فى حوار عن العزلة محمد المخزنجى يكتب:أتمنى أن أكتب أقاصيص «العنبر الجوانى»

فى حوار عن العزلة محمد المخزنجى يكتب:أتمنى أن أكتب أقاصيص «العنبر الجوانى»
فى حوار عن العزلة محمد المخزنجى يكتب:أتمنى أن أكتب أقاصيص «العنبر الجوانى»

هو كاتب التساؤلات الإنسانية العميقة، الباحث دائماً عن زوايا مختلفة للرؤية. الدهشة منطلقه للكتابة، من هنا صار شعاره الدائم «اندهشوا تنتعشوا».. الدهشة لديه ليست هى الاستغراب وإنما «رجة وجدانية أمام قارئ غير العادى وغير المألوف، وغير المتوقع» كما يقول،إنه محمد المخزنجى، المقتحم المغامر، رغم هدوئه الظاهرى، بل لعله أكثر المغامرين فى مجال الكتابة العربية، فمن الشكل الذى لا يتعدى المائة كلمة فى قصصه القصيرة جداً، إلى القصص الأطول كثيراً والتى باتت تقارب النوفيلا، ومن القصص النفسية إلى ماوراء الطبيعة والخوارق، بل القصص المبنية على المعرفة العلمية، وتوظيف الحيوانات والطيور فى الدراما الإنسانية.
قبل عامين قرر المخزنجى مغادرة وسط القاهرة، حيث كان يقيم فى حى الدقى منذ عودته من عمله بالكويت، انتقل إلى القاهرة الجديدة، واعتذر تقريباً عن كتابة مقالاته الدورية العلمية التى اعتاد كتابتها، المخزنجى فى عزلته تفرغ للإبداع وحده، يتابع الواقع متخلياً كعادته عن الدخول فى معارك أدبية أو شخصية يمكن أن تفقده روحه المتسامحة.. يقول ضاحكاً: «هناك عبارة تقول إن تاريخ الحضارة الإنسانية هو تاريخ الانضباط أو تاريخ ضبط النفس.. فأنا أمارس هذا حتى أحمى نفسى وحتى أحررها فى نفس الوقت.. الدنيا مش خناقة.. ولكنها تحتاج التأمل خاصة إذا كنت رجلاً تمتهن الكتابة».
المخزنجى من عزلته يتحدث فى هذا الحوار عن نصوصه الجديدة التى يعمل عليها، ويتأمل  الواقع الثقافى والسياسى وواقعه المختلف فى «القاهرة الجديدة» حيث يقيم الآن.

سألناه عن حياته وبرنامجه فى إقامته الجديدة، وأجاب..
يبدو الأمر للكثيرين عزلة، لكنه بالنسبة لى إعادة تقدير موقف فى ضوء تغيرات عديدة فى الدنيا من حولى إضافة لتغيرات العمر وحدود الطاقة، معظم أصدقاء العمر لم يعودوا قريبى المنال بعضهم رحل والبعض طريح الفراش والقلة الباقية صارت تفصلنى عنهم مسافات مجهدة فى المواصلات، كما لا يمكننى إغفال تغير ضخم حدث دون إرادة منى عبر سنتي، بل ثلاث سنوات كورونا، إذ زادت العزلة من افتقادى لمهارات التواصل الاجتماعى التى كان يتيحها وجودى فى وسط البلد وسهولة الاتصال بالناس، أصدقاء وغير أصدقاء، وصار اللقاء سفرا شاقا فى الزحام بينما «الزيارة بالتليفون» لا تليق بقدر المحبة، خاصة لشخص فى تركيبته النفسية الأعمق لا أقول غير اجتماعي، بل خجول مهما بدا مندفعا وسريع الاشتعال فى بعض الأحوال، أنا لا أجيد الحديث فى التليفون حتى الآن، لكن عندما ألتقى بصديق، أو صديقين، من القلة الذين أعتبرهم أصدقاء عمر وروح تجدنى متدفق الحديث ومرحا. لم يعد الأمر اختياريا تماما بل اضطرارى إلى حد ما.  


