الفائز بالبوكر الدولية جورجى جوسبودينوف: نكتب لتأجيل نهاية العالم

جورجى جوسبودينوف
جورجى جوسبودينوف

ما شعورك بوصول روايتك لجائزة بوكر الدولية 2023، وماذا يعنى الفوز بالنسبة لك؟

أشعر بالسعادة بالطبع، كالكثيرين فى بلغاريا. اتضح أن «مأوى الزمن» هى أول رواية كُتبت فى الأصل باللغة البلغارية يتم ترشيحها لجائزة بوكر الدولية. لا يشجع هذا الكُتاب من بلدى فحسب، بل من كل بلاد البلقان، مَن يشعرون غالبًا أنهم خارج مجال اهتمام العالم الناطق بالإنجليزية. يُفترض عادةً أن «الموضوعات الكبرى» محجوزة ل «الآداب الكبرى»، أو الآداب المكتوبة بلغات كبرى، فى حين تُترك اللغة الصغرى، تلقائيًا، للقضايا المحلية والغريبة. جوائز بوكر الدولية تُغير الوضع الراهن، وهذا أمر بالغ الأهمية. أعتقد أن كل لغة لديها القدرة على سرد قصة العالم وقصة شخصية لفرد. بفوز روايتى، أعرف أن المخاوف والهواجس التى تطرحها صارت مفهومة.

 

 ما الذى دفعك لتأليف هذه الرواية، أو ما جعلك ترغب فى رواية هذه القصة بالذات؟

 نشأت رغبتى فى تأليف هذه الرواية من الشعور بأن شيئًا ما قد انحرف فى نظام الزمن. يمكنك التقاط رائحة القلق العالقة فى الجو، يمكنك لمسها بإصبعك. بعد عام 2016، بدا كأننا نعيش فى عالمٍ آخر وزمنٍ آخر. حركنى نحو الفكرة مبدئيًا ما نشهده من تفكك العالم مع تصاعُد زحف الشعبوية واللعب بورقة "الماضى العظيم" فى الولايات المتحدة وأوروبا. كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى دافعًا آخر. نشأتُ فى ظل نظام باع شعارات "المستقبل المشرق" فى ظل الشيوعية.

الآن تغيرت الرهانات، وبدأ الشعبويون يبيعون "الماضى المشرق". أومن أن كلا الصَّكَينِ موقوفَين، لا يدعمهما شيء. ولهذا أردت أن أروى هذه القصة عن "استفتاءات على الماضي"، أجرتها كل دولة أوروبية. كيف يعيش المرء فى هذه الحالة من قصور المعنى وضياع المستقبل؟ ماذا نفعل حين تبتلعنا جائحة الماضي؟ يصف الفصل الأخير من الرواية كيف يُبعَث الماضى من جديد: تفاجئنا القوات والدبابات التى حُشدت لإعادة تمثيل بداية الحرب العالمية الثانية بغزوها لأراضى دولة مجاورة. نُشرت الرواية باللغة البلغارية عام 2020.

ما هى المدة التى استغرقها تأليف الرواية، وكيف ترى عملية الكتابة؟ هل تكتب على لوحة مفاتيح أم تكتب بخط اليد؟ هل عملت على مسودات متعددة أم غمرتك دفعات حماس مفاجئة؟ هل خططتَ الحبكة والبناء مُسبقًا؟

