«حفظ الكرامة».. كلمة السر لإنهاء حرب أوكرانيا

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

■ كتب: أيمن موسى

منذ تفكك الاتحاد السوفيتي السابق وحتى يومنا هذا يمر العالم بمرحلة مخاض طويلة لميلاد ما يعرف بالنظام العالمي الجديد، الذى يحقق ما تصبو إليه الشعوب من العدالة والأمن والاستقرار للجميع، ويبدو أن هذا الهدف مجرد وهم للشعوب الضعيفة فى مواجهة طموحات وأطماع الدول الكبرى دون أدنى استثناء، ففى البداية سعت الولايات المتحدة تحت تأثير الزهو بالانتصار على الاتحاد السوفيتي دون اضطرار للحرب وإراقة الدما (دماء شعبها وشعوب الدول الحليفة لها بطبيعة الحال) إلا أنها فى ظل هذه الحالة لم تحاول نشر العدالة وحقوق الإنسان وثقافة السلام وغيرها من القيم التى كانت تتهم الاتحاد السوفيتى السابق بتجاهلها، ولكنها سعت لبسط هيمنتها من خلال نشر الصراعات والنزاعات بين الأمم واستخدام القوة المسلحة لتحقيق مصالحها وفى بعض الأحيان فقط لإظهار الهيمنة والسيطرة على الآخرين.. فماذا لو كانت الصورة مغايرة وسعت الولايات المتحدة بينما كافة الأجواء والظروف مهيأة وقتها لنشر القيم الإنسانية العادلة والمحبة والسلام الحقيقى بين شعوب العالم؟.

في ظل الأزمات التى كانت تعانى منها روسيا فى سنوات ما بعد التفكك اضطرت إلى تقبل الوضع القائم من حيث توسعة حلف الناتو والاقتراب بماكينته العسكرية من أراضيها والقيام بالعشرات والمئات من المناورات العسكرية قرب هذه الأراضي، حيث لم تكن روسيا ترغب في المواجهة والصدام المباشر، وكانت فقط تسجل اعتراضها وتؤكد على رغبتها فى التقارب مع الغرب ونسيان ماضى العداء الذى كاد يعصف بالبشرية عدة مرات، وفى نفس الوقت كانت روسيا تريد توسعة تعاونها مع الغرب وإظهار أنها شريك مؤتمن له رغم كافة الاستفزازات ومحاولات التدخل فى شئونها الداخلية، إلا أن الغرب كلما زادت روسيا من محاولات تقاربها معه أمعن فى الاستهانة بها والرغبة فى التأكيد على دحرها وإظهار ضآلتها وفقدانها لكافة مقومات الدولة الكبرى، والأكثر غرابة فى هذا الشأن أن التصريحات والتحركات الغربية فى هذا المجال كانت تأتي من وقت إلى آخر دون داعٍ أو سبب واضح، فيما يظهر أن الولايات المتحدة كانت تسعى من وقت لآخر لإثبات هيمنتها ليس من خلال العمل الإيجابى والبناء الملموس وإنما من خلال إثارة النزاعات والمشاكل واستفزاز القوي المختلفة وعلى رأسها روسيا.

◄ استفزازات متبادلة!
وأمعن الغرب فى أعماله الاستفزازية التى وصلت لدرجة القيام بالكثير من المناورات العسكرية المكثفة فى مياه البحر الأسود، متعمدا القيام بذلك خلال المناورات والتدريبات العسكرية التى تقوم بها روسيا؛ وهو الأمر الذى انطوى على الكثير من المخاطر واحتمالات نشوب مواجهة مسلحة مباشرة مع وروسيا عن طريق الخطأ، ناهيك عن انتهاك المجالات الروسية المختلفة.

وعلى الجانب الآخر لا يمكن القول بأن روسيا وقفت مكتوفة الأيدى أو لم تقم من جانبها بأعمال استفزازية ضد الغرب، سواء تمثلت فى اقتراب طائراتها وغواصاتها من مجالات الدول المختلفة الأعضاء فى حلف الناتو أو القيام بأعمال ساخنة ضد معارضين أو جواسيس وإرهابيين ممن تعاونوا مع الأجهزة الغربية فى أوقات سابقة، أو التحرك قانونيا وقضائيا ضد رموز للمعارضة ممن يتخذون من العمل السياسى ستارا للتعاون مع الأجهزة الأمنية الغربية.

