محمود الرحبى.. سحابة بيضاء منعشة

صورة موضوعية
صورة موضوعية

ينتظران رسالة تصلهما من تحت الماء..
الصغير يقبض بكلتا يديه خيط الصيد الأزرق الفاتح، حيث تغوص الصنارة مثل فخ، مسنودة بثقل رصاصى وطُعم مطاطى شفاف بدا وهميا. بينما جمد إسماعيل فى مكانه مرددا بصره بين البحر ويدى حفيده الذى يعيش لحظات اختبار. الانتظار عادة يومية دُرِّب عليها منذ صباه، وقد حفظ بسببها سُنن البحر وتحولاته وحركة الحياة البطيئة فى القاع التى بدت وكأنها تتراءى صافية أمام عينيه. ثلاثون عاما قضاها إسماعيل بين أحضان الماء، والانتظار الذى نشعر ببطئه سريعا لا يعنيه فى شىء، لا يستحق أكثر من المراقبة، مثل كائن يتحرك وحيدا فى الخفاء. هذه الميزة لا يمكن تملكها بدون اختبار طويل للصبر، وقد حصل عليه كمكافأة طبيعية، بعد عمله المديد فى حراسة جزر الديمانيات.

 حين أحس باهتزاز اليدين الصغيرتين لحفيده، انتزع الخيط وشرع يزنه، قبل أن يعيده إليه (يحمل الحفيد أيضا اسم إسماعيل) وبخبرته عرف أنها لم تكن سوى سمكة صغيرة، وعرف حتى نوعها: «مبروك سَمُّوع صدت عومه». وقف الصغير بحماس ليجذب الخيط، إلى أن ظهرت عقلة الأصبع وهى تتراقص فى الهواء. نزعها الجد من الصنارة وأودعها بطن السطل الذى ظل فارغا طيلة أربعين دقيقة مكثاها ينتظران إشارة من عمق الماء.

اقرأ أيضاً | نجوى العتيبى .. قصتان

الزمان والمكان لم يعد إسماعيل يملك زمامهما الآن، وقد صار جدا فى الخمسينات من عمره. يتحرك منذ الصباح فوق حصباء البيت أو يشق طريقه ناحية سوق «بركا» (تسليته الأثيرة) حيث يتاح أن يلقى نصائحه وخبراته لمن يصيد الأسماك الصغيرة «هناك أسماك يجب ألا نراها إلا وهى كبيرة» يعرف بنظرة عابرة إن كانت السمكة طازجة أم مثلجة، وهل جوفها صالح أم فاسد. وحتى لا تتجمد علاقته بباعة الأسماك، يسجن الكثير من المعلومات فى قفص صدره، أو يلقيها بصوت خافت حين يرافقه أحد أبنائه إلى السوق: «عينها حمرا بسبب مكوثها الطويل فى الثلج»، «عينها مايعة لأنها ظلت طويلا خارج الماء قبل تثليجها»، «انظر إلى تلك الجيذرة، افتح غطاء الخيشوم وسترى لونا داكنا مائلا إلى الحمرة، لأنها طازجة جلبت هذا الصباح من البحر»، «وفى تلك سترى لونا بدأ يميل إلى السواد لأنها ابنة الليلة الفائتة»، «اضغط دون أن يراك البائع على بطن تلك «السهوة» وستراه يلتصق فى عظامها لأنها فى طريقها لتفسد». كان حتى أولئك الذين يمتلكون هذه المعلومات يضطرون لاستخدام أياديهم فى تقليب أغطية الخياشيم ونخس بطون الأسماك، إلا إسماعيل، فإنه كان يكتفى بالنظرة الأولى الخبيرة لمعرفة تاريخ كل سمكة، ولا يشترى الأسماك إلا فى مواسمها: «الأسماك كالثمار لا يجب أن تقطف قبل أوانها».

 وفى صباحات كثيرة كان يتقرفص وحيدا متأملا البحر وكل ذرة فى عقله تعود القهقرى. وحيدا رغم زحمة الأبناء والأحفاد، يشحن أيامه - التى تكر وتتكرر- بتفاصيل يجدد بها حياته. عاش ورأى وامتلأ رأسه بألبوم صور لا حد لصفحاته. صور بعدد حبات الرمل التى تلسعها الأمواج كل عصرية يقضيها أمام البحر، بصحبة ولد أو حفيد، أو برفقة نفسه المسترسلة فى الذكرى.