خطرت لى فكرة شخصية جوستين، مؤسس "عيادات الماضي" لخلق زمنٍ موازٍ لمن يفقدون ذاكراتهم وحفظه، منذ خمسة عشر عامًا. خلال السنوات الست أو السبع الماضية، أدركتُ أن الماضى قد يصير "وحشًا بذاته" وأن الاستدعاء الجماعى يخلو تمامًا من البراءة. خلال تلك الفترة، أجريتُ أبحاثًا عديدة - حصلتُ على زمالة لمدة عام فى مركز كولمان بمكتبة نيويورك. استغرقت عملية الكتابة نفسها ما يقارب ثلاث سنوات. أُدون المسودة الأولى أو الملاحظات فى دفتر عادةً، وبعد ذلك أكتبها على الكمبيوتر. ينتهى بى الحال دومًا بسبع مسودات من رواياتي. كان الإطار الأساسى للمخطط منذ البداية هو فكرة الانتقال من عيادات الماضي، التى تتعامل مع الماضى الشخصى للمرضى أو النُزلاء، إلى الاستفتاءات الأوروبية حول الماضي. لكننى من النوع الذى يحب تتبُع اللغة والقصص ذاتها. أعتقد أن اللغة أذكى منا. أنا آتٍ من منطقة الشعر، أُثَمِنُ كل كلمة. أكتب رواياتى جملةً جملة. إذا توصلتُ للنقطة التى أتبع عندها صوت الراوي، بلغته وإيقاعه، بل وأحيانًا أدهش نفسى بالطريقة التى تتكشف بها القصة، يكون هذا من مصلحة الكتاب. لا تُعجبنى الروايات المكتوبة كالجدول الدوري، حيث يعرف الكاتب منذ البداية ما ينتظره بداخل كل صندوق. أريد أن تثيرنى القصة، وأن تكون طبيعية وإنسانية، لا تنتقل من النقطة أ إلى النقطة ب، بل تضيع وأجدها. إلى جانب ذلك، فإن رواية عن فقدان الذاكرة (الشخصية والجماعية) لا يمكن أن تكون بخلاف ذلك.

أين تكتب، كيف تبدو مساحة عملك؟

فى البداية، عندما أُدوِن فى الدفتر، أكتب فى أى مكان. قد يبدو غريبًا رؤية شخص ما يستخدم دفتر لتدوين الأفكار خلسة فى مكان عشوائي، وقت العصر. أحب وقت العصر. لكن حين أبدأ الكتابة الحقيقية، أفضل البقاء فى نفس المكان، فى الصباح عادةً، وأن أكون وحدي. لم يكن لى أبدًا "غرفة تخصني"، لذلك أكتب فى غرفة المعيشة فى أوقات غياب عائلتي. اعتدت أن أدخن كثيرًا، لكنى أقلعتُ الآن، اكتشفتُ أنه إذا استحوذت عليك القصة، فلن تحتاج إلى أى شيء آخر من حولك: القهوة والسجائر والمكسرات. هدفك الوحيد ألا تفقد تدفق اللغة.

كيف ترى تجربة العمل مع مترجمة الرواية، أنجيلا روديل؟ ما مدى التقارب بينكما أثناء العمل معًا على النسخة الإنجليزية؟ هل قدمتَ لها أى توجيهات أو مقترحات محددة؟ هل مررتما بأى لحظات مفاجئة أثناء العمل، أو لحظات سارَّة، أو تحديات؟

أحب العمل مباشرة مع مُترجمِيّ، وتلقى أسئلتهم والإجابة عليها. أرتابُ دومًا فى المترجمين الذين لا يثير النص أسئلتهم. أعرف أن كتابتى مزدحمة بالفخاخ؛ الإحالات والاقتباسات والتلميحات. بصفتى مؤلفًا يرى اللغة نفسها ذات أهمية بالغة، أرى ترجمة كتبى مهمة بالغة الصعوبة. أعتقد أن ترجمة أنجيلا رودل عملًا مبهرًا  بحق، إذ لم يتحتم عليها ترجمة النص نفسه فحسب، بل وسياق جميع القصص المتضَمَنة فى الرواية. تستند الرواية على إعادة تمثيل عقود مختلفة من القرن العشرين، حيث يجب أن تبدو اللغة العامية لحقبة معينة صحيحة أيضًا فى عدة مواضع. فى هذا البناء الحديث للماضي، يتم تنشيط طبقات مختلفة من اللغة والذاكرة. كيف يمكن ترجمة الماضى أصلًا، الشخصى والجماعي؟ وكيف يمكن ترجمة الكيتش القومى لمختلف البلدان الواردة فى الرواية؟

