محمد المخزنجى يكتب : شفق منتصف الليل

محمد المخزنجى
محمد المخزنجى

كان الوقت عصرا عندما خرجت من بيتى متأخرا كعادتى المستجدة إذ لم يعد الخروج من البيت يسر القلب أو العين أو الخاطر لفرط ما تشوهت الحياة وتشوه الأحياء فى السنوات الأخيرة. قصدت واحدا من هذه المتاجر العامة وأنا مُطرق كالمعتاد كسواد ناس مدينتنا الذين صاروا يمشون فى صمت لصق الحيطان، مثنيين على أنفسهم ومشدودين إلى التراب، كنت أقاوم وهن التذكر، هذا العَرَض الذى شاع بين سكان المدينة، فأكرر التمتمة بالشىء المراد فِعله لأظل قابضا عليه حتى لا يسقط فى بئر النسيان، رحت أصعد إلى الطابق الثانى من المتجر وأنا أتشبث بدرابزين الدرج وأشده لأساعد صعود قدمى المتثاقلتين، بينما أتمتم بما صار محتما أن أشتريه بعد أن بَلى القديم: «ثلاثة جوارب قطنية للأولاد. ثلاثة جوارب قطنية للأولاد»، وبغتة توقفت فى منتصف الدرج وكففت عن التمتمة إذ انتبهت إلى خبطات كثيفة ومتعاقبة تلطم كتفىَّ، وهالنى حراك أقدام كثيرة كثيرة تروح وتجىء متحركة بعجلة حول قدمى المتوقفتين. وعندما رفعت وجهى المتسائل راعنى ما أبصر حتى أننى رحت أفرُك عينىَّ بكفىّ وأهز رأسى لعلنى أكمل إفاقتى من نوم كنت فيه أو سرنمة تتولاني.

لم أصدق ما أراه إذ أبصرت زحاما صاخبا فى المتجر الذى بات كمعظم المتاجر فى السنوات الأخيرة كاسدا، مهجورا، حزينا ككل شىء فى حياة مدينتنا التى نشعت فيها التعاسة وصعدت حتى الأعناق، كثرة من الناس كانوا يتساقطون من وهن سوء التغذية فى الشوارع، والمنتحرون بلغ عددهم الذروة بالأمس، والملصقات عن الغائبين الذين خرجوا من بيوتهم ولم يعودوا تكاثرت حتى لم يعد هناك عمود نور أو حائط يخلو من صورهم ونداءات البحث عنهم. فمن أين أتى كل هؤلاء الناس الذين يفورون بالحياة والحركة داخل المتجر الذى أوقد كل أنواره قبيل الغروب على غير العادة؟! ولولا أننى تعرفت على وجوه عديدة آلفها من سكان مدينتنا، لخُيِّل إليَّ أن كل هؤلاء المتزاحمين الصاخبين هبطوا من كوكب آخر أو صعدوا من تحت الأرض.. كوكب منتعش أو أعماق أرض سارة.


كانوا لبالغ دهشتى وكأنهم تفجروا تواً بالحياة، نشطين، مؤتلقى الوجوه برغم شحوب وضمور مزمنيين لم يكن ممكنا إخفاؤهما. وكانوا يتدفقون فى جماعات، أُسر تصطحب أطفالها، أو أصدقاء أو أقارب تلاقوا معا، وجميعهم كانوا يتزاحمون حول طاولات البيع التى تكدست عليها البضائع التى طلبوا رؤيتها وراحت تتفقدها أياديهم وعيونهم بجدية واهتمام مفرطين، فهم يمسكون بهذه القطعة أو تلك، يُقلِّبونها، ويُدقِّقون فيها.

ويقيسونها على أجسام الأولاد أو أجسامهم، يستحسنونها أو يقللون من استحسانها، ويجادلون فى الأسعار فيما يتجاوب معهم البائعون بأرواح مرحة، وكأنما دبت فيهم هذه الحياة النشطة فجأة بعد التبلُّد والوجوم. ولاحظت أن هؤلاء المتزاحمين على طاولات البيع برغم كثرة الجدال والحركة والمرح، يشترون قليلا، قليلا جدا حتى أكاد أقول إنه لم يكن هناك بيع، بيع حقيقي، ومع ذلك لم يكن هناك أى ملمح للضجر يبديه البائعون المبتسمون، الذين كانوا هم أيضا يتحركون بخفة نشطة تكاد تكون راقصة فى ممراتهم وراء طاولات البيع، ومن خلف أكوام ما أخرجوه من البتارين والأدراج بناء على طلب زبائن اللحظة.


 فركت عينيّ واستدعيت إلى ذهنى كل ما أمتلك من يقظة كانت غافية، وكانت دهشتى تربو مما أعايشه من حولي، ثم وجدتنى أندهش من نفسى إذ تعترينى الدهشة، هذا الانفعال الذى هُيئ لى كما معظم الناس فى مدينتنا أننى فقدته إلى الأبد تحت الجثوم الثقيل للسنوات التعيسة الأخيرة. اندهشت، والدهشة تُكسب كل شيء طعم الطزاجة، فتصير مدهشة أكثر، وتتوهج دهشتى مزيدا وأنا أوغل فى الزحام المنشرح العجيب، وأهيم محاولا الإمساك بما وراءه.

