«على ضفاف الميكونج 5» قصة قصيرة للكاتب الدكتور طارق الزيات

طارق الزيات
طارق الزيات

 

الحدوتة الخامسة

«لو كرو»

خاب ظني كثيراً في أداء الفرنسيين، كنت أتصور أن يكون موقف القائد الفرنسي أكثر شدة وصرامة وهو مدجج بالعتاد والمدرعات والأسلحة الحديثة، فاجأ الجميع عندما قرر أن يغادر الغابة الجبلية دون أي مواجهة أو تحذير.

رغم علاقتي الوثيقة بالجيش الفرنسي في المنطقة وكنت الوحيد المصرح له بالدخول ليلاً إلى معسكراتهم، إلا إن ذلك لم يمنع من معاتبتي له، ولكنه قال بلا مبالاة أن عقده المبرم مع الأمم المتحدة يحدد مهامه وأنه غير مكلف بالاشتباك أو القيام بأية مواجهات.

بدأ الليل يتسلل إلى الغابة، والإظلام خطر كبير في التحرك على الطرق الملتوية من قمة الغابة إلى السفح، وكلما تغلغل الظلام كلما علت أصوات ذبذبات عالية تصم الآذان ولا يمكن تحملها، هذه الأصوات هي أصوات الحشرات التي تبدأ في الليل، وهي صفير مختلف حسب كل حشرة وتتضافر كلها لتخلق هذه البيئة الصوتية المزعجة والمؤذية فعلاً للآذان.

رغم إنني عدت محبطاً بسبب فشل المهمة ولكني أدركت فارقاً كبيراً بين شعوبنا وبين الأوربيين، نحن نلقي بأيدينا في التهلكة ولا نبالي، بينما هم لا يقدمون على عمل متهور، ولا يتفضلون بمواجهة ليسوا ملزمين بها ولم تنص عليها عقودهم المبرمة مع المنظمة الدولية.

تجاوزنا هذه الأمر، وفي صباح اليوم التالي قابلت المواطن الذي أبلغ عن سرقة السيارة فوجدته سعيداً مبتهجاً وسألته عن السبب فأخبرني أن استعاد السيارة .. لقد دفع عشرة آلاف دولار للمتمردين بعدما تأكد أن الجيش لن يعيد له السيارة.. فيما بعد دفع الجيش الفرنسي قيمة إيجار هوائي اللاسلكي للمتمردين.

كنا سعداء في المنزل الجديد، الأسرة الكمبودية تقيم في الدور الأرضي ويجب أن نعبر من صالة المنزل لنصعد إلى الدور العلوي، نعود في السادسة مساء، فنجد كل الحي من رجال ونساء يجلسون لمشاهدة مسلسل تليفزيوني والجميع في حالة صمت، نمر بينهم بهدوء ونشير لهم بالسلام و يردون هم بالابتسامة.

الآنسة مات لا تمانع من ترك المسلسل ومغادرة الصالة وتدخل إلى المطبخ الخلفي كي تجهز الطعام، المطبخ عبارة عن حوش مكشوف فيه بناء عبارة عن مستطيل من الصخر يشبه رخامة المطبخ وقائم على أربعة قوائم مبنية بالطوب، وتوجد على سطح هذا المستطيل ثلاث فتحات دائرية تستقر في كل منها آنية فخارية تشبه الزير الفخاري الصغير وفتحة صغيرة أخرى لها وظيفة هامة .

هذا هو البوتاجاز الذي نطهو عليه طعامنا، يوضع الفحم في هذا الزير وهو مشتعل وتوضع الآنية فوقه ويمكن إشعال الفحم في أكثر من زير إذا كان هناك أكثر من صنف طعام، أما الفتحة الصغيرة فهي التي يتم نقل الفحم المشتعل إليها بعد طهي الطعام وتغطيتها حتى ينطفئ الفحم ولا يستهلك، وبالمناسبة الفحم الكمبودي سريع الاشتعال ولا يحتاج سوى دقائق معدودة.

لم تكن هناك خضروات نعرفها والطعام إما دجاج مسلوق وأرز أو لحم مسلوق وأرز أو أسماك مقلية وأرز .. اعتقد أننا تمتعنا بصحة جيدة بسبب خفة الطعام الذى كنا نتناول وتمتعنا بلياقة بدنية عالية في هذا الوقت.