هل تغيير السكن حتم هذا الاضطرار؟
من المؤكد أن انتقالى من ميدان المساحة بوسط القاهرة إلى أقصى شرقها أثر فيَّ كثيرا بالسلب فى البداية، وأصابنى بموجة اكتئابية كان يُفترض أن أكون متوقعا لها كشخص يعرف نفسه جيدا ككائن يصيبه أى فقد أو افتقاد لأليف أو مألوف بجراح نفسية عميقة.

صحيح أن بيئة مسكنى فى منطقة المساحة تحولت إلى حالة وحشية من الزحام والتلوث بكل أنواعه، إلا أننى كنت مُحبا ومحبوبا من بشر طيبين ــ معظمهم بسطاء ــ ألفتهم وألفونى لأكثر من ثلاثة وعشرين عاما، وبانتقالى خنقنى إحساس أننى بابتعادى أخون هؤلاء الناس، بل أخون ألفة المكان الذى منحنى وأسرتى احتضانه الودود لسنين طويلة، فاكتأبت برغم أن المكان الجديد كان سخيا بالهدوء والرحابة والخضرة التى أحبها. لكننى سرعان ما خرجت من هذه النوبة، وأعتقد أننى خرجت أقوى واكتشفت أن انتقالى للمكان الجديد مناسب جدا لتغيرات العمر وترديات الواقع، ووفر لى بيئة ملائمة لإيقاع حياة يومية مناسبة جدا لتغير الأحوال، ويا له من تغير.

 
ولكن ما شكل هذا التغير؟ 
بعد عقود من العيش الجامح والفوضوي، المغامر والمُخاطِر، والذى يبدو أنه لازم كبنية أساسية لكثير من الكُتاب، صرت موقنا أن العيش الحسن ــ أخذا وعطاء ــ يتطلب أن يكون للإنسان إيقاع، خاصة فى مثل عمري، وهو إيقاع تشكلت شروطه عبر النشأة الأولى. إذ أننى من الكتاب الذين تعودوا أن يكتبوا فى أماكن مفتوحة أو عامة تحقق شروط «الرحابة» و«الونسة» و«الانفراد»، وكانت المقاهى هى ما حقق ويحقق هذه الشروط، والكتابة وحتى بعض القراءة فى المقهى عادة اكتسبتها من أيام المنصورة، التى كانت، والتى توافرت بها مقاه جميلة ونظيفة وأنيسة خاصة على ضفة النيل، بل فى النيل كشرفة مقهى أندريا، أو فى الفلايك التى كان الطفو بها على مياه النيل طقسا شبه يومى عندي، ومن المؤكد أن بيتنا الذى كان فى الطابق الثانى فوق ورشة أبي، والذى كان بابه لا ينغلق أبدا، وكثرة الراحين والغادين، ثم ما يحدث فى الورشة ويتصاعد إلى البيت، كل هذا جعل من مقاهى المنصورة ملاذا آمنا لتسريح الخيال وتركيز الكتابة والانتشاء بالقراءة. بعدها تشردت حاملا أيام المنصورة ــ التى كانت ــ فى داخلي، وظلت المقاهى هى أهم ما أبحث عنه حيثما سكنت. وهكذا صرت من كتاب المقاهي.


 كيف شكلت الكتابة فى المقاهى إيقاعك الحياتي؟
ظل الذهاب للمقهى للكتابة وبعض اللقاءات يشكل نظامى اليومى قبل انتقالي، لكنه كان نظاما محفوفا بأعباء التلوث البيئى فى بؤرة من بؤر الزحام فى القاهرة، لكن هذا النظام مع مغادرة هذه البؤرة أخذ شكل إيقاع صحى اكتشفت أنه مناسب جدا لتغيرات السن وتغيرات الحياة من حولي. فمشوار الذهاب إلى المقهى والعودة منه فى المكان الجديد، مشيا وبخطوة نشطة، وعبر دروب لطيفة مُحاطة بالأشجار.