وجدتهم فى كل مكان أمضى إليه. فى الطابق الأول من المتجر. وفى الشارع عندما خرجت. ثم فى كل الشوارع التى أمضى بدهشتى المذهولة إليها. لاحظت أن تلك السيارات السوداء رباعية الدفع، ذات النوافذ المحجوبة ب الفاميه الأسود، والتى كانت لا تكف عن الدوران المُخوِّف العاوى فى كل الشوارع، قد اختفت تماما. وكانت السيارات من كل الأنواع إما ساكنة فى أماكنها أو تتجه للخروج من المدينة نحو الأطراف. بدت المدينة وكأنها تتحول بسرعة إلى منطقة للمشاة. وكانت سماء الشوارع ترفرف بزينات ورقية لابد أنها أُعِدَّت على عجل فى الصباح الباكر، إذا لم أرها عندما خرجت من بيتى مساء أمس. وعلى الأرض تحت رفرفة هذه الزينات البسيطة الملونة، كانت أمواج الناس تتدفق بصخب لطيف وأرواح حلوة برغم رقة حال شاملة لم يكن ممكنا إخفاؤها لدى الجميع. كانت ثيابهم نظيفة لكن نظافتها لم تستطع أن تنفى عنها سمت القِدم، بل البِلى، بل إن الرتق والرَفى كان ممكنا تبينهما فى ثياب من يمرون بى أو أمر بهم عن قرب. 


الرجال كانوا حليقى الذقون، منسقى الشوارب. والنساء كن مُصفَّفات الشعر بعناية، وثمة عطور قديمة تتضوع منهن. كان زواقهن غير متقن لطول ما نسينه فى السنوات الأخيرة، فبدت وجوههن كوجوه عرائس المولد ضاحكة وتُضحِك. وكانت عيون الأطفال تلمع، وقد مُشطت شعورهم المبلولة إثر تحمُّم قريب أُلبسوا بعده أفضل ما لديهم وإن لم يكن جديدا.

وبرغم هذا كله ظلت آثار سوء تغذية سنوات الشِدَّة الأخيرة بادية بجلاء فى بقع فاتحة جافة تُرقِّش خدودهم. وكنت أتبين شيئا فشيئا رائحة النفتالين تتسرب من خفاء ملابس الجميع من حولي، لكن حواسى التى شحذها الاندهاش ما كانت لتفلت ذلك. نعم شممت رائحة النفتالين التى لابد أنهم اجتهدوا فى إخفائها ببقايا عطور رخيصة بقت لديهم. وكنت فى سماحة الزحام أختلس النظر، بحذر وعن قرب، إلى نسيج الفساتين والجاكتات، فألمح بعض آثار العثة التى لم يمكن قهرها بالنفتالين حتى النهاية، ولا بمحاولات التنظيف اللحوح والكى بعنف. 


جعلنى ذلك الاقتراب أدقق فى طُرز الملابس التى يرتدونها جميعا. كانت قديمة حقا فسنوات العسر الأخيرة التى أصابت ليس المستورين فقط، بل حتى كثيرا من الميسورين، منعتهم من إنفاق ما تبقى لديهم من نقود على الثياب، إذا كان غلاء الطعام أولى بها بينما الثياب يمكن تدبيرها من الموجود وما يمكن تعديله. بهرتنى فساتين الزفاف البيضاء القديمة وقد جرت فيها تعديلات واضحة لتناسب السيدات اللائى كبرن وتغيرت أجسامهن. أما سترات الرجال الداكنة، والتى هى بالقطع راجعة إلى مناسبات قديمة أيضا كأيام أعراسهم، فلم يكن يَخفَى فيها أثر الرَّد والتعديل.


حملتنى الدهشة الرابية إلى ذكريات من عالم الفرح البعيد البعيد، وجعلنى ذلك أسأل نفسى عن مناسبة هذا الفرح المفاجئ الذى أراه بعينيِّ دهشتى البالغة. أجهدت ذاكرتى علنى أعثر على مناسبة ما توافق ذلك. وحِرت؟! أتذكر أننى قرأت فى كتاب ما، نسيت عنوانه، أن أبناء المدن النهرية ينجذبون لا إراديا وبقوة إلى ضفاف النهر عندما يستبد بهم أى انفعال جامح. ويبدو أن ذلك صحيح إذ وجدت قدميَّ تسوقانى وسط الزحام المندفع نحو «الكورنيش» بينما الوقت يقترب من الغروب، ثم لاحظت أن وقت الشفق قد تمدد كثيرا وتأخرت عتمة الغسق عن موعدها المألوف. وفى هذا النور الشفقى الغامر المديد العجيب، بدا سكان مدينتنا يكوِّنون تيارا بشريا متدفقا ويضجون بأصوات مرحة، وكأنهم نهرّْ بشرى يمضى على حافة مياه النهر التى غاضت فى السنوات الأخيرة. لمحت فى بعض الأيادى بعضا من الخضرة، ومع الأطفال بيضا ملونا، برغم أن تاريخ اليوم لم يكن يشير إلى عيد الربيع. لمحت أيضا بعض الحُلىِّ من الخوص ولم نكن فى يوم أحد الخوص. رأيت المشاعل تخفق دوَّارة حول ضريح «سيدنا» ساطع البياض وسط أكبر جُزيرات النهر، وأنا موقن أن اليوم ليس موعد «مولده». لم يكن اليوم يوم عيد لأى من ديانات أهل مدينتنا. ولم يكن يناسب أى مناسبة وطنية أو غيرها. ففيم كانت مناسبة هذا الفرح؟!

تحت سور الكورنيش، وعلى حافة ماء النهر الذى هبط منسوبه فى السنوات الأخيرة فتوسع شاطئه، وجف تحت حرارة شمس أيامنا اللاهبة متحولا إلى ساحات من رمال نهرية رمادية ناعمة، رأيت حلقات لتجمع فتيان يغنون ويرقص بعضهم بالمُدى وبالعُصى وقد أحاط بهم جمهور من الرجال والنساء والأطفال يصفقون على وقع رقصهم والغناء. اقتربت من إحدى الحلقات وكانت أغنيتهم قديمة وإن جددها حماس الابتهاج. ربَّتُّ كتف واحد من فتيان الحلقة أمامى أسأله عن المناسبة التى يحتفلون بها، فالتفت إلىَّ مبتسما بود دون أن يتوقف عن التصفيق، ولم يقل شيئا، ثم عاد بوجهه إلى حلقة أقرانه المغنين والراقصين وجمهور المصفقين، سألت رجلا من المتجمعين حول الحلقة، فهز رأسه مبتسما بطريقة لا أعرف منها إن كانت هذه هزة مبتسمة لعدم المعرفة، أم منتشية بأصداء الفرح. وإزاء الحيرة تجاه هذا كله، وجدتنى أمسك بطفل يجرى ويتقافز بقربى فرحا على إيقاع الغناء والتصفيق والرقص، سألتهأ عن مناسبة فرحه التى رجحت أن والديه أخبراه بها، لكنه تملص وانفلت يجرى وهو يصفق بيديه ملتفتا نحوى يردد «العيد. العيد»! 


 أى عيد؟ ساءلت نفسى بتنهيدة عجب ودهشة وأنا أسرِّح بصرى فى مدى امتداد شارع الكورنيش، وسرَّتنى رؤية الحناطير المكشوفة التى طال اختفاؤها سنيناً تنطلق بخيولها المزينة ذات الجلاجل والأجراس، كاشفة عن راكبيها ومعهم طبلات يوقِّعون عليها وهم يصفقون وأحدهم يغنى ثم يتوقف ليردد جمعهم لازمة «ياعيد.. ياعيد». هكذا مضيت لساعات تختلط فى سمعى جلبة الأغانى والتصفيق وإيقاع الطبول والتهليل، مع مكوثى مشدودا إلى ضفة النهر الحاسر تحت سور الكورنيش، ثم توقفت إذ أجفلتنى رؤية خيام إيواء الذين انهارت منازلهم القديمة الآيلة للسقوط ولم تمكنهم رقة أحوالهم وعوز آخر السنين من تدبير مساكن تُؤيهم. ثم راحت تباغت بصرى عشش الفلاحين الذين نزحوا من القرى التى أقفرتها الشدة. هبطتُ إليهم، فاكتشفت أنهم كانوا أيضا يحتفلون ذلك الاحتفال العجيب مبهم المناسبة، ابتسمت مشفقا على صيحات فرح الرجال منهم، ورفرفة زغاريد النساء، وتقافُز غِبطة الأطفال. وعندما حاذيت رجلا منهم توسمت أُلفته، توقفت وسألته عن مناسبة هذا الفرح، فرد بحماس وود: «العيد.. كل سنة وانت طيب»، «أى عيد» سألته. أجاب: «ألم تسمع؟ لقد قالوا». «من قال؟ ماذا قال؟ «كررت سائلا بانفعال لم أُخْفِ بعض ضيقه. فأجابنى وهو يحدق فيَّ مُستغربا: «كل الناس سمعت». «كل الناس سمعت»!.


 أى عيد؟ سعيت أبحث عن إجابة وأنا أمشى على الشط الذى اتسع ونزل إليه كثيرون. أرنو إلى صفحة الماء الساكنة بقربى وأقول لنفسى إن الماء فى النهر ليس فى فيض فيكون اليوم عيد وفائه، ولم يبلغ من الغيض أدناه فيكون كل مايدور حولى أهازيج ترتجى سخاء الماء كما فى احتفالات «يوم النقطة» البعيد، التى كان أجدادنا يُناشدون بها النهر الذى جَمُد حراكه أن يعاود الحركة ليمتد فضله، ثم انتزعتنى من شرودى مشاهد على صفحة النهر لم ألتفت إليها وأنا غائص فى حيرة البحث عن مناسبة لكل ما رأيته وأراه، كانت الصفحة الساجية تعكس حمرة شفق المساء المديد فوقها كما مرآة بالغة الصفاء، تترقش بظلال قوارب النزهة التى ظلت غائبة لسنين، وتنساب وادعة تقطر أطراف مجاذيفها ببرتقالية الشفق وهى تخرج من الماء، وكان زحام راكبيها يُرسل من بعيد أصداء ذات الغناء والتصفيق والرقص الذى يحمو على الشاطئ، وتتردد عبره كلمة «العيد. العيد»! كما لمحت وسط الماء بعض السابحين يتسابقون وتعجبت من أين لهم بكل هذه العافية التى تضرب بها أذرعهم وأرجلهم صفحة الماء، بينما هم بالتأكيد، أو على الأرجح، من قاع المدينة الذى استوى أكثر من غيره على شفا المسغبة، فلم تعد له غير هزة يسيرة ويهوى فى غياهب النفوق الجماعى جوعا. من أين أتوا بكل هذه العافية؟