كل هذا ومع الوقت كان يزيد من سخونة الموقف وينذر بوقوع أحداث مأساوية ومواجهة بين روسيا والغرب وربما تمثل ذلك فى العملية العسكرية الروسية الخاصة فى أوكرانيا التى هى الأخرى شهدت وتشهد الكثير من التناقضات سواء فى تبرير قيامها أو استمرارها وعلى الأخص غموض الموقف تجاه نهايتها وقبل كل شيء أنه سبقها طرح روسيا لمجموعة من المطالب لضمان أمنها القومي، وهو ما يدعونا أيضا للتساؤل عن الموقف لو كان الغرب قبل بها وارتباط ذلك بحقيقة المبررات التى طرحت فيما بعد لإظهار مشروعية الحرب.

◄ اقرأ أيضًا | موسكو: لا دليل على سقوط صاروخ كوريا الشمالية بالمنطقة الاقتصادية للبلاد

◄ اقرأ أيضًا | الخارجية الأمريكية: نعمل مع الهند لتقليص اعتمادها على الأسلحة الروسية

◄ اقرأ أيضًا | بوتين: يجب على الحكومة والبرلمان مناقشة وضع الشركات العسكرية الخاصة في روسيا

◄ المبررات
قبل كل شيء ينبغى أن نشير هنا إلى أنه عندما اجتاحت روسيا الأراضى الأوكرانية سواء فى عام 2014 أو فى فبراير من عام 2022 كان المبرر الرئيسى هو حماية السكان من بطش السلطات المحلية، ثم تطور هذا المبرر ليصل إلى مستوى النزول على رغبة السكان المحليين وأن التدخل له سند قانونى دولى من حيث حق الشعوب فى تقرير المصير من خلال الاستفتاء الشعبي، ثم تطور بعد ذلك أيضا لنسمع حديثا عن الحقوق التاريخية وما إلى ذلك، وفى غضون ذلك سمعنا أحاديث عن تجارب علمية ومخططات لتهديد الأمن القومى الروسي.. وجميع هذه المبررات ومع الاحترام لمختلف الآراء التى تنظر من وجهة نظرى للموقف بشكل سطحى وبعيد كل البعد عن القانون الدولى والأعراف المتفق عليها تبدو واهية ولا تبرر اجتياح أراضى الغير لأنه ببساطة لم يكن هناك أى نزاع على الأراضى بين روسيا وأوكرانيا قبل الحرب (وأقصد هنا قبل عام 2014) لكى يضطر طرف من الطرفين لإنهائه بالقوة بعد استنفاد الوسائل والطرق القانونية المتعارف عليها دوليا ، وثانيا لأنه إذا كان أحد لا يشعر أنه مواطن لدولة ما وأنه ينتمى لدولة أخرى فليتجه إليها، وليس من المنطقى عندما يشعر البعض أنهم ينتمون إلى بلد آخر أن يطالبوا الانضمام إليه بالأراضى التى هم عليها، أما حق تقرير المصير وفقا لميثاق الأمم المتحدة فله ضوابط وآليات، وقبل كل شيء فكافة الاتفاقيات والمعاهدات المبرمة فى نهاية الحرب العالمية الثانية وعند تفكك الاتحاد السوفيتى قد ثبتت الحدود وحددت آليات وسبل تسوية المنازعات إن وجدت.

كل هذا سيقودنا إلى أن تدخل روسيا فى أوكرانيا كان فى إطار المواجهة والتنافس مع الغرب وضم الأراضي كان وفقا لحسابات معينة صحت أو أخطأت، مع العلم بأنه منذ الاتحاد السوفيتى السابق لم يكن لدى الروس أطماع فى أراضى الغير وحتى النزاع الحدودى الوحيد لها وهو مع اليابان ظلت روسيا تبدى الاستعداد لتسويته وفقا لمعايير واعتبارات معينة وكلما اقترب الجانبان من التسوية سعى طرف ثالث وهو معروف للتدخل بشكل غير محترم لإفساد هذا التحرك.

◄ أين المخرج
وهنا علينا قبل الحديث عن سيناريوهات التسوية المختلفة أن نعترف معا بأن النزاع لم يقم من تلقاء نفسه، بل إن هناك أطرافا وقوى دولية سعت جاهدة لإشعاله وذلك على أمل توريط روسيا وإنهاكها أو على الأقل إحراجها أمام الرأى العام العالمي، ولكن هذه الأطراف أساءت هى الأخرى الحسابات حيث كان من الواضح تعاطف الرأى العام العالمى مع روسيا رغم كافة الاعتبارات الأخرى، علاوة على أن روسيا لم تكن فى موقف الضعيف الذى تم إحراجه خلال الحرب، وأصبحت هذه الأطراف فى موقف صعب للغاية فى ظل غياب التصورات حول أسلوب إنهاء الحرب.