أذكر أن اللغة الإنجليزية اتسعت للعنوان مثلًا، وهو تعبير جديد بالبلغارية، بينما لم يكن تغييرها ل "ملجأ القنابل" فى الفرنسية والإسبانية والدنماركية موفقًا. ظهرت مشكلة أخرى تتعلق بالخطاب  المباشر، والذى لم يظهر فى النص الأصلى كخطاب مباشر. فى اللغة البلغارية، يسهل تتبعه إلى حد ما، ولكن هذه ليست الحال فى اللغة الإنجليزية. أجرينا أيضًا نقاشًا طويلًا مع المحرر حول وجوب وضع علامة على الكلام بعلامات تنصيص أو اتباع منطق النص الأصلي. قررنا المخاطرة بذلك، ومن ثَم واجهت أنجيلا المهمة الصعبة المتمثلة فى ترجمة الصوتين: صوت جوستين وصوت الراوي، المتدفقين بالتوازي، كخيطين، متشابكَين ومنفصلَين فى آن. هذا المزج والفصل فى الأصوات مهم منطقيًا للرواية، لذلك أنا سعيد لأننا حافظنا على الأسلوب الأصلى للخطاب.

كيف ترى أهمية الاحتفاء بالترجمة الأدبية؟

سأخبرك ببساطة. حين نحظى بآذان وعيون (وترجمة) لقصة الآخر، حين نسمعها ونقرأها، يصبح شخصًا مثلنا. سرد القصص يخلق التعاطف، وينقذ العالم. خاصة فى عالمٍ كالذى نعيش فيه اليوم. نكتبُ لإرجاء نهاية العالم. ونهاية العالم هى شأن شخصى للغاية. ويحدث بلغات مختلفة. تمنحنا الترجمة الشعور بأننا نعمل معًا لأجل هذا الإرجاء. تمنحنا الشعور المتجسد فى قصتى البلغارية عن الحزن والقلق، وفى قصة شخص آخر فى بيرو، على سبيل المثال، وفى قصتك الإنجليزية، بأننا نتألم بنفس الإنسانية. لا توجد طريقة أخرى لترويض هذا الألم والتعامل معه سوى روايته. وكلما زاد عدد اللغات التى نحكى بها عنه، كان ذلك أفضل.

إذا كان عليك اختيار ثلاثة أعمال روائية ألهمتك ككاتب أكثر من غيرها، فما هى ولماذا؟

قصص جدتى التى استمعتُ إليها فى طفولتي. والتى مزجت بين الخيال والواقع، دون حدٍ واضح بينهما ينتهى عنده أحدهما ويبدأ الآخر. قصص ذات أصوات وهمسات، وفى نهايتها تحدث المعجزات. كما أن شخصيات تلك القصص عاشت فى نفس القرية التى نعيش فيها. ثم اكتشفتُ أول قصص أندرسن التى قرأتها بمفردي، "بائعة الكِبريت"، وعين الدموع التى تنفجر مع بداية تلك القصة فى كل مرة. لا أثق فى كاتب أو حكَّاء لم يبكِ عند قراءة هذه القصة، ولم يتأثر بموضوعات الموت والطفولة فيها. أظن أنها أثَّرت على كتابتى بعد ذلك - وكذلك شخصية جوستين، الذى قال، "إنها الطفولة والموت، ولا شيء بينهما." وثالثًا، سأشير إلى عملين أساسيين تأثرتُ بهما أثناء العمل على مأوى الزمن وموضوعات الذاكرة بشكل عام: "الجبل السحري" لتوماس مان و"فونيس قوى الذاكرة" لبورخيس. أرى قراءة مان كانت أهم لعملي، يمكننا تشبيهه بآينشتاين الزمن الأدبى والتاريخي. بينما مع بورخيس، تسقط فى جحيم الذاكرة الخاصة، رُغم أننى حلمتُ دومًا بامتلاك مثل هذه الذاكرة الفائقة لجميع الأشياء القابلة للتلاشى، كذكرى الغيوم والكلاب فى الثالثة عصرًا.