 لم أدر برحيل الشمس وحلول الظلام وقطع النور الشامل عن المدينة إلا بسيادة الصمت. صمت مطبق كأنه ظلمة فى الظلمة. ولما كان الإجهاد قد استنفد قواى من استمرار المشى كل هذه الساعات من العصر إلى ما يقارب منتصف الليل، بدأت أترنح فى مشيتى ويغالبنى النوم. كنا فى ذروة الصيف والليل دافئ، ولا شىء يمنع أن أنام فى العراء ككثيرين استسلموا للنوم منذ العاشرة على دكك الكورنيش الخشبية التى مضيت أبحث عن واحدة خالية منها لأتمدد عليها. لم أجد. وخطر لى أن أعثر على ضالتى فى شريط الشاطئ الذى انحسرت عنه مياه النهر وزحف عليه العشب، فتبينت أن فكرتى هذه لابد راودت مئات بل آلافاً غيري، إذ كانت كل المساحات المعشبة مغطاة بأجساد النائمين. كنت مضطرا أن أقاوم إلحاح النوم وأنا مستمر فى المشى المترنح، وأخيرا، وبعد أن مشيت طويلا حتى صرت تحت جسم الجسر الحديدى العتيق الذى يوصل إلى ضفة النهر المقابلة، وجدت مساحة معشبة سحب إليها الصيادون زوارقهم الصغيرة بعد إخراجها من الماء الذى صار شحيح العطاء بالأسماك. ولم أتردد فى أن أزيح بآخر ما فيَّ من عافية زورقا من هذه الزوارق لتخلو لى مساحة العشب التى يغطيها، وتهاويت على طراوتها التى تلقفتنى فى الظلمة السابغة. غرقت فى النوم من فوري، لكن سرعان ما أيقظتنى فزِعا هجمة فرقعات داوية، تبينت أنها لم تكن سوى طقطقات تعقب انبثاق تشكيلات أضواء ملونة بديعة تتألق فى ظلمة السماء وتجود ببعض طيفها على إعتام الأرض؟! 
 ألعاب نارية! بدا لى ذلك مبهجا وغريبا، وسر غرابته أننى عندما نظرت إلى ساعتى فى انعكاس ومضة ضوء طلقة من هذه الألعاب، اكتشفت أن الساعة تجاوزت منتصف الليل بعشرين دقيقة! موعد لم نألف أن تنطلق فيه الألعاب النارية التى كانت تسحرنى منذ طفولتى وحتى طفولة الكهولة التى لم تغادرنى، وإن ذوت وانزوت فى سنوات التعاسة الأخيرة. كنت بالضبط فى المكان المقابل لتلك البقعة من ضفة النهر الأخرى التى تنطلق منها مباهج الضوء الملون المُطقطِق. وكانت ومضات ذلك الضوء تنير خطفا واجهات ما وراءها من أبراج معمارية قريبة ثم تظلم، أبراج أقيمت على تلك الضفة من النهر التى كانت رِحابا أخضر لبساتين البرتقال ومشاتل الزهور وأحواض الخضروات تم تجريفها جميعا فى زمن جنون الاستثمار فى المعمار. هوس خيلائى عجيب وغريب لم توقفه صرخات التحذير من استبدال الثروة الحية بثروة ميتة. وهاهى ومضات تلك الألعاب النارية الخاطفة تفضح موات ما جلبه هذا الهوس، فغابة الأبراج الأسمنتية ظلت خاوية تنوح نوافذها المطفأة بمرارة مكتومة إذ تفضح عتمتها المُقبِضة إضاءات الألعاب النارية مفاجئة الإبهاج. التباس ما بين إحباط الموات الخرسانى الأصم ونبض الحياة خفيفة الفرح. واختارت نفسى خفة الفرح.


