د. شيماء فرغلي تكتب: الخيّرات من النساء في الحضارة الإسلامية

د. شيماء فرغلي
د. شيماء فرغلي

 

         استظل المجتمع الإسلامي منذ نشأته بفكرة الخير، وهي إحدى المعايير المهمة في الترابط الاجتماعي؛ فلا يكاد يخلُ عصرٌ من عصور التاريخ في جميع الأقطار الإسلامية من وجود الجهات الخيرية التي أثّرت على الترابط النفسي والاجتماعي في المجتمع، ورافقت المجتمع على مدى الأجيال المتعاقبة، وأدت دورها التاريخي في التضامن الاجتماعي مع الحالات الإنسانية التي تستحق الدعم والمساندة.

       وقد دعا الله الأمة الإسلامية إلى فعل الخيرات بل وجعله أحد أسباب الفلاح وذلك في قوله تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾[الحج:77]، وقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ﴾[الأنبياء:73]، والمبادرة والاستباق إلى الأعمال الصالحة الخيرة في قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [المائدة:48]، وقوله: ﴿وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ﴾[فاطر:32]، وقوله: ﴿كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾[الأنبياء:90]. فالفرد في الإسلام سابق في الخيرات، فقيم الخير وإن كانت تنبع من إرادة فردية إلا أن نفعها يتسع مداه في المجتمع كله ويحقق الصالح العام، ويساهم في دورة الحضارة ويحميها من الانهيار.

       ولم تقتصر الاستجابة على هذه الأوامر الإلهية على الرجال وحدهم، بل أسهمت النساء أيضًا في ذلك بنصيب؛ فحفظت لنا كتب التراجم مئات التراجم لنساء ساهمن بنصيب وافر في الحياة العامة، بداية من سيدات بيت النبوة رضي الله عنهن اللائي كن يوقفن بعض الدور لمن لا مسكن له كما فعلت أم المؤمنين السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق. وممن اشتهرن بالصدقات أيضًا السيدة أم سَلمة، وأم المؤمنين السيدة أم حبيبة التي تصدقت على مواليها وعلى أعقابهم وعلى أعقاب أعقابهم في وقف لا يُباع ولا يُوهب ولا يُورث، وكذلك أم المؤمنين صفية بنت حُيي التي تصدقت بدارها لبني عبدان صدقة لا تُباع ولا تُورث حتى يرث الله عز وجل الأرض وما عليها. وكانت أسماء بنت أبي بكر ذات جود وكرم ولا تدخر شيئًا لغد، وكانت تقول لبناتها: أنفقن وتصدقن ولا تنتظرن الفضل.

    وفي العصر الأموي اشتهرت أم البنين بنت عبد العزيز بن مروان بأنها كانت تجمع النساء وتكسوهن الثياب الحسنة، وكانت تقول: "جُعل لكل قوم نهْمَة وجُعلت نهمتي في البذل والعطاء، والله للصلة والمواساة أحب إلى من الطعام الطيب على الجوع ومن الشراب البارد على الظمأ". وكانت تقول أيضًا: "وهل يُنال الخير إلا باصطناعه".

    وفي العصر العباسي عُرفت بنفشا بنت عبد الله الرومية مولاة الخليفة العباسي المستضيء بالله بأنها كانت صالحة كثيرة الخير، عمّرت الرُبط والمساجد والجسر ببغداد، وكانت تُخرج كل سنة في عيد الفطر صاعًا من تمر وتقول: "هذا ما فرضه علي الشرع وأنا لا أقنع من مثلي"؛ فتخرج صاعًا من الدنانير الذهبية فتفرقها على الفقراء.

    وقامت بعض النساء بتفقد بيوت الناس وبذل العطايا الوافرة، كالأدر الكريمة جهة الطواشي شهاب الدين صلاح (توفيت عام 762هـ/1360م) بتعز، وفي القرن التاسع بمصر كانت ألف بنت علم الدين البلقيني تتفقد الأرامل وتنفق عليهن.

     والملاحظ أن أعمال الخير تطورت كثيرًا؛ فلم تعد تقتصر جهود النساء الخيرية على رعاية الفقراء وأهل الحاجة من المساكين والموالي وإطعامهم الطعام والتصدق عليهم، بل امتدت إلى بناء المساجد، وتوفير المياه للمسافرين في بعض الطرق المترامية للدولة الإسلامية حجاجًا كانوا أم تجارًا أم مسافرين. ومن أمثلة ذلك ما يرويه ابن جُبير في رحلته عن خاتون بنت الأمير مسعود في القرن السادس الهجري التي عملت كثيرا من المعروف؛ مثل سقي الماء في طريق الحج.

