إنها مصر

إلى عرفات الله

كرم جبر
كرم جبر

وصلت مكة منتصف ليلة الإثنين قبل الوقوف بعرفات بساعات، فى هذا الوقت تكون شبه خالية من الحجيج الذين تم تصعيدهم إلى عرفات، والحمد لله نسمات باردة تزيد الأجواء الروحية جمالًا.

يقولون ادع لمن تحب وأفضل الدعاء بمجرد أن ترى عيناك الكعبة المشرفة، ولكن من رهبة الموقف تنسى كل شيء، إلا: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله..
وكم كان كريمًا معى ورفيقًا بى قبل العيد بساعات.

فقد أبلغنى ابنى محمد أنه تقرر منافشة رسالته للدكتوراة غدًا الثانية ظهرًا، فقلت لنفسى «يا سبحان الله»، لأن موعد سفرى للحج هو الحادية عشرة ظهرًا قبل مناقشة رسالته بثلاث ساعات، وتقريبًا هى آخر طائرة.

وقلت: اللهم أنى أسألك من فضلك فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب فاهدنى ووفقنى لما تحب وترضى.. وقررت أن أشارك ابنى فرحة عمره وأن أذهب لأداء الفريضة، ويسر لى المولى عز وجل، محمد حصل على الدكتوراة بامتياز، بعد حصار علمى من لجنة المناقشة المكونة من اثنين من كبار الأساتذة الألمان، وأربعة أساتذة كبار مصريين، فى موضوع صعب للغاية «التشفير وأمن المعلومات».

وأتم المولى عز وجل كرمه بتعديل موعد السفر للحج ليكون التاسعة مساء بدلًا من الحادية عشرة ظهرًا.

فبماذا أدعوه عندما تقع عينى للوهلة الأولى على الكعبة؟.. الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.

ودعوت الله فى الطواف بـ «راحة البال»، ولن يعرف إنسان الراحة والانسجام والهدوء والسلام، إلا إذا أسلم وجهه لخالق الكون، وصعد دعاؤه من القلب إلى السماء.

راحة البال.. هى إكسير الحياة وسر الهدوء والصفاء والسكينة، فإذا كان وجهك أصغر من سنك، وملامحك مريحة ومسالمة، وصوتك صافيًا وهادئًا، وأعصابك ساكنة ومستريحة، وابتسامتك تأتى من الأعماق، وتنظر للناس بنفس متصالحة.. إذا كان كل ذلك، فأنت تتمتع بـ «راحة البال».. والبال هو الحال أو الشأن.

وأنت تطوف بالكعبة المشرفة والسعى بين الصفا والمروة، هى الأفضل فى الحياة، وحين نرتدى ملابس الإحرام، ونترك خلف ظهورنا كل الآلام والأوجاع، فما أجمل من أن تكون قريباً من المولى عز وجل، تشكو إليه ويعلو صوتك بالدعاء، وترجوه العفو والمغفرة، والستر فى الدنيا والآخرة.

أجمل شيء فى الحياة أن يستغنى الإنسان عن مغريات الحياة، فيؤمن أن اللقمة التى تهضمها معدته حتى لو كانت «عيش حاف»، أفضل مليون مرة من مباهج الطعام التى لا تستطيع معدته أن تهضمها، أو يكون محروماً منها بسبب العلل والأمراض.

الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله..

فقد كنت هنا فى الكعبة فى مايو 2021 فى زمن كورونا، وأديت العمرة مع عدد قليل جدًا لا يتجاوز العشرات، ومكة لا تمتلئ حواريها وشوارعها وأزقتها إلا بأعداد قليلة بملابس الإحرام البيضاء، وترتفع أصواتهم بالدعاء الذى يجلجل السماء أن يزيح الله البلاء والوباء، وتنقل رسالة الأرض إلى السماء، أن تزول الغمة وتعود القلوب المرهفة والمشتاقة إلى زيارة بيت الله الحرام، «اللهم اصرف عنا الوباء، بلطفك يا لطيف، إنك على كل شيء قدير».

الحمد لله.. عادت ملابس الإحرام البيضاء تزين كل ركن فيها، وأصوات الحجيج تشق عنان السماء «لبيك اللهم لبيك».. الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله.