من دفتر الأحوال

لعبة للفقراء

جمال فهمى
جمال فهمى

الإله «باخوس» هو واحد من آلهة الأولمب عند اليونانيين القدماء، لكنه ضم إلى زمرة هؤلاء الآلهة حديثا نسبيا بعدما تعلقت به جحافل، العامة بوصفه إلها أقل شرا وأقل تعاليا من باقى الآلهة، ربما لأن تخصصه الخمر والشعر والجنون أيضا.
ويبدو أنه لهذا السبب عاش «باخوس» زمنا طويلا بعد أن ذهبت عصور الديانات القديمة، وأشرقت شمس ديانات التوحيد وانتشرت المسيحية فى أوربا، وانطلاقا من هذه الحقيقة نسج المبدع الفرنسى الكبير ومتعدد المواهب (روائى، وشاعر، وسينمائى، ورسام) جان كوكتو (1889ـ1963) واحدة من أجمل أعماله المسرحية التى حملت اسم «باخوس» وضمنها كوكتو رسالته وعقيدته التقدمية شديدة الانحياز لقيم العدل والحرية ونبذ التعصب والتمييز بين خلق الله.
تدور أحداث هذه المسرحية التى كتبها جان كوكتو ونشرها عام 1951، فى نهاية العصور الوسطى الأوروبية وتحديدا فى العام 1522 وتجرى الأحداث فى مدينة ألمانية تعمد كوكتو ألا يكون لها اسم، وقد كان أهل هذه المدينة تعودوا على ممارسة لعبة أو طقس سنوى عبارة عن اختيار شخص يمثل دور «باخوس» على أن يبقى هذا «الباخوس» المزعوم فى موقع الإله الحاكم لمدة أسبوع يتمتع خلاله بكل صلاحيات الحكم الإلهى.
وفى العام المذكور فى المسرحية يتأهب الناس لسماع اسم «باخوسهم» الجديد الذى يتولى انتخابه مجلس من كبار المدينة وهم: الدوق والمطران وكاتب العدل والعمدة ، لكن فى هذا العام أضيف لهم الكاردينال زامبى الذى أرسله بابا روما فى مهمة تتعلق بالتعرف على نتائج عملية مكافحة أفكار القس المتمرد مارتن لوثر وحصار أتباعه.
 ونعرف من المشاهد الأولى للمسرحية أن الابن الأكبر للدوق كان هو «باخوس» العام السابق لكنه فى نهاية مدته انتحر، ما جعل الكثيرين يقترحون إلغاء هذه اللعبة، غير أن ممثل البابا اعترض على هذا الاقتراح فبقيت اللعبة، فما كان من ابنة الدوق إلا أن اقترحت على والدها أن يختاروا شابا من أهل المدينة يدعى «هانز» رغم أنه قد صار مشهورا عنه «الجنان» بعدما طارده الشبان الأثرياء فى المدينة، ورغم ذلك كان يدعى لحفلات تعذيب يقيمونها لبعض الفقراء من باب التسلية.
المهم أن الدوق اقتنع باقتراح ابنته وبالفعل رشح فى المجلس اسم «هانز» ليكون «باخوس» هذا العام، ومر اقتراحه فعلا وتم اختيار الشاب فعلا لكى يكون حاكما إلهيا لمدة أسبوع، هنا سنكتشف أن الشاب ليس مجنونا كما كان شائعا عنه، وإنما هو نفسه استراح لتلك الشائعة التى رأى فيها بعض الحماية من الظلم والملاحقة.
وإذ تولى «هانز» مسئوليته كباخوس، راح فورا يمارس صلاحياته التى بدأها بالدعوة للتحلى بقيم التسامح والعدل، بل راح يؤلب الفقراء على الأغنياء، وأخذ يطالب الناس بالعودة إلى المسيحية النقية الداعية إلى المحبة والإحسان والحرية.


جن جنون ممثل البابا من تصرفات هانز وأفعاله، لكن ليس ملائما إبعاده عن موقعه المختار قبل أن مضى مدة الأسبوع الذى ينتهى، حسب العادة، بحرق دمية تمثل «باخوس».. لكن هذه المرة بدا واضحا أن سادة المدينة والكنيسة يريدون إلقاء الشاب نفسه فى المحرقة وليس الدمية.


هنا يتدخل الدوق والكردينال، بعدما تأثرا بطيبة «هانز» وصدقه، ويحاولان إنقاذه من المصير الذى ينتظره عن طريق إقناعه بالتوقيع على وثيقة يستنكر ما فعله ويعلن توبته، لكن هانز الشاب يرفض التوقيع على هذا الوثيقة لأنه أولا مقتنع بكل الأفكار والأفعال التى قام بها ودعا إليها طوال أيام أسبوع اللعبة، وثانيا لأنه لا يريد أن يموت مهزوما مزلولا.
يموت «هانز» فى النهاية لكن ليس محترقا، وإنما مقتولا بيد صديقه الابن الأصغر للدوق، وهذا الأخير قرر فعل ذلك لأنه أراد لصديقه موتا أقل ألما وبشاعة من الحرق!!