المعروف فى كافة العلوم العسكرية وإدارة الحروب أنه لا يمكن بدء نزاع مسلح أو مواجهة دون وجود سيناريو أو تصور محدد لإنهاء الحرب، وإلا لتحول الأمر لمجرد همجية ووحشية لإراقة الدماء ووقوع عشرات الآلاف والملايين ضحايا لمغامرات يقوم بها قادة مشكوك فى قواهم العقلية، وهذا الأمر لا أعتقد أنه ينطبق بأى شكل من الأشكال على روسيا التى من البداية أعلنت أنها لن تشن حربا وإنما عملية خاصة، إلى جانب ذلك كان الرئيس الروسى بعد فترة من نشوب المواجهة وردا على تساؤل حول ما الذى جنته روسيا من هذه الحرب أشار إلى أن تعداد الشعب الروسى زاد وكذلك أراضيه، وهذا الشق الثانى هو ما أعنيه حيث إن روسيا تعتبر أكبر دولة فى العالم من حيث المساحة وأشك كثيرا فى وجود أطماع لها لزيادة مساحة هذه الأراضي.

◄ صدق النوايا
ومن هنا كان ينبغى على محاولات التهدئة والتسوية أن تنطلق من هذا المبدأ ولكن مع الاعتذار لكافة محاولات التهدئة فلم أر فيها صدقا حقيقيا فى التسوية وإنما بدا الأمر أشبه ما يكون فى إحدى مراحل ثورة يناير فى مصر عندما كان للناس مطالب معينة وعندما اتفقوا على أشخاص للتعبير عن مطالبهم هذه سرعان ما تحولت لمطالب فئوية ثم فردية، ونفس الأمر انطبق على مساعى القوى المختلفة فى العالم حيث كان الحديث يدور حول مبادئ عامة للتسوية ولا ضير فى نفس الوقت من الحديث عن أوجه لتعزيز التعاون المشترك وأزمة الغذاء والحصول على مساعدات غذائية وعسكرية وغيرها، حيث بدت الصورة وكأن الحديث عن سبل التسوية خلال المساعى الحميدة استغرق وقتا أقل بكثير عن الحديث فى غضون ذلك عن تعزيز التعاون واكتساب الفرص المختلفة مع الاعتذار لكل من شارك فى هذه المساعى التى خلت من التصور الواضح والمحدد للتسوية.

أعتقد أنه كان ينبغى على كل من تحرك بالمساعى الحميدة لطرح الأفكار المختلفة للتسوية ألا يكتفى بالأسس والمبادئ العامة مثل الالتزام بالقانون الدولى والشرعية واتباع النهج التفاوضى للتسوية، وكان من الأفضل أن يقترن ذلك بمقترحات تمس عملية التسوية ذاتها، وكما أشرت من قبل فروسيا بررت تدخلها من البداية بحماية حياة الناس وبالتالى فهى لديها من الأراضى ما يكفى ويزيد على استيعاب السكان الجدد لها بل وتوفير فرص المعيشة الطيبة لهم ليبقى الحديث عن الأراضي.

المسألة بالنسبة للقرم وسيفوستوبول تبدو معقدة وتتصل باعتبارات تاريخية ولا أعتقد أنه سيكون لدى روسيا أى استعداد للحديث عنهما رغم أن الإصرار على ذلك سيجعل منهما مشكلة مؤجلة للمستقبل ولن يخلق السلام للأجيال القادمة.

كما أنه يتعين علينا الاعتراف بأن ضم أراضى الغير قد خلف مشاعر شك وريبة فى نفوس حتى أقرب حلفاء روسيا الذين أصبحوا ينظرون بعين الشك إلى نوايا روسيا وبصفة خاصة فى الدول التى بها جاليات من المتحدثين باللغة الروسية.

ومن هنا ينبغى على روسيا أن تثبت عمليا أنه ليس لديها أطماع فى أراضى الغير من خلال إبداء الاستعداد الجاد للتسوية على أن يكون ذلك فى ظل وجود تصور محدد لدى الطرفين للتسوية التى لا يمكن أن تكون عادلة ودائمة فى ظل استسلام طرف وقبوله بالأمر الواقع، وهو ما يعنى ضرورة تقبل روسيا لمبدأ التراجع عن أراضى بل والتنازل أيضا عن أراضٍ أخرى إحقاقا للعدالة ورغبة فى السلام والاستقرار.