 شعرت بعافية مفاجئة كأننى تناولت وليمة بهجة أو شربت إكسيراً سحريا للقوة. لقد أعادتنى هذه الأنوار الملونة فى كل هذا الليل والعتمة طفلا يتقافز فرحا من جديد. اكتشفت أننى لاشعوريا صرت أتصايح وأتقافز مع كل شكل بديع ترسمه هذه الأنوار الخلابة على صفحة الليل عميق الدكنة الصافية. عددت خمس إطلاقات، وكان فاصل الوقت بين الإطلاق وما يليه طويلا على غير المألوف فى هذه العروض المبهجة، مقارنة بسابق ما كان مألوفا فى إطلاق هذه المباهج قبل سِنى العُسر والقهر والتعاسة. ولعل ذلك التباعد منح آلاف من غلبهم النوم بعد هَدَّة أفراح « عيد الأمس» وقتا ليستيقظوا، وينطلقوا فى التهليل فتؤكد تهليلاتهم الجماعية المتزامنة أنهم لم يكونوا مجرد بضعة آلاف، بل عشرات، أو حتى عشرات عشرات الآلاف، بدليل قوة تهليلاتهم الجماعية الراعدة التى هُيء لى أنها كانت ترج الأرض مع كل إطلاقة نور ملون يسطع فى قلب الظلمة الشاملة. ولما كنت أدور حول نفسى نشوان بفرح لم أكن أتوقعه باقيا فى نفسي، اكتشفت مِن تحرُّك كتل الظلال فى حلكة السواد أن هناك جحافل من البشر يأتون من كل الجهات ويتدفقون على الجسر نحو الضفة الأخرى، وباتجاه البقعة التى تنطلق منها الألعاب النارية. ووجدت نفسى أنتزع نفسى كأنما لا إراديا من موطئ قبوعى تحت الجسر وأصعد منضما إلى تيار تلك الحشود الزاحفة نحو البقعة المُبتغاة.

على هذه الضفة المنشودة لم يعد هناك موطئ لقدم، وتحول الحشد الهائل إلى كيان واحد عملاق، كأنه جسم كائن خرافى من عشرات آلاف أو مئات آلاف البشر، رأسه عند البقعة التى انطلقت منها الألعاب النارية ثم توقفت، وجسمه على ضفة النهر التى منها هذه البقعة، بينما أطرافه ممتدة عبر الجسر وواصلة إلى الضفة المواجهة. وفيما توقفت حركة آلاف الأقدام تماما كانت هناك حركة تواصُل بشرى لا يتوقف، ويكاد يكون اتصالا إلكترونى السرعة والمواكبة اللحظية، بين آلاف الآذان والأفواه التى كانت متقاربة، بل متلاصقة فى هذا الزحام الحاشد، وتتناقل ما حدث وما يحدث عند البقعة التى انطلقت منها الألعاب النارية ثم توقفت وطال توقفها، وعرفت أول ما عرفت ولابد أن الآلاف عرفوا مثلى أن الرجل الذى أطلق بعضا من «صواريخ» الألعاب النارية داهمته مجموعة من رجال ضخام أشداء هبطوا مسرعين من سيارتى دفع رباعى سوداوين كبيرتين من ذلك النوع المُخوِّف ذى الزجاج الفاميه الأسود. أضاءوا ظلمة البقعة على حافة ماء النهر بكشافات فى أيدى بعضهم ومن فورهم انهالوا على الرجل الذى كان عجوزا يقترب من الثمانين بالضربات والشتائم كونه أطلق هذه الصواريخ دون إذن، ثم حملوه كذبيحة وهو يئن من ألم الضربات ورهبة الخوف وأسى الشعور بالهوان، وألقوه فى جوف السيارة الثانية فى ترتيب الوقوف، كما أكد من عايشوا هذه اللحظة عن قرب، والذين أكدوا أيضا أن السيارة الأولى انطلقت من فورها، لكن مكانها سرعان ما امتلأ بسيل بشرى ممن فاضوا فى المكان، فحوصرت سيارة السواد الثانية التى تحتجز عجوز الألعاب النارية بالطوق البشرى الآخذ فى التكاثف من كل الجهات. 


من هو الرجل؟ ومن هؤلاء؟ ولماذا اعتدوا عليه وإلى أين سيأخذونه؟ رحت أتساءل شديد الفضول لمعرفة إجابات على كل ذلك، لكننى وقد أوشكت على الاختناق داخل هذا الزحام البشرى الذى أخذ يتضاعف ويتكاثف ويتضاغط حتى لم تعد تتاح لى شهقة هواء أتنفسها، أخذت أقاتل لأخرج وأنجو من نوبة ضيق تنفس بدت نُذُرها قريبة. رحت أشق طريقى نحو حافة الزحام الأقرب منى والتى كان يحدها سور الكورنيش. كنت أصرخ مرددا رجاء من حولى أن يتركونى أمر، أن يتركونى أمر. وبرغم أن صرخات رجائى كانت تلقى استجابات متسامحة تُيسِّر مروري، إلا أن ما كان يتناثر حولى من نتف معلومات تكمل قصة رجل الألعاب النارية العجوز وما حدث له ويحدث، كانت تدفعنى للتوقف لألتقط مايروى الفضول.


