ثقوب

صوره أرشيفيه
صوره أرشيفيه

كتبت : شيرين فتحى
 

البيت ملىء بالثقوب.. طلاه للمرة الخامسة بعد العشرين ، وبرغم أن انتقاله إلى هذا المنزل لم يتم إلا من عام واحد فقط ، فى كل مرة يسد فيها الثقوب كان يعيد طلاء الحوائط كى يخفى فتحاتها عن عينه، ظانا أنه بهذا لن يهدر سنوات عمره كأبيه الذى لم ينتبه أبدًا لفكرة الطلاء.


غرفته القديمة كانت مليئة لآخرها بالثقوب ، ليست الغرفة فقط بل البيت القديم كله.. حتى أن الحوائط لم تكن تتبدى لعينيه إلا كثوب مهترئ ، ولذا صمم حين عزم على الزواج ، أن يبتعد قدر الإمكان ، اختار محافظة أخرى وبيتًا وحيدًا فى بناية لا يسكنها غيره.. آملا ألَّا تلاحقه اللعنة، لكن الثقوب غافلته وابتدأت سريعًا فى الظهور.

اقرأ ايضاً| ماكوناييما.. بطل بلا شخصية


حين رأى ثقبه الأول كان تقريبًا فى الرابعة ، تحديدًا لم يره، سمع عنه فقط. كانت الأم ليلتها تعاير الأب لبلادته فى سد أحد الثقوب.. قضى ليلته كاملة باحثًا عن الثقب الذى عنته أمه. والذى لأجله تحمل أبوه كل هذا التقريع مرتضيًا وقفته الذليلة أمام زوجه، مقدمًا صمته كدليل لتمام العجز ، بحث الطفل كثيرًا ولم يعثر على شىء.. حتى لمحه أخيرًا فى الصباح داخل غرفة الأبوين.. كان كبيرًا.. كبيرًا جدًا، أكبر ثقب رآه فى حياته، ربما بحجم الأبوين معًا.. كان يكفيهما لكى يدخلا فيه كاملين ولا يخرجان.. لكم تمنى تلك الأمنية ، والتى ستصبح فيما بعد أمنيته الوحيدة بعدما يمتلئ عالمه بالثقوب التى لم تتوقف من يومها عن التوالد ، لكنه سيتعلم أيضًا أن يعاقب نفسه على تلك الأمنية الخبيثة بتخيل نفسه محبوسًا داخل نفس الثقب دون أن يُسمح له بالخروج ، كان هذا العقاب التخيلى بقدر ما يفزعه ، يرخى أعصابه ويساعده على النوم. بالضبط كما لو أنك تحبس طفلًا فى غرفة مغلقة ، سيظل لوقت طويل يضرب الباب والجدران بكفوفه الصغيرة، ويبكى كثيرًا قبل أن ييأس ويستسلم للنوم.


ثقوب كثيرة قضى الأب أمامها ساعات طويلة محاولًا سدها بأصابعه ، لم يهمل أى ثقب أبدًا مهما كان حجمه أو مكانه، حتى تلك المخفية خلف الستائر والمقاعد ، كانت الأم هى المكتشف الأول للثقوب، تبدأ بعدها فى تنبيه الجميع بصرخة قويةً، يهرعوا على إثرها لرؤية الثقب والتفكير فى عمل اللازم.. صراخها العالى والمتكرر جعل الأب يجتهد ويعمل بدأبٍ أكبر.. ولكى يتجنب صرخاتها التحذيرية والأشبه بصفارات الحرب، صار يتحسس الجدران كل يوم.. يفتشها بالنظر واللمس معًا.. يسد الثقوب ويظل يحرسها حتى تبدأ فى الاختفاء ، أحيانًا كان يحشر الخمسة أصابع أو حتى العشرة جميعها فى فتحةٍ واحدة ، هذا قبل أن يلمحه الابن فى مرة واقفًا أمام أحد الثقوب الكبيرة، بقى واقفا فى ذات المكان لنهارات كاملة، حتى أن الأم كانت تأتيه بالطعام والشراب فيتناوله على الواقف دون أن يتزحزح أو يتحرك، وفى نفس مكانه أيضًا يشرب شايه، مدخنًا سيجارتين أو أكثر حسبما يتطلب المزاج. 


أكدت الأم للولد أن الأب فى آخر الليل وبعدما ينام الجميع ينهى نوبة حراسته مغادرًا إلى غرفته ليخلد مثلهم للنوم ، لكن الولد حين بوغت فى مرة بنوبة عطشٍ  ليلية.. تسلل على إثرها بخفة إلى المطبخ.. وجد أباه لا يزال واقفًا كما هو على رأس الثقب، فكر لحظتها أن يتراجع إلى غرفته كيلا يحرجه ، بيد أنه لمح عينى الأب وكانتا مغلقتين تمامًا، وتأكد من صوت شخيره الذى شج العالم الساكن من حوله، أن أباه كان نائمًا بالفعل.