صار يحقق لى جرعة الرياضة اليومية المطلوبة متعددة الفوائد، جسديا ونفسيا. ثم إن الجلوس منفردا ــ على الأغلب الأعم ــ مُحاطا بالحياة والأحياء فى المكان الجديد مع حرصى على عدم توسيع دائرة معارفي، ومن ثم عدم اختراق خصوصيتي، صار يوفر لى عنصر الونس، بل تجديد التعرف على أحوال الناس بما تلتقطه نظرتى أو سمعى دون اختراق للخصوصية من الجانبين. وبرغم أن مقاهى زمان كانت أنيسة أكثر، إلا أن مقاهى اليوم والتى صارت «كافيهات» لم تعد مقصورة على الرجال فثمة فتيات جميلات يرصعون فضاءاتها وزوجات بصحبة أزواجهن وأجمل مستجدات هذه «الكافيهات» هى وجود الأطفال الذين يأتون مع أسرهم ويشكل وجودهم «شفاء للروح» على حد تعبير دوستويفسكي.   


لماذا كل هذه الاعتذارات الاعتذار عن الترشح للجوائز، والاعتذارات عن قبول الدعوات لفاعليات ثقافية فى الداخل والخارج، ومن قبل الاعتذار عن ترشيحك وزيرا للثقافة ؟
طبعا هناك مبررات وقناعات جعلتنى مستريحا تماما مع كل هذه الاعتذارات عما لم يعد مهما بالنسبة لي. لقد تذوقت مرارة التقدم للجوائز مرة واحدة فى بداية الطريق، تقدمت لجائزة الدولة التشجيعية وتسرب أن لجنة الجائزة انقسمت بين من يروننى أستحق الجائزة وبين من يرون كاتبا آخر يستحقها، وحتى يتحقق الإجماع اتفقوا على منح الجائزة لمرشح ثالث. الكاتبان المذكوران كانا كاتبين مهمين وهما من كبار الكتاب الآن، لكن التجربة تركت داخلى مشاعر سلبية تجاه حالة الترقب وانتظار النتيجة ثم الإحساس غير المريح بالتنافس مع أصدقاء أو زملاء تحبهم ويحبونك، بعدها قررت أننى لن أضع نفسى فى هذه المحنة أبدا. وصرت أرى أن الجوائز ينبغى أن تسعى إلى الكاتب الذى يستحقها لا أن يسعى الكاتب إليها، وأن قوانين منح الجوائز ينبغى أن تصون كرامة الكاتب بوجود لجنة مستقلة تماما عن أى سلطة من قامات مشهود لها بالعلو الثقافى والنزاهة الشخصية، تختار من يستحق الجائزة، هذا أكرم من السعى وأرحم من الانتظار والترقب ونشوء مشاعر التنافس بين زملاء وأصدقاء، هذه قناعتي، والجوائز الثلاث التى حصلت عليها لم أتقدم لها، بل فوجئت بحصولى عليها من الجرائد، إضافة إلى هذه القناعة وضح أن الجوائز لم تعد تدشينا صادقا ــ إلا فما ندر ــ لتميز كاتب أو كاتبة بل سباق لا يخلو من شوائب الملاءمات والتربيطات والازاحات، والقصص عديدة ومريرة، وفى النهاية صارت الجوائز الأدبية نوعا من « الضوضاء الثقافية»، ويلحق بها الكثير من الفعاليات الثقافية «المهرجاناتية» التى لا تضيف للثقافة ولا للمثقف ما هو مهم أو عميق، لهذا غالبا ما يتردد داخلى مع كل اعتذار عن مثل هذه الفعاليات: « بلا دوشة» وأشعر معها بسلام واطمئنان مريحين جدا، وفى عمق هذا الشعور يكمن قول للأديب العالمى الإنسانى البديع «وليم سارويان» قرأته فى مطلع شبابى فاتخذته شعارا يناسب روحى تماما هو: «مبدئى فى الحياة، ألا أقود أحدا، وألا يقودنى أحد»، والآن أرى أن كل ما اعتذرت عنه كان إفلاتا من فخ!.