كان المنزل الجديد بالنسبة لنا يمثل العائلة فقد اعتنوا بنا جيداً، كنا نسافر في الإجازة القصيرة إلى تايلاند ونعود وباب شقتنا مفتوح لا ينقص منها شيئا، تعودنا أن نجلب للأطفال الحلوى والشيكولاتة عند عودتنا من الخارج، سعادة الأطفال أمر طبيعي لكن نظرة السعادة في عيون الآباء والأمهات أمر لا يمكن وصفه.

تحدثت مع زميلي في السكن وكنا نمثل سوياً فريقاً منسجماً تماماً، أخبرته إنني أريد أن أقدم شيئاً للأطفال والمجتمع المحلي، واقترحت أن أدرسهم اللغة الفرنسية، وعبرت عن خشيتي أن يسبب له هذا الأمر إزعاجاً في المنزل.

وافق الرجل بكل أريحية، أخبرت السيدة التي سبق أن أقنعت المالك بتأجير المنزل لنا، وطلبت منها أن تخبر أولياء الأمور الذين يرغبون في تعليم أبنائهم اللغة الفرنسية أن يحضروا صحبتهم  وحددت لهم الأيام التي سيحضروا فيها .

كانت اللغة الفرنسية مقررة على التلاميذ في المدارس الكمبودية، لذلك حضر عدد معقول من التلاميذ وأولياء الأمور، لم يقتصر الأمر على ذلك فقد داوم على حضور الدروس الكبار وخاصة هؤلاء الذين يأتون لمشاهدة المسلسل التليفزيوني وأصبحت صالة المنزل مليئة بالأطفال من البنين والبنات.

أحضرنا الحليب المعلب في علب التتراباك الورقية والحلوى، وبدأت الدروس ومن بعد الدرس كنا نقدم لكل تلميذ كوب من اللبن وبعض الحلوى، لم يعتد الأطفال على شرب اللبن، أحبوه كثيراً عندما تذوقوه وكان هؤلاء المساكين يغفون بعدما يتناولونه لشدة احتياج أجسادهم الضعيفة للتغذية ... سوف أخصص حلقة لعرض صور لكمبوديا والمأمورية ومن بينها[s1]  صور هذه المدرسة الصغيرة.

وبينما أنا منهمك في التدريس ذات يوم فوجئت بحضور شخص كمبودي هام من وجهة نظري، هذا الرجل هو المدير المسئول عن المدارس في المنطقة، وحضر معه شخص آخر يبدو أنه مرؤوس لديه.

حياني الرجلان تحية كمبودية مهذبة وبادرت بتحيته ودعوتهما للجلوس، تابع الرجل الدرس الذي أقدمه وعندما انتهيت وتبادلت الحديث معه كانت متأثراً جداً وهو يعبر عن شكره لهذه البادرة من جانبي .. كان هؤلاء الناس يتمنون أن يشعر الآخرون بمعاناتهم.

كان التدريس في مكان مغلق آمن هو أمر غير معتاد، المدرسة الكمبودية هي عبارة عن سبور في حقل بينما يجلس الطلاب على الأرض ويتلقون الدروس، لقد كان هذا الشعب مثابراً بحق ولم يستسلم في أحلك اللحظات وفي ظل انعدام الإمكانيات بل واصل تعليم أبنائه بكل جد وإخلاص.

يسعدني دوماً أن التقي بشخصيات من كمبوديا تلقت تعليماً في المدارس والجامعات الكمبودية ويعملون في جميع أنحاء العالم وخاصة الولايات المتحدة، لا أفوت الفرصة دون أن استرجع الذكريات الجميلة معهم.

بعد عدة أيام من بدأ الدراسة، جاءت الآنسة مات كشأنها دوماً لتهمس لي بما يدور في الأنحاء ثم أشارت إلي وهي تقول" لو كرو"، لم أفهم بالمرة ماذا تريد، وهي تبذل جهداً كبيراً حتى فهمت مقصدها ... لقد أصبح أسمي " الأستاذ".

يتبع