بدأ الثقب الذى كُلِّف الأب بحراسته يزداد فى الاتساع حتى أنهم استيقظوا فى أحد الأيام ليجدوا أباهم يحرس مساحة هائلة من الفراغ ، وكأن الثقب التهم الجدار بأكمله.. لم تتوقف الأم يومها عن الصراخ.. لطمت خديها ولعنت الزمن الذى سيجعلها تعيش هى وأطفالها فى العراء، بعدما انكشف ظهرهم للجيران.


حاول الولد أن يهدئها، أخبرها عن إمكانية شراء رصتين أو ثلاثة من الطوب وعدة شكائر من الإسمنت ليبنى لها جدارًا جديدًا ، لكنها ربتت على كتفه واحتضنته بقوة قبل أن تجيبه بحسرة: اسكت يا مخبول. 


لم تثن سخريتها عزيمته، واشترى الطوب والإسمنت بالفعل، وبنى الجدار الناقص. لكن الأم ظلت تهدمه بعد كل مرة يبنيه فيها متعللة بأن الشىء الذى ينكسر لا يعود إصلاحه ممكنًا أبدًا. لجأ الفتى لأبيه لكى يُحكمه فيما شجر بينه وبين أمه، بيد أن الأب لم يفعل أى شىء سوى أنه احتمى بالمزيد من الصمت ، ألزمتهم الأم بعد ذلك أن يمارسوا حياتهم بصورة طبيعية كما لو أن ذلك الجدار لازال موجودًا فى مكانه ولم يختفِ. 


الغريب أن الأب ظل حبيسًا لنفس تلك النقطة الخاوية التى كان يحرسها، ولم يبرحها لسنوات حتى مات.


كان الولد فى الخامسة عشرة تقريبا حين مات الأب، ورغم أنه حضر بنفسه مراسم الدفن والعزاء، إلا أنه ظل لسنوات طويلة متيقنًا أن أمه احتفظت بجثة أبيه فى مكانٍ غير معروف، وأنها تخرجها من وقت إلى آخر وتسد بها ثقبًا كبيرًا من ثقوبها التى لا تتوقف عن التوالد.


من بعد موت الأب، أصبحت الثقوب تفزعه بصورةٍ أكبر.. أكثر ما كان يفزعه أن يلقى مصيرًا كأبيه.. أن يموت ويسدوا بجثمانه فراغًا فشل أن يسده فى حياته ، ربما لهذا قرر ألا يتحمل عبء سد الثقوب ، قرر أن يبدأ بالهجوم قبل أن يجد نفسه متورطًا فى الدفاع.


نصحه أحد الدجالين الذين لجأ إليهم، حاكيًا الحكاية بطريقته، قائلًا: خد حاجة من قطرها.


ليبدأ فى سد ثقوب بيته الجديد مستخدمًا قصاصات من شعر العروس.. أو قلامات أظفارها، وأحيانًا كان يقوم بتكوير صورها القديمة أو يلفها على هيئة أشكال أسطوانية رفيعة قبل حشرها فى داخل الثقب. هذا قبل أن تختفى قطع بعينها من دولاب ملابسها. 


ولسنوات وهو يحشو الثقوب ويعيد الطلاء ، قبل أن يطلب منها فى مرة أن تعجن له بعض الطين أو الجبس الأبيض.. المهم أن تعجنه بيديها قبل أن يأخذه ويدسه ليسد الثقوب التى كبر حجمها عن نتفات الشعر والأظافر، ولم ينسَ أبدا بعد كل مرة أن يعيد الطلاء ، ربما لم تر تلك الثقوب التى عناها أبدًا ، لكنها بدأت تشعر بتيارات الهواء المندفعة منها.. تنخر عظامها.. تُسقطها مريضة بالأيام والأسابيع.. وحين تمرض لا يرحمها.. يسندها ويساعدها لتتكئ عليه حتى تصل إلى مقعدها وتتابع العجن، وأحيانًا يحضر لها بنفسه الأوانى والماء والمواد اللازمة لتعجنها فى الفراش. يشترى لها موادَّ غريبة.. يضيفها للخليط كى تزيد من صلابته وأحيانا يمزجه ببعض الغراء.. كى يتأكد أنه لن يبرح مكانه بسهولة.


من كثرة ما أعاد الطلاء اكتسبت الجدران أبعادًا وأحجامًا إضافية.. ازداد بروزها وتضاعفت أبعادها حتى ضاقت الطرقات والممرات ولم تعد تسع أحدًا ، اضطرا لاعتزال أجزاء من الشقة، الشقة التى بدأت غرفها تضيق حتى تحولت بمرور الوقت إلى ثقب كبير لم يعد يسعهما فى داخله هما الاثنان معًا.