      ومن أبرز أدوار المرأة التاريخية في الفعل الخيري ما ظهر جليًا في نظام الأوقاف الخيرية عبر التاريخ الإسلامي؛ إذ قام نظام الأوقاف بدور مهم في إرساء أسس الحضارة الإسلامية والنهوض بالمجتمعات، فأقامت الخيّرات من النساء مكاتب لتعليم الأيتام ومدارس لتعليم الكبار ومساجد لإقامة شعائر الدين وخانقاوات للصوفية وسبل لتوفير ماء الشرب للناس، وكنّ يقفن على كل مؤسسة منها وقفًا – من مبان وأراض وغيرها – يُنفق من ريعه عليها لضمان بقائها واستمرارها في أداء رسالتها. كالسيدة خديجة بنت داود (زوجة الخليفة القائم بأمر الله العباسي عام 448هـ/1056م) التي أوقفت على جوامع وتكايا وبيمارستانات ومدارس في بغداد وغيرها من الممالك الإسلامية. وكذلك وجهان أم شمس الدين ملك دلهي (القرن 8هـ/14م) التي قدمت صدقات ومبرات كثيرة وعمّرت زوايا كثيرة ورتبت فيها الطعام للفقراء والمساكين، وكذلك حافظة بنت عبد القادر (توفيت عام 1264هـ/1848م) التي أوقفت أوقافا على الفقراء والمساكين ببغداد.

    وفيما يأتي بعض نماذج الخير النسائي عبر الأوقاف المختلفة:

  1. وقف البساتين: ففي أواخر القرن السادس الهجري الموافق الثاني عشر الميلادي أوقفت خطلجة بنت إبراهيم ضيعة ببّيلا [إحدى قرى غوطة دمشق] عدا ما فيها من مساجد وطرق ومقابر، كما أوقفت آسية بنت إسماعيل الأعظمي عام 1257هـ/1841م بستان على الفقراء والمساكين والأرامل وطلبة العلم.
  2. وقف الدكاكين: فقد أوقفت رحمة بنت إبراهيم بن حسن التكريتي (توفيت عام 1251هـ/1835م) دكان في الجانب الشرقي لبغداد وشرطت صرف غلته على الفقراء والمساكين ووجوه البر والخير، وكذلك آسية بنت محمد التي أوقفت عام 1275هـ/1858م ثلاثة دكاكين في إحدى أسواق بغداد على قراءة القرآن الكريم.
  3. وقف الدور: أوقفت أرغون العادلية (توفي عام 648هـ/1250م) دارها بدمشق على خدامها، وبَنَت بدمشق مدرسة وتربة أوقفت عليها أوقافًا عظيمة، وآمنة بنت رفاعي (توفيت عام 1257هـ/1842م) أوقفت دارًا على الفقراء والمستحقين.
  4. وقف الأربطة: أوقفت آمنة بنت محمد بن الحسن بن طاهر القرشية المحدثة رباطًا لسكنى الفقراء، كما أمرت الخاتون زوجة الخليفة المستظهر ببناء رباط وأوقفت عليه قرية اشترتها من الخليفة المسترشد عام 551هـ/1157م، كما شيدت تذكار باي خاتون بنت الملك الظاهر بيبرس عام 684هـ/1286م للشيخة الصالحة زينب بنت أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية رباطًا فأنزلتها به ومعها النساء الخيرات وعُرف سكانه من النساء بالخير.
  5. إنشاء المدارس: أوقفت أمة اللطيف بنت الناصح الحنبلي المدرسة العالمة للحنابلة ودارًا للحديث شرق الرباط الناصري بدمشق عام 630هـ/1233م، وأنشأت ربيعة بنت أيوب (توفيت 643هـ/1246م) أخت السلطان صلاح الدين الأيوبي مدرسة الصاحبة بسفح قاسيون بدمشق ووقفت عليها الأوقاف، كما أنشأت خديجة خاتون بنت الملك المعظم بن العادل سنة 656هـ/1259م المدرسة المرشدية بجوار دار الحديث الأشرفية بدمشق وهي من المدارس التي بقيت إلا أن داخلها متهدم، وأنشأت بركة بنت عبد الله بن السلطان الأشرف سنة771هـ/1370م مدرسة بالتبانة بالقرب من القلعة بالقاهرة وخصصت بها درسًا للشافعية ودرسًا للحنفية وللمذاهب الأربعة ومكتب للأيتام وجعلت على بابها حوض ماء للسبيل، وبنت أرغون خاتون سنة 775هـ/1374م المدرسة الخاتونية بطرابلس الشام بالاشتراك مع زوجها والي طرابلس، وأنشأت الأميرة خوند تتر بنت محمد بن قلاوون المدرسة الحجازية في مصر ورتبت لها إماما يقيم بالناس الصلوات الخمس وجعلت بها خزانة كتب، كما أوقفت أصفهان شاه خاتون المدرسة العثمانية بجوار الحرم بالقدس وأوقفت عليها أوقافا ببلاد الروم وغيرها سنة 840هـ/1437م.
  6. إنشاء مكاتب الأيتام: أنشأت الأميرة خوند تتر بنت محمد بن قلاوون مكتبًا لمجموعة من أيتام المسلمين، وعينت لهم مؤدبًا يعلمهم القرآن الكريم، وأجرت عليهم في كل يوم لكل منهم من الخبز النقي خمسة أرغفة ومبلغًا من الدراهم، وصرفت لكل واحد منهم كسوة الشتاء والصيف، وجعلت على هذه الجهات عدة أوقاف للإنفاق عليها.
  7. إنشاء المساجد: شيدت بيبي خانم مسجدًا في سمرقند سنة 801هـ/1399م، وشيدت ترخان خديجة خاتون مسجدًا عام 1094هـ/1683م، كما بنت حبيبة بنت الطاهر مسجد المولى أحمد الشبلي وضريحه بمدينة مكناس المغربية سنة 1277هـ/1861م.
  8. إنشاء الأسبلة: قامت بعض النساء بإنشاء بعض الأسبلة التي خُصصت لشرب العامة في الطرقات. مثل: أم الحسين بنت شهاب الدين الطبريالتي التي أقامت سبيل بالمسعى قرب المسيل الأخضر الذي بمنارة باب علي والمقابل له بمكة. وسبيل نفيسة البيضا الذي أنشأته نفيسة خاتون بنت عبد الله التي اشتهرت بالبيضا عام 1211هـ/ 1796م، وهو يقع بمنطقة الغورية بنهاية شارع المعز داخل باب زويلة، وسبيل أم عباس الذي شيدته السيدة بمبة قادن في القاهرة عام 1284هـ/ 1867م على روح ابنها والي مصر عباس حلمي الأول.