◄ جيوبولوتيكا
بالنظر إلى خريطة أوكرانيا سوف نجدها محاطة بكل من روسيا وبيلاروس وبولندا والمجر ورومانيا ومولدوفا، كما سنلاحظ أنه على الرغم من أن حدود روسيا مع أوكرانيا هى الأكبر ولكن فى واقع الأمر لا تمثل مشاكل وتهديدا كبيرا لأوكرانيا التى لديها نزاعات مؤجلة مع العديد من الدول الأخرى على الأراضي، وبالتالى عند التسوية ووضع هذا العامل فى الاعتبار يمكن من الآن الحديث عن صيغة تسوية تقوم على تأمين كامل حدود أوكرانيا مع كافة الدول التى حولها عن طريق إعلان المناطق على جانبى الحدود مناطق منزوعة السلاح ومحظور الأنشطة العسكرية بها وإشراك كافة الأطراف المحيطة بعملية التسوية والتوقيع على معاهدة دولية لتثبيت الحدود القائمة.

أما القرم وسيفوستوبول فهما ليستا من المناطق قديمة العضوية في الأراضي الأوكرانية ولا أعتقد أن هناك حنينا متأصلا تجاهها وبالتالى يمكن تبادل الاعتراف بهما مقابل أن تتراجع روسيا عن غالبية المساحات التى دخلتها فى أوكرانيا والاتفاق على منطقة منزوعة السلاح، إلى جانب إجراءات تطمئن لروسيا أمنها وأخرى تطمئن لأوكرانيا أمنها وعلى رأس هذه الإجراءات مصادر المياه للقرم وسيفوستوبول، إلى جانب مصادر الطاقة لأوكرانيا وبالعودة بالتاريخ للوراء سوف نجد أن هناك نزاعات أكثر حدة تمت تسويتها من خلال تبادل الأراضى وتقديم البدائل.

يمكن القول إنه عند إقناع الطرفين بضرورة إنهاء النزاع ووقف القتال علينا أن ندرك وجود الكثير من الأطراف التى لديها مصلحة فى استمرار القتال وإنهاك الطرفين، وهذه المصالح تكتسب الطابع الآنى فى الوقت الراهن وكذلك الطابع المؤجل للمستقبل، والأمر يبدو معقدا للغاية بحيث ينبغى مساعدتهما عن طريق دراسة إمكانيات التسوية التى تحفظ لروسيا وضعها كدولة عظمى لها كرامتها الدولية وقبل كل شيء صورة القيادة السياسية الروسية أمام شعبها، وفى نفس الوقت تحفظ لأوكرانيا حقوقها التى ينبغى على القانون الدولى والمجتمع الدولى مساعدتها فى صيانتها وعلى كل من ينظر للأمور بشكل سطحى ويطالب القيادة الأوكرانية بالاستسلام أن يدرك أنه لا توجد قيادة عاقلة أو وطنية تعلن الاستسلام أمام من تعتبره معتديا على أراضى الوطن، وأعتقد أن هناك تجارب رأى فيها البعض أن الصمود أمام العدوان والتعرض للضرب المبرح ووقوع الكثير والكثير من الضحايا من أبناء الوطن من أعمال البطولة الخالدة.

◄ الحلول المطلوبة
خلاصة القول إنه ينبغى على كل من يرغب فى القيام بمساعٍ حميدة أن يكلف نفسه عناء دراسة الموقف بشكل كامل وموضوعى والخروج بالأفكار والخرائط التى تحفظ للجانبين كرامتهما وتبدو مقنعة لهما لقبول الحل الوسط.

وأخيرا وكما بدأنا الحديث عن النظام العالمى الذى يقوم على التعددية القطبية علينا أن ندرك أن نظام الأقطاب هو أشبه ما يكون بنظام البلطجية أو الفتوات الذين يتقاسمون العالم فيما بينهم كمناطق نفوذ أو يتنافسون فيما بينهم على حساب الأمم المختلفة، وعلى العالم الثالث أن يفكر من اليوم ويستغل الفرصة للخروج بنظام عالمى يحقق له مصالحه هو وليس مصالح دول تسعى لأن يكون لها حقوق تعلو حقوق الباقين، وأعتقد أن نواة هذا النظام الجديد يجب أن يكون متمثلا فى الأمم المتحدة من خلال تطوير آلياتها بما لا يجعل دولا تعلو الأخرى وبما يفرض احترام القانون الدولى دون استثناء ويضمن للجميع التطور والتنمية وتوزيع الثروات والأدوار، وربما يصل الحلم إلى امتلاك جيش ثابت من مختلف دول العالم وولاؤه للمنظمة فى المقام الأول وفرض حظر شامل على أسلحة الدمار الشامل، بحيث ينطبق على الكافة دون استثناء وبحيث لا تمتلك أية دولة جيشا أقوى من الجيش الدولي.. فإذا كانت الدول الكبرى التى تتحدث كثيرا عن تطوير النظام العالمى تقصد ذلك فمرحبا بها وإذا كانت تبحث عن طريق للحصول على عضوية نادى الفتوات البلطجية فهذا حديث آخر.. مجرد حلم.