للشعارات الشيوعية، فحُظرت كتاباته فى تشيكوسلوفاكيا بعد الغزو السوفيتى لبراغ عام 1968، كما فقد عمله كأستاذٍ للسينما، لم تُنشر «كائن لا تحتمل خفته» فى جمهورية التشيك حتى عام 2006، بعد مضى سبعة عشر عامًا على قيام الثورة المخملية، إلا أنها كانت متاحة فى التشيك منذ عام 1985، عن طريق دار نشر أسسها مواطن تشيكى فى المنفى بكندا. فاز كونديرا فى النهاية بجائزة الدولة للأدب.


يتأمل كنعان مالك فى مقاله «غموض وتناقضات أعمال كونديرا» وتساؤلاته حول الوطن والهوية وموضعه من العالم كإنسان وكاتب. مالك هو كاتب ومحاضر ومذيع بريطاني، وُلِد فى الهند. درس علم بيولوجيا الأعصاب وتاريخ العلوم. كمؤلف أكاديمي، ينصب تركيزه على فلسفة علم الأحياء والنظريات المعاصرة للتعددية الثقافية والعرقية. 


«إذا قال لى أحدهم فى صبايَ: سترى أُمتك تختفى من العالم يومًا، كنت سأعتبر ذلك هراء، شيء لا يمكننى تخيله. يعلم المرء أنه فانٍ، إلا أنه يكون على يقين من أبدية بقاء أُمته». ذكر كونديرا ذلك فى حواره مع الكاتب الأمريكى فيليب روث لصحيفة نيويورك تايمز فى عام 1980، قبل عام من حصوله على الجنسية الفرنسية. كانت زوجة كونديرا، فيرا، مترجمته، وسكرتيرته، والحاجز الذى يعزله عن العالم الخارجي، هى التى عززت صداقته مع روث من خلال العمل كوسيط لغوى بينهما.


فى حواره مع روث، ذكر كونديرا جملته: «عَلِّم القارئ أن يفهم العالم كسؤال». كان يخشى أنه فى عالمٍ «يفضل فيه الناس الحُكم على الفهم ويقفزون للإجابات بدلاً من طرح الأسئلة، يصعُب سماع صوت الرواية بسبب حماقة اليقين البشرى الصارخة».


صاحبت وفاة كونديرا تأبينات محترمة، إلا أن الخفة التى يُذكر بها الخبر تُبين أنه لم يعد يشغل المكانة ذاتها التى احتلها فى ثقافتنا من قبل. صار لصوت كونديرا صدى أقل فى عالمنا الصاخب. 


ولد كونديرا عام 1929 فى برنو، فيما كان يعرف آنذاك بتشيكوسلوفاكيا، وانضم إلى الحزب الشيوعى فى سن الثامنة عشرة، مدفوعًا بالآفاق الاشتراكية المُبشرة الصاعدة فى أعقاب الاحتلال النازى والمحرقة. كتب بعد عقود: «سحرتنى الشيوعية كما سحرت السريالية سترافينسكى وبيكاسو». «غرَّنى الوعد بتحول كبير، إعجازي، وعالم جديد ومختلف. لكن بعد ذلك سيطر الشيوعيون على بلادى بالكامل، وبدأ عصر الرعب».


أُقيلَ من الحزب فى عام 1950 بسبب «أنشطة مناهضة للحزب»، ومع ذلك انضم ثانيةً وظل عضوًا حتى أُقيل مرة أخرى فى عام 1970 بعد سحق ربيع براغ من قبل القوات السوفيتية، بعد خمس سنوات، غادر كونديرا إلى فرنسا، حيث صار فى النهاية مواطنًا فرنسيًا.


بلغت شهرة كونديرا ذروتها فى الثمانينيات، حين كان استكشافه للبقاء فى مواجهة الشمولية مُلِحًا. فى رواياته، بدايةً من «المُزحة»، التى كتبها فى أوائل الستينيات ولم تُنشر حتى عام 1967، وحتى أكثر أعماله شهرة، «كائن لا تُحتمل خفته»، التى نُشرت لأول مرة بالفرنسية فى عام 1984، تناول بروح الفكاهة السوداء صراعات وسخافات العيش تحت الحكم الستاليني. 


مع تراجع الحرب الباردة إلى خلفية الصورة، بدا أن موضوعات كونديرا وأسلوبه ينتميان إلى عصرٍ مختلف. ركز العديد من النقاد على سمات أخرى، أقل إثارة للإعجاب، فى كتاباته، كعدائيته، بل لنَقُل قسوته، ضد شخصياته النسائية.


ومع ذلك، نجد فى قلب أعمال كونديرا المقالية والروائية حزمة أخرى من الأفكار والتأملات التى تستكشف العلاقة بين الثقافة والتاريخ والذاكرة والهوية وتعتبر ضرورية لعالم اليوم كضرورة تجريده للشمولية فى الثمانينيات. لا تكمن أهمية هذه الأفكار فى أنها تقدم إجابات محددة للأسئلة التى نواجهها بل لأنها، كحال الكثير من أعمال كونديرا، مليئة بالغموض والمفارقات التى تساعد فى إلقاء الضوء بشكل أفضل على تلك الأسئلة ذاتها.


فى رواياته، تناول كونديرا بروح الدعابة السوداء صراعات العيش فى ظل الدولة الستالينية، كما كتب فى مقال نشر لأول مرة فى عام 1983 باللغة الفرنسية فى مجلة Le Débat المؤثرة: «إن هوية أى شعب أو حضارة تنعكس وتتركز فيما تنتجه عقولها، أو فيما يسمى الثقافة»، كان هذا تطورًا للحُجة التى تبناها كونديرا لسنوات، إذ ذكر فى خطاب ألقاه أمام مؤتمر الكُتاب التشيكيين فى عام 1967، أن الثقافة كانت حيوية «لترسيخ هويتنا الوطنية والحفاظ عليها». فقط من خلال حماية «اللغة والهوية» يمكن للدول الصغيرة أن تحافظ على «قيمها».


لم يرَ كونديرا ضرورة حفاظ دول أوروبا الوسطى لا على ثقافاتها المحددة فحسب بل على ارتباطها بأوروبا أيضًا. ومع ذلك، رأى أن «مأساة أوروبا الوسطى» فى ابتلاع الاتحاد السوفيتى لها، وبالتالى «اختفت من خريطة الغرب، لكن هذا «الاختفاء ظل غير مرئي»، لم يلاحظه أحد تقريبًا. لماذا؟ لأن أوروبا نفسها، بحسب كونديرا، كانت بصدد «فقد هويتها الثقافية». برَزَ «شعور بعزلةٍ هائلة... الفراغ فى الفضاء الأوروبى الذى بدأت الثقافة تنسحب منه ببطء».


قد يُقرأ كل هذا كرؤية محافظة للثقافة والهوية مستمدة من الرومانسية الأوروبية، من فكرة تعريف كل شخص من خلال تاريخ وثقافة فريدة يجب عليه حمايتها من التعدى الخارجي. ومع ذلك، كحال الكثير من أفكار كونديرا، لا شىء واضح تمامًا.