فى هذا الإيقاع ما مساحة القراءة، وما الذى لفت نظرك بين ما قرأت؟
دائما ما كنت ولا أزال أقرأ أكثر مما أكتب، خاصة أن الكتابة عندى ليست بمواعيد ونظام، بل هى تأتى فى شكل جيشانات مفاجئة، هذا عن الأدب، أما المقال فموضوع آخر قررت التوقف عنه، ولم يعد الكتاب المطبوع وحده هو سبيلى إلى القراءة، وشكرا لنهر الـ الذى يصب فى جهاز «الريدر» فيضا كريما جدا من كل أنواع الكتب، إضافة للكتب المسموعة التى أنام على أصواتها.

وطبعا تظل الكتب المطبوعة وسيلة تاريخية للقراءة لكن أقل مما سبق. لدى مسار مستمر من القراءة فى كتب الثقافة العلمية العالمية الحديثة والعميقة والمكتوبة بإبداع أدبي. ومسار مواز لإعادة قراءة كتابات أدبية أحببتها لرموز خالدة كدوستويفسكى واستيفان زفايج وماركيز وبورخيس وإيتالو كالفينو الذى أعيد قراءته الآن بسعادة كأننى لم أقرأه من قبل. أما الجديد من الأدب العالمى وأمتن لدار مسكليانى التونسية بجودة تقديمها لنماذجه، خاصة فى قالب الرواية الموجزة، فقد أحببت كاتبا برتغاليا اسمه أفونسو كروش قرأت كل ما تُرجم له من أعمال لعبية الجمال مُركَّزة ولطيفة.


كيف ترى الجديد من الأدب فى مصر والعالم العربي؟
ثمة ظاهرة فيها غزارة وتنوع إبداعى بالتأكيد لكنها تنطوى على خطر يصيب عمق الثقافة، فلا يعقل أن تعيش أمة على قراءة الروايات والقصص، وبعضها عظيم وفاتن، فالاقتصار على قراءة القصص والروايات ليس كافيا لتكوين مثقف حقيقي، فلابد من قراءة ما يسمى بالكتب «غير الخيالية» أو «غير الأدبية» وقد أسعدنى كثيرا ظهور بضعة كتب منها مهمة مؤلفة أخص منها: «300000 عام من الخوف» للرائع جمال أبو الحسن، و«أنا قادم أيها النور» للنادر الراحل محمد أبو الغيط، و«كل دا كان ليه» للمغنية والمؤرخة الموسيقية فيروز كراوية، وكتابين فى الثقافة العلمية المتأدبة لاثنين من علامات هذه الثقافة هما «كواليس الحب» للأستاذ الدكتور مدحت مريد صادق، و«أكوان الحيوان» للدكتور أحمد الديب. أما الكتاب الأخير شديد الأهمية للفيلسوف الكندى د. آلان دونو وعنوانه «نظام التفاهة» ترجمته بتألق الأكاديمية الكويتية النابغة د. مشاعل الهاجري.


وسأختار الكتاب الأول والأخير كحدثين ثقافيين هائلين أحدهما من مصر والثانى من كندا ــ وإن كانت المترجمة قد أضافت إليه مقدمة باهرة العمق تشكل كتابا إضافيا للكتاب المترجم. ورأيى أن الكتاب 300000 عام من الخوف، هو حدث مهم لأنه أول كتاب مُؤلَّف فى العربية فيما يسمى «التاريخ الكبير» أى تاريخ نشأة الكون مما يسمى « الانفجار العظيم وحتى الآن، وقد كتبه بنصاعة ورشاقة فى قالب الأدب التراسلى جمال أبو الحسن، ولو كان الأمر بيدى لقررت إدخال هذا الكتاب فى مقررات المرحلة الثانوية على الأقل، كما أنه يمكن أن يكون لبنة أساسية فى تكوين أى مثقف، لأن التاريخ الأصغر سواء للدول أو الشعوب لا يمكن تقديره بعمق إلا فى ضوء الوعى بهذا التاريخ الأشمل، التاريخ الكبير، كما أن زاوية الخوف التى التقطها الكاتب تكفى لكشف هواجس كبرى لدى أفراد جنسنا، بل حتى الكيانات الأكبر للأنظمة والدول. 


