محمد عطية محمود.. ذاكرة العبق

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

يقتحمنى العبق.. يتخللنى.. يسرى فى تضاعيفى.. يتجول فىَّ.. يثير مكامن غائرة فى النفس، يطيح بكل ما اعترض وجوده وتراكم، كلما مضى الزمن وعلت جدره الشاهقة وتباعد بنا المكان واختلف؛ فينتفض المارد النائم قليلًا فى قمقمه، ينطلق ليبحث عنكِ فى كل الأماكن والدروب التى فقدت آثارها عليها خطانا وداستها أقدام العابرين، ولم يبق منها إلا أثره.

يزيد من شجونى أثر انطفاء ما كان يشعلها، وكأنه مازال يومض لى معانقًا شجن الذكرى، وما كان يبعث فىَّ بطقوس حياة تتأرجح بين الشد والجذب والإقبال والإدبار، لكنها كانت بطعم ومذاق مختلفيْن.. تستفتح نهارها بوهج شمس أخرى غير تلك التى تشرق على العالم فتشيع دفئًا ونورًا مغايريْن، إلا أن عبقها هو الذى كان يستيقظ فىَّ فيوقظنى، ويتمشَّى فى ممرات روحى فينعشها بنسغ مغاير، ويدنينى من الصحو اللذيذ الذى لا يكدره كدر، ولا يشوبه انزعاج التحول من حياة النوم إلى حياة اليقظة، وإن كان ضجيجها صامتًا آخذًا فى التمادى معلنًا عن وجود مختلف.

اقرأ أيضًا| محمود الرحبى.. سحابة بيضاء منعشة

يصحبنى العبق كنفثة عطر لا تتبدل، تنيخ أحمالك الثقيلة على أرض وجودى فتحطين الرحال.. تلتقطين أنفاسك المبهورة بعبق وجودك الآسر.. تمسحين ذرات عرقك المتبلورة على جبهتك.. تنتزع من مسامك رائحة جديدة للوجود الناعم، فتكتنز المسافة فيما بين وجهينا فأتنفسك، وتفسح لتشمل براح العالم، لتزهر زهور الياسمين برائحة تنطلق من اللا مكان.. تنطبع فى الذهن والمخيلة رائحة التكوين والولادة من جديد، وبنبت يخرج من جديد؛ فيكون عبقًا يخصك.

ينساب العطر.. يتعانق مع ذات العبق الذى تأتى به اهتزازة خصلة شعرك الساقطة، المبللة بندى الصباح، يعلن عن بكوره وانفلاته من خلف غطاء يحجبه.. ينشر عبقه، فيميس على الخد، ثم تلحقه أناملك الخارجة توًّا من كرنفال معانقة أناملى لها، فتعيدين الخصلة إلى مستودعها، تنتزعين رائحةً جديدةً تنضاف إلى ذاكرة هذا العبق.. تتحرك لتأخذ مكانها فى حناياى.. تتخلل الزوايا البعيدة فى ذاتى التى تتحرق شوقًا ينبعث ويزداد كلما أطل العبق واجتاز مساحات الحصار اللا مرئية ليطلق عصافير البهجة والسرور، ليعاند النقوش الغائرة التى حفرتها الأيام بشجونها على جدار مشبع بذكريات للألم تأبى إلا أن تؤرقنا وتنكأ جراحنا.


على طاولة اللقاء.. لايتوقف العبق عن الاسترسال فى مد جسوره عبر المسافة التى لا تحتاج معها ليدين تتلاقيان وتستمتعان بدفئه المنسرب بيننا؛ فتأتى إطراقة رأسك ونظرة عينيك العميقتين المستغرقتين فى الرقعة الفارغة فيما بيننا تتوهان فيها، ليقتحم عطر وجودك روحى، فيما يحيط بنا العبق كهالة تظللنا وتجمعنا.. تتنفس معنا، لتتقافز فيها أشواق عارمة تتحرك لتملأ المكان.. تهوِّم مع أثير العبق.. تلتحم به وتتوحد، تدمغه بخاتمها وسحرها المتمادى، حتى إذا ما ارتدته وحيدًا عاثت فى نفسى أشواق يزداد أوارها فى حضرة وجود لا تضيِّعه المسافات الشاسعة!

فكيف لهذا العبق أن يكون حبيسًا مهملًا فى كهوف الذاكرة؟.. كيف له أن يتحمل ضغط ألم التوارى خلف أستار كثيفة، وفى ذات الوقت هشة وواهية؛ لا تحتمل هباته القوية إذا أراد، وقيامته من سباته العميق، من بعد خضوعه لهاجس الكمون والاستسلام، حتى تتلاشى وهو على حاله كامن فى صومعته كناسك لا يريد أن يغادرها؛ فيعاود جلد ذاته بذاته، ثم يحررها بقوة لا إرادية لا مرئية تحركها الروح من عليائها لتعيد له تشكيل العالم من جديد، وتهب له طعمًا مغايرًا لمؤانسة وجوده الذى لا يكتمل إلا بهذا الوجود وهذا التجلى ببوح دفين تتشبع نبضاته بذرات العبق، فيحركه ويجعله يدور فى فلك قديم لا يعفيه من مضاعفات الألم حال افتقاده له!

يتآلف العبق بأطيافه مجتمعة، حين تنطلق الحافلة فى سكون الليل؛ فتتنسمه الروح كامنًا فى مقعد فارغ مجاور مؤنس لها فى ساعات الترحال والسفر، أو مؤرق لها بشجن اللحظات المارقة التى حفرت فى النفس ندوبًا غائرة من بعد اصطياد الفرح والانفراد به خلسة دون العالم، ملغزًا فى خليط عجيب يستدعى كل ما فات من أثر لهذا العبق.. يجمعه من نثاره ليصنع تمثالًا ذهبيًا صامتًا لا تمتد اليد إليه، ولا يحرك وجوده إلا تلك الرائحة، وذاك العطر الذى تعود به الأنفاس المؤجلة النشوى، ليدور حديث ذو شجون على شرف اللحظة اللا متناهية.