ويُلاحظ القارئ لتراجم النساء الخيّرات أن بعضهن قضين أعمارهن في أعمال الخير، مثل: أم الذرية زوجة القاسم الطيب بن محمد المأمون بن جعفر الصادق التي كانت عابدة زاهدة وقضت عمرها في أعمال البر والإحسان، وخونداردوتكين [زوجة الملك الأشرف خليل بن قلاوون] التي أنشأت بمصر تربة بالقرافة تعرف بتربة الست، وجعلت لها عدة أوقاف وقضت عمرها في عمل المبرات والصدقات والإحسان العميم وأعتقت قبل موتها مئات الأرقاء.

     كما يُلاحظ أيضًا أن منهن من تبرعت بكل ما تملك، مثل: فاطمة بنت حمد الفضيلي الحنبلي (توفيت 1247هـ/1832م) التي أقامت بمكة المكرمة وكانت لها عناية كبيرة بجمع الكتب في شتى الفنون، وأوقفت جميع كتبها على طلبة العلم من الحنابلة فأسهمت بذلك في نشر العلم من خلال إتاحة الكتب لطلاب العلم. ومنهن أيضًا السيدة حفيظة رستم التي تبرعت بكل ما تملكه من أطيان وعقارات وجواهر للجمعية الخيرية الإسلامية وجمعيات المحافظة على القرآن الكريم وجمعية الإسعاف والطلبة الغرباء في الأزهر، وشيدت مسجدًا فخمًا في مصر الجديدة كلفها وقتها أكثر من 9000جنيه، ثم وقفت عليه 200 جنيه سنويًا لدفع رواتب إمامه وخدمه وتوفيت سنة 1938م.

    ومن الملاحظ كذلك إقبال النساء بمختلف أوضاعهم الاجتماعية على أفعال الخير؛ فقد تكون المرأة الخيرة أمًا لأمير أو لخليفة أو لملك، وقد تكون من الطبقة المتوسطة، وقد تكون من العامة التي تساعد أفراد مجتمعها بكل ما تستطيع فعله وفقًا لما هو متيسر لها، ومن نماذج أهل العلم من النساء بعض المحدِّثات اللائي واظبن على أعمال الخير والبر والإحسان مثل آمنة بنت أحمد بن محمد (توفيت بعد 860هـ/1456م)؛ وخديجة بنت عبد الرحمن بن محمد المكية المتوفاة بمكة سنة 860هـ/1456م، وآمنة بنت محمد الرشيدي القاهري (ت867هـ/1463م)... وغيرهن. ومن نماذج نساء العامة ما يُروى عن أم أحمد القابلة المقيمة بجبل المقطم بمصر التي وُصفت بأنها ذات دين وصلاح وبر وإحسان، وكانت تقوم بأعمال القبالة أي الولادة تطوعًا رغبة في ثواب الله، ولا تأخذ على ذلك أجرًا.

       ومن العرض السابق تتضح أعمال الخير الباهرة التي توجت سِيَر كثير من النساء في جميع أرجاء العالم الإسلامي خلال حقب التاريخ المختلفة، ومن أبواب البر والإحسان ومسئولية المجتمع في حماية حقوق الفقراء والعجزة واليتامى. وهي الأمور التي نتج عنها شهرة كثير من النساء بهذه الخصال الخيرية أن صارت جمل مثل: (من ربات البر والإحسان)، و(من ربات البر والصلاح)، و(من ربات الجود والكرم والبر والمعروف) تتكرر كثيرًا في تراجم النساء من مختلف بلدان العالم الإسلامي، وهي جمل وتعبيرات تدل على نساء اشتهرن بالجود والكرم، أو ممن لهن خيرات ومبرات في أنحاء البلاد وذات بر معروف، أو ممن وقفن الأوقاف لوجوه البر والخير على الفقراء.

د. شيماء فرغلي.. باحثة في التاريخ والحضارة الاسلامية