أما الكتاب الثانى وعنوانه الأصلى فى نسختيه الفرنسية الصادرة فى كندا عام 2015 والانجليزية عام 2017 Mediocracy أى النظام الذى يسوده ويسيطر عليه مجموعة من محدودى الأفق والثقافة والحكمة وحتى الإنسانية، وقد ترجمت الدكتورة مشاعل الهاجرى الكتاب ونشر فى بيروت عام 2020 تحت عنوان حاد هو «نظام التفاهة»، وهى حدة تثبت ما استجد من كوارث الأمم والشعوب والبيئة والاقتصاد ومفاهيم الحرية الشخصية أن كل هذا الانحدار وراءه ما يصعب وصفه بغير حدة «أنظمة التفاهة».


كأنك توقفت عن كتابة المقال العلمى الأدبى الذى كان يلقى ترحيبا واسعا من القراء؟
بداية أعتبر كتابة المقال الجيد يعادل القصة الجيدة، فكتابة المقال فن رفيع خاصة عندما يأخذ منحى سرديا كما هو عند المُجيدين من كتاب المقال، الأستاذ هيكل بطريقته ويوسف إدريس بطريقته، وأعتقد أننى أخذت فن المقال بعيدا بشكل ما فى اتجاه ما يسمى «الثقافة الثالثة» التى تمزج ما بين فن الأدب ومعرفة العلم، وأعتز كثيرا بما قدمته فى هذا الجانب والآن يلح عليَّ مزج الفنين فى نصوص ما يسمى «القصص المقالية» لأن المعرفة العلمية صارت تكشف عن جوانب تكاد تبدو كسحرية الفن، وثمة نص أجهدنى كثيرا لامس هذا المزج ما بين المعرفى والأدبى فى قضية قفلة الكاتب واكتئاب الكتاب من زاوية طب نفسية نقدية، أنجزت نسخته الأولى فى تسعة آلاف كلمة وهو رهن التنقيح والدفع إلى النشر. 


من أين يبدأ الواقع وأين ينتهى الخيال فى كتاباتك؟ كيف تخلق شخصياتك المختلفة؟ ما حدود الواقع؟
فى رأيى ومن واقع التجربة أرى أن الخيال والواقع ليسا منفصلين لهذا قلت وأقول إن الواقعية فى الأدب ستعيش وستظل تتجلى مروحة ألوانها وأطيافها مادامت حياتنا على هذا الكوكب، ففى ثنايا الواقع لمحات أو شرارات أو ومضات لها بريق الخيال وقدرته على إثارة الدهشة، من هنا يمكننى العودة للسؤال والقول إن الخيال يبدأ التجلى فى الواقع عندما يلمع داخله ما يثير الدهشة، سواء فى سلوك الأحياء وعلى رأسهم البشر، أو حتى فيما يسمى جمادات وهى ليست بجمادات بحقيقة فوران ما يدور فى قلبها من حراك مكونات ذراتها وأعاجيب حراك الجسيمات دون الذرية، ولمح ما يثير الدهشة، أى ما يصنع الفن كله، فى حاجة إلى تدريب الانتباه ودعم المعرفة، وفى قصتنا هذه « شفق منتصف الليل» لمح لنزوع البشر إلى الفرح فى أشد لحظات الغم، وهى آلية نفسية دفاعية مشهودة، هذا واقع، لكن قفزة الفرح من قلب الغم هى «تفنينة الخيال» التى تختلف من حالة إلى حالة، وهى هنا اختراع الفرح، ومن أعطاف الفرح تنبثق الدراما، أى الصراع بين متناقضين، ثم تلمع بارقة دهشة فى اكتشاف صغير صغير لذلك الوميض فى الماء وعند الأفق، وهنا لعبتى الخاصة التى تمكننى منها الثقافة العلمية، كيف أن الكيمياء الحيوية فى كائنات دقيقة تشكل فسفرة تتألق بالوميض، أى أن الحى يضيء.  ثم ترينا تجليات الفيزياء أن الصوت يتحول إلى ضوء تحت شروط معينة، هذا ليس خيالا علميا، هذا واقع علمي، لكنه يثير الدهشة، أى يومض بما نحسبه خيالا. باختصار: امض مع الواقع أبعد فأبعد وستلتقى بالخيال. الخيال كامن فى كل واقع واكتشافه ربما يحتاج إلى شيء من الحظ الحسن!