عرفت أن العجوز مُطلِق الألعاب النارية كان شرطيا اختص طوال فترة عمله بإطلاق الألعاب النارية فى الأعياد والمناسبات الوطنية. ونظرا لطيبته وإخلاصه لعمله المفرح وإجادته له دون ارتكاب أية أخطاء صار محبوبا من زملائه ورؤسائه فى الزمان الذى كان غير هذا الزمان..كانوا ينادونه لا برتبته المتواضعة بل بتوقير اسمه:  «عم سيد». كرموه عندما بلغ التقاعد وسألوه إن كان يريد شيئا يمكنهم أن يحققوه له فأدهشهم أنه لم يطلب إلا أن يسمحوا له بأخذ بعض فوارغ «الهاونات» الاسطوانية من بقايا ما أطلقه من صواريخ نارية، كان طلبا هينا لأن هذه الأغلفة بعد إطلاق عبواتها يتم تكهينها وبيعها «خردة» بأثمان زهيدة. حققوا طلبه متعجبين من زهده وسمحوا له بأخذ عشرين أسطوانة فارغة وضعوها فى صندوق السيارة البوكس التى أصر أكبر رؤسائه أن توصله حتى باب بيته، بصحبة شرطى شاب يعاونه فى نقل هذه الأسطوانات إلى داخل البيت، رجَّحوا أنه سيصنع منها أوانى للزرع أو أى شيء مشابه. لكن الرجل الذى قضى أفضل سنين عمره يعتنى بهذه الصواريخ التى تفرح الناس وتعطى لوجوده أعز معانيه وتمنحه توقير ومحبة كل جيرانه وكثرة عارفيه فى المدينة، أدخر لفوارغها الاسطوانية حلماً.. وغاية! 

طوق الحصار البشرى حول الزنزانة السوداء رباعية الدفع التى ألقوا فى جوفها عم سيد، تحول بتسارع إلى قُرصٍ حيٍ عملاق لاحتشاد بشرى يدور ويمور، يتكاثف ويشتد، ثم أخذ يصدر عنه طنين هائل أفصح عن همهمات تنفر منها صيحات منفردة تطالب بإطلاق الرجل من محبسه الأسود لأنه لم يؤذ أحدا، وكان العجوز قد برر لمن هبطوا عليه لتوقيفه بأنه لم يُرِد إلا أن يُفرِح الناس فى هذا العيد، صرخوا فى وجهه شاتمين أبوه وأمه وهذا العيد الذى يُخرِّف به وتُخرِّف المدينة. لم يكن يصدق ما يحدث له بينما يقسم أنه لم يرد بعمله أى شر، ولذهوله ورعبه راح يقاوم سحبهم له محاولا التوقف ليفهمهم طيب نواياه، فصاروا يجرجرونه صعودا من وهدة شاطئ النهر إلى جسر الضفة فالشارع الذى جثمت فيه سيارتاهم السوداوان، وفى جرجرته أخذ يهذى بما يوقن أنها الحقيقة التى تبرئه من أى سوء يظنونه به، وكانت الآذان القريبة تلتقط مايقول وتنقله الأفواه إلى الآذان التى وراءها ويتعاقب هذه التواصل الفائق الحي، حتى جُمعت قصة الرجل كلها، قصة ربع قرن من يوم تقاعده بعد عمله لثلاثين عاما فى إطلاق الألعاب النارية، وكيف أنه كان أمينا فى عمله ومخلصا له، كيف عشق أنه يُسعد الناس فى ليالى أعيادهم وأفراحم، وكيف عشق أدوات هذا الفرح، صواريخ الألعاب النارية التى لم يكتف بإطلاقها بل الاجتهاد فى معرفة أدق دقائقها حتى لاتخذله وتخذل من ينتظرون بهجتها. 


حكى كيف أنه ظل لسنين وسنين بعد تقاعده يُعيِد، بحرص ودقة، تعمير الفوارغ التى حصل عليها كهدية نهاية خدمة طويلة لتكون جاهزة للإطلاق فى مناسبةِ فرح يُفرِح بها الناس، كهذا العيد، يقدمها لهم دون مقابل، أبدا لم يختلس مكوناتها كما يمكن أن يظنوا، ولم يسربها له أحد من الخارج كما يقولون، لقد ألَّف بدائل لكل مكوناتها من الموجود فى محلات الهدايا ولعب الأطفال وحتى دكاكين البقالة.. «البارود» الذى يشكل قاعدة الإطلاق جمعه على امتداد سنين من تفكيك البُمب الذى يلعب به الأولاد، و«القذيفة» التى يدفع بها اشتعال وانفجار البارود إلى السماء لتنفجر وتبعثر ما بداخلها من «النجوم» التى بدورها تشتعل وتنشر نيران الأضواء الملونة والطقطقات، جمعها نجمةً نجمة من مكونات لعب الصواريخ النارية الصغيرة التى يلهو بها الأطفال فى الشوارع والناس فى احتفالاتهم بالبيوت وصالات الأفراح. أما الفتائل، فالأُولى التى تُشعل البارود على الأرض، والثانية التى تشتعل باشتعال البارود وتُشعل قذيفة «النجوم» فى السماء، فقد صنعها من حبال غسيل قطنية نقعها لشهور وشهور فى الكيروسين ثم تركها تجف لشهور وشهور فى الهواء والظل حتى يكون اشتعالها آمنا، وقد رأوا أن ما أطلقه منها فى هذا العيد كان آمنا وناجحا، وما تبقى سيكون كذلك. فلماذا يأخذونه. وإلى أين يأخذونه؟ ظل يتساءل صارخا، حتى ابتلع صراخه جوف رباعية الدفع السوداء الرهيبة. 