كيف تكتب.. آليات الكتابة؟ كيف تعمل على لغتك؟ وكيف وصلت إلى بصمتك الخاصة؟ 
أحس بالرغبة فى الكتابة عندما تشملنى الدهشة من ملمح صغير ما، ثم يدفعنى هذا الملمح للسعى قدما، أو عمقا، عندها يولد طيف « الحكاية». ومتى ما ولد هذا الطيف تستصرخك الكتابة أن تنميه وتكبره فى سردية ما، قصة، أو رواية، أو مقال قصصي، أو قصة مقالية أحاول كتابتها فى مواضيع لا يحيط بها الحكى بما يكفيها، بل تحتاج للبعد المعرفي. انتهيت من قصة مقالية أتصور أنها تحقق ذلك أو تأمل فى تحقيقه، انتهيت من كتابتها الأولى فى تسعة آلاف كلمة، وطبعا ليست هذه الكتابة النهائية.


ولا أعرف إن كانت لدى لغة خاصة أم لا، لكن أظن أن شكل ودرجة انفعال الكاتب بالكتابة تحدد خصوصية لغته، مع ثوابت تتكرر نتيجة ألفة مفردات بعينها، صياغات للجملة محببة، البحث عن تعبير أدق. ربما. أما الطقوس ففى الكتابة الأولى للنص لا أسمع إلا صوتى الداخلى ولهذا أضع السماعات فى أذنى لتعزلنى عما حولى من أصوات المقهى. لكن فى تنقيح النص أضع السماعات موصولة بتسجيل على الكمبيوتر لأغنية يستدعيها إحساس اللحظة لا موضوع القصة. وهذه القصة نقحتها بينما صوت عبد الحليم الحبيب يكرر لحن عبد الوهاب العبقرى فيما تدور وتكرر الدوران رائعة «أهواك وأتمنى لو أنساك»! أليس هذا غريبا. حنان الأغنية واحتدام القصة؟!    


عندما تتأمل ثوابت تجربتك ومتغيراتها؟
أعتقد أن هناك تغييرا محددا أستطيع تحديده والوعى به، فى البدايات كنت مهتما بالشكل والاقتصاد، الآن، حيث لم يعد هناك ما يكفى من الوقت ولا فائض من الطاقة، تراجع اهتمامى بالشكل لصالح توقى إلى الحكي، والحكى ببساطة تناظر أساليب الحكائين التلقائيين وإن ببعض مكتسبات السرد الحديث. 


«نهر المجانين» روايتك التى تحدثت عنها أكثر من مرة .. لماذا اختفت؟
نهر المجانين كان طموحا إلى إنجاز جدارية من مربعات فسيفسائية كل منها يصور حالة من حالات البشر فى مصحة نفسية عتيقة كبيرة (نموذجها مستشفى العباسية التى عملت بها). لكن لأننى كاتب غير منظم وتجرفنى تيارات اللحظة، ثم علاقتى بحبى الثانى فى الكتابة متمثلا فى كتابة المقال العلمى وغير العلمي، ولا أنسى عملى بالطب لقرابة خمسة عشر عاما ثم العمل بالصحافة الذى يأكل الكثير من الوقت والطاقة، كل هذا جعلنى لا أواصل العمل على هذه الجدارية، أنجزت منها نماذج يمكن أن تُقرأ كقصص مستقلة، منها قصة «رق الحبيب» و«أغنى من غناء الطيور» و«حبل زغاريدها» وقد نشرت هذه القصص لكن لم أضمها فى كتاب على أمل استكمال مشروعها. وأهفو إلى تحويل ما بدأته من نهر المجانين، إلى جداول صغيرة.. ربما نوفيلات خاصة بكل شخصية مما بدأته. حلم وطموح، لعل الواقع والمقدور لا يخذلانهما.


علاقتك بالنشر تبدو على فترات متباعدة بل تقول إن النشر هاجس مزعج لي؟ ما معاييرك للنشر؟ ثمة قصص عديدة لك لم تضمها إلى كتبك .. ما المعايير التى تحددها لنشر كتاباتك فى كتب؟
هذا صحيح، لكن وراءه سبب هو أننى عندما أكتب قصة سرعان ما يوحى لى موضوعها أو محورها بسلسلة متسقة يمكن أن تكون كتابا كاملا من قصص متنوعة فى موضوع واحد أو بمحور واحد، مثال ذلك كتبت عددا من القصص نشرتها على صفحة من جريدة الشروق محورها علاقة البشر فى أحوال مختلفة بالكراسي، وبعدها انهالت على أفكار قصص أخرى محورها أيضا الكراسي، لهذا لم أنشر هذه الأقاصيص فيما نشرت من كتب على أمل تحقيق حلم كتاب قصصى كامل عنوانه « كراسي»، ثم ندهتنى نداهة تقلبات الواقع وغوايات قصص أخرى، والآن.. سأكتفى بنشر ما كتبته فى كتابى القادم الذى لم أضع له عنوانا وإن سيكون عنوانه الثانى «خمسون اقصوصة» يضم سلسلة «تحريك القلب» وسلسلة «الضربات» وغيرها من مفردات وسلاسل أقصوصية. وقد استبقيت من المائة أقصوصة التى لم تنشر فى كتب، عددا من الأقاصيص نشرت فى مجلة العربى تحت عنوان أقاصيص المصحة، وقد اكتشفت أن لدى ملاحظات تغطى عالما بحاله من واقع قسم الأمراض النفسية العجيب بمستشفى المنصورة العام الذى عملت به لأكثر من عشر سنوات متواصلة، وبه بشر قصص عجيبة، آمل أن أنجزها وتنشر تحت عنوان مبدئى هو «أقاصيص العنبر الجوانى» فقد كان لهذا العنبر، أو القسم، جغرافية عجيبة كأنها نشأت لتحتوى عجائب تراجيديا، وكوميديا، جنون الفقراء، وأنا أستخدم مصطلح الجنون برغم ما يبدو أنه متعلق بالوصمة، لكننى أراه مصطلحا دقيقا جدا بالعودة إلى الجذر اللغوى للكلمة فى لغتنا العربية، من جنَّ، وأشهر عباراتها جن الليل، أى هبطت ظلمته فغطت نور النهار، وهذا بالضبط ما يفعله المرض العقلى حيث يهبط فقد الاستبصار الناتج عن الخلل العقلى فيبتلع نور الاستبصار. أتمنى أن أكتب هذا «العنبر الجواني» وأهديه إلى المرحوم الدكتور حمدى شكرى صديق العمر منذ الصف الثانى الإعدادى حتى صرنا زملاء مسئولين عن هذا القسم العجيب.     


وماذا عن المستقبل فى كل ما تكلمنا عنه..كيف ترى المستقبل؟
هناك حكاية كتبها صلاح عبد الصبور عندما زار هو وصلاح جاهين فيروز فى بيتها ببيروت لقيا منها ومن زوجها عاصى ترحيبا ومودة واضحتين لكنهما لاحظا أن فيروز تكاد تكون لم تتكلم طوال اللقاء إلا بعبارات قليلة جدا، موجزة جدا، فسأل صلاح عبد الصبور صلاح جاهين بعد انصرافهما عن ملاحظته هذه، فأجاب « مش عارف»! ومع الفارق بين ثريا فيروز وثرى اللحظة، لا أجد إجابة أفضل من قول: «مش عارف»!