رحت أحس بتصاعد أن صدرى يضيق وأننى أوشك على الإغماء بنقص ما يتاح لى من هواء فى خنقة التزاحم. وكنت وقد اكتفيت بما حصلت عليه من قصة ما حدث ويحدث، وقدَّرت أننى لن أستطيع تحمل المزيد ألاطم الزحام حولى للخروج بأسرع مايمكن، ثم لمحت من بين الأجساد والرؤوس بواكى الحديد المفرغ التى تشكل سور كورنيش النهر على مقربة خطوات مِنِّي، دبَّت فى كيانى عافية جعلتنى أشق تماسك الزحام كالسكين فى الزبد، ضاربا بكوعيِّ ماحولى ودافعا بقبضتى ما أمامي، ولم يزجرنى أحد لما أبديه من خشونة التماسا للنجاة، كانت هناك نفحة تسامح هائلة تكتنف لحظة توحد هذه الجموع، وطاقة احتمال استثنائية كانت تتوهج فى الزحام الهائل الذى سرعان ما انتفض فى صيحة واحدة ضممتُ إلى هديرها صوتى وأنا أشق طريقى للنجاة من الاختناق: «يطلع سيد. سيد يطلع».


«يطلع سيد. سيد يطلع» مكثت أرددها مع آلاف مطلقيها بعد أن خرجت من كتلة الزحام الساحق والخانق إذ بلغت رصيف السور، وما أعجب التغير الذى شملنى جراء ترديدى لهذه الصيحة. صرت غير نفسي. لم أعد فردا مُستقلا، بل مفردة حية فى كيان هائل يوجهه عقل جمعى مهيمن يُجمِع على مطلب صغير واحد، رمزى، لكنه خطير الشأن فى لحظته: « يطلع سيد. سيد يطلع». كنت لصق سور كورنيش هذه الضفة من النهر، وكانت كتلة الزحام الهائل الدوارة تدفعنى بين اللحظة واللحظة نحو حديد سور الكورنيش وتضِغطنى عليه فيكاد ينقصم ظهرى على درابزينه النافر، أتلوى وأتلفت كاتما آهة الألم، وإذ بى ألمح بقربى أحد أعمدة الخرسانة التى تتواصل بينها مشبكات الحديد ودرابزينه، ويلوح لى سطحها عاليا ومنبسطا وقد اعتلاه بعض الأفراد من جمهور الاحتشاد. أغرتنى وقفتهم العالية وقليلة التزاحم، تبةً رائعةً جاهدت بإصرار للوصول إليها ثم جاهدت فى اعتلائها. وعجبت لنفسى أننى لم أشعر بخطر الزلل من هذا الارتفاع إثر خطوة ضالة فى ذلك العماء فوق السطح الضيق لهذا العمود، كأن غياب النور عن البصر يعوضه الانفعال الذى يتقد ويتوهج داخلنا، فيبث فينا حس توازن عجيب فلا نخشى الزلل. وسرعان ما راح البصر وهو يتآلف مع الظلمة يوافر نوعا من الرؤية أحادية اللون من تدرجات الأسود الكثيف فالأخف فالأخف حتى الرمادى بتدرجاته. وإذا ببصرى من هذا الارتفاع يُلِمُّ بمجمل الصورة التى تشكلها كتلة الزحام البشرى الهائل الهائلة أمامى وتحت عيني. كانت صورة ظلية لكن دقائقها واضحة. صورة دوامة إعصار رمادى هائل من تكاثف نقاط بشرية متضاغطة تدور طحونتها حول نقطة رفيعة حالكة السواد تمثلها سيارة الدفع الرباعى التى حُبِس فيها رجل الألعاب النارية العجوز وحُبس معه من حبسوه. نقطة صارت عين الإعصار. وأخذ الإعصار يهدر بما يشبه صوتا كونيا يقصف به هذا المركز: «سيد سيد. يطلع سيد».

«سيد سيد. يطلع سيد» لقد رأيت صورا وأفلاما للأعاصير لكننى لم أسمع صوتها الذى لابد أن يكون هادرا باعثا على القشعريرة. كانت دوامة الإعصار البشرى التى أطل عليها من علٍ تمور بهدير بشرى يقشعر له بدنى ويهز أعمدة الليل بين الأرض والسماء فأُحس له زلزلة. خطر لى أن الصوت لا يتصاعد من أمامى فقط، بل من خلفى أيضا، فاستدرت أستطلع لسعة هذا الخاطر. نعم كان الهتاف يأتى من المحتشدين على الكوبري، ومن المحتشدين على الضفة الأخرى، بل من المدينة كلها وراء هذه الضفة. أحسست بطمأنينة عجيبة لا تشوبها ذرة خوف، وقالت أعماقي، ولا بد أعماق كل هذه الآلاف المؤلفة كانت تقول «الوقت مِلكنا»، الوقت مِلكنا وليمتد الليل ما شاء، ولتُخيِّم الظلمة ما أرادوا. لابد أن يخرج العجوز «سيد سيد. يطلع سيد»، «سيد سيد. يطلع سيد». وفى رحبة الطمأنينة العفية تلك، وجدت متسعا لإدارة بصرى فى رِحاب كل هذا المدى الشاسع من حولى، وما كدت أستدير لأمد بصرى إلى الضفة الأخرى فى البعيد ورائى حتى جمد البصر على أول الماء بقربى فى مجرى النهر. كان هناك حشد من الزوارق التى تقاطرت بأرتال من البشر أرادوا أن يكونوا بقرب مركز الحدث، وتحت بطون هذه الزوارق، وعبر ترقرُق ظلمة الماء، لمع وميض عجيب خاطِف التلألؤ، يُضيء ثم ينطفئ، يضىء ثم ينطفئ، فأى وميض هذا؟ 

أغمضت عينى ثم فتحتهما مرات ومرات لعل عارضا ما أصاب بصرى وجعل ما ظننته وميضا ليس إلا علامة إصابة مباغتة فى قاع عينى أو داخل دماغي. ولم يكن ذلك كذلك عندما عاودت تدقيق النظر. كان ما أراه حقيقة ماثلة التجلى لما تذكرت أننى قرأت عنه ويسمى «التلألؤ الحيوى». لكن التلألؤ الحيوى لا يصدر إلا عن كائنات حية فى المياه المالحة للبحار والمحيطات، فما الذى يأتى بكائنات البحار والمحيطات الوامضة هذه إلى مياه نهرنا؟ وتستدعى ذاكرتى التى شحذتها فورة اللحظة أن هذا التلألؤ الحيوى لم يُرصَد أبدا فى بيئة نهرية سوى فى بحيرات «النهر الهندى» على ساحل الأطلسى بفلوريدا وهى مصبات نهرية مفتوحة تختلط فيها المياه العذبة بالمالحة وتعتبر أميل إلى الملوحة. لكن نهر مدينتنا أبعد ما يكون عن الاتصال بالبحر، ثم إن مياهه غاضت وركدت. فهل فى غيضها وركودها تملحت كما تملحت أرواحنا فى سنوات الإهدار والإحباط الأخيرة؟ 

«سيد سيد. يطلع سيد» يعصف صوت الإعصار البشرى الدَوَّار حول عين الظلمة التى تحبس داخلها رجل الألعاب النارية العجوز الطيب. ومع عصف الصوت الراعد والمتواصل بلا كلل، ودوران طاحونة الإعصار البشرى التى لا تتعب، أجدنى برغم أننى لم آكل شيئا منذ الصباح امتلئ بعافية يُدوِّى بها صوتى وتجعلنى أدور مُبتهِجا ثابت القدمين فوق قاعدتى المرتفعة الضيقة. يمتد بصرى إلى أفق النهر فيوقفنى ويذهلنى مزيدا ذلك الوميض الذى لمحت شرارات ضوئة الدقيقة تتلامع فى مياه النهر تحتى وبقربى وقد تجلَّى الآن بعيدا بعيدا، هناك عند انعطاف النهر إذ يستدير مواصلا مُضيَّه نحو الشمال، ولكن هذا الوميض الذى لمحَته عينى تلألؤات خاطفة دقيقة من شرارات ضوء أبيض مائل إلى الزرقة والخضرة تحت بطون الزوارق القريبة، أجده عند أفق النهر شريطا من وميض متجانس، برتقالى مُحمَر، تكسو الظلمة قمته بغبش رمادى خفيف لا يُخفى توهجه. هذا ليس لون التلألؤ الحيوى لكائنات البحار والمحيطات وحتى البحيرات خفيفة الملوحة. هذا أقرب إلى الشفق الفاصل بين ظلمة الليل ونور النهار، أو الغسق الفاصل بين نور النهار وظلمة الليل. لكن أى شفق هذا الذى يتجلى بعد منتصف الليل؟

 
 وهاهو ذهنى الذى شحذته جرأة الصيحة وعِزة الوقفة يستدعى من أعماق ذاكرة القراءة البعيدة التفاتة إلى ظاهرة « التألق الصوتى» كاحتمال لما أراه عند الأفق، وليس « التلألؤ الحيوى» الذى ظننته بقربى. ويالهول أن يكون شفق منتصف الليل هذا الذى يلوح لى فى أفق نهرنا أعجوبة من أعاجيب الصوت إذ يضىء نورا. أعجوبة طاقة الصوت عندما تتكاثف موجاتها فى وسط مائى بفعل آلاف آلاف الحناجر الساخطة على ضفة النهر، فتحاصر فقاعات معزولة وتظل تعصف بها، تتقاذفها بين تمدد وانكماش حتى تنهار، تنهار وتنفجر، وبانفجار هذه الفقاعات يتولَّد ألق ضوئى متواتر فى برهات خاطفة من الزمن. ومن تواصل انفجار هذه الفقاعات واتصال ما يتجلى عن انفجارها من ألق: يولد شفق استثنائى؟! شفق فى أفق النهر وفى آخر الليل؟ 


 وإذا كان ذلك كذلك؟! رحت فى موقف الحيرة أسائل نفسي: هل يكون هذا الشفق شأنه كشأن الشفق الطبيعى، يفصل بين ظلمة ونور، أو نور وظلمة؟ أم يكرر حسرة ما حسبناه شفقا يمهد لنور فجرٍ يبزغ، فإذا به مجرد فاصلة بين ظلمتين؟