حتى فى النهار، كان إسماعيل يقضى سحابته فى تضييق عينيه أمام البحر، وحيدا وهو يتأمل من بعيد الحدود اللامتناهية لمملكته التى طُرِد منها. أو يرفع منظاره أمام عينيه وفى رأسه تتراءى تفاصيل ذكرى عقود قضاها فى جزر «الديمانيات» بصمتها وقواربها وسحبها وسمائها المطبقة بالبحر، وبحراسها الذين كانوا تحت إمرته، وقد دربهم على العمل والطبخ، بحرص من يربى جنودا للقتال فى معركة ظلت أبدا مرتقبة.

فى صغره كان منزل والده مقابلا للبحر، بيت تقليدى كبير مسور ومفروش بالرمل، تترامى جنباته، وتحل على نخيلاته الغربان وهى تنعق وتتعارك بلا انقطاع. ولكن المكان الأوسع لإسماعيل كان البحر، حين يجلس أمامه حالما بركوب أمواجه. ينتظر الفرصة السانحة لمعانقة المجهول. وقد تبدت له جزر الديمانيات من بعيد مثل نهود مشتهاة تلوح له بصمت. 

بدأت علاقة إسماعيل بجزر الديمانيات الثلاث المتقاربة حين كان صبيا، يوم أن سمع من والده فى السوق بأن الجمارك تبحث عن ضابطين شابين للجزيرة مع أربعة حراس كبار يساعدونهما. لا أحد كان يريد أن يغامر بالحياة فى جزر مظلمة معزولة لا كهرباء ولا ماء حلوا فيها، ويحيطها صمت وظلام دامس وحكايات تنسجها مخيلات الرعب والتطيُّر. أقنع إسماعيل رفيقه جمعة بأن يجربا العمل لملء فراغ العطالة. لا يمكنهما أن يتقدما خطوة فى حياتهما بدون عمل. الخبر أربكهما، ولكنه أيضا حرك خيالهما، سيكونان ضابطين، وحراس تحت إمرتهما، هكذا انطلاقا من لا شىء سيتحقق لهما ذلك. ولكن مكافأة مثل هذه لا بد أنها تخفى صعوبات لم يدركا كنهها بعد. إسماعيل تلبسته الشجاعة، وخاطب نفسه: مهما كانت وعورة المغامرة لن أتراجع، هذه فرصة لا تأتى كل يوم.

 وقد وجدا من قرية ساحلية مجاورة «المصعنة» صيادين كبارا فى العمر يكونون تحت إمرتهما. وبعد انقضاء أسبوع، حين جاءت دورية الجمارك الأولى لتفقد سير العمل، وقد نصبت لهم من قبل خيمة، وزودوا بقناديل حجرية والكثير من الفحم الصخرى للطبخ وشباك صيد وصنارات وخضارا معلبة وأوعية وجونية رز وصفيحة لحم مملح. أخبرهم إسماعيل أن رفيقه يجب أن يرحل معهم، فهو لا يصلح لأن يظل معه فى الجزيرة وقد تسبب له فى متاعب وحرمه من نوم مطمئن. وكان ذلك الشرح يروق لرفيقه، لأنه اتفاق خفى بينهما، فقد صار جمعه منذ ليلة اليوم الأول، يبحث عن منفذ لا رجوع بعده إلى الجزيرة. قال لهم إسماعيل كذلك إنه مستعد لأن يظل فى الجزيرة حتى يتدبروا له معاونا آخر، حيث إن كلا منهما كان سيقضى أسبوعا فى الجزيرة، وآخر فى «بركا»، ولكن ليس قبل مضى شهر كامل على مكوثهما معا. لم يتحمل جمعة حياته وسط البحر، وغزته وساوس الخوف والعزلة فى جزيرة لا تخفى عقاربها وهوامها، وتمثلت له الأمواج فى الظلام وحوشا وأشباحا.. لم يأت أحد بعد رحيل جمعه.


هكذا استطاع إسماعيل أن يقضى أسبوعا آخر فى الجزيرة مع اثنين من الحراس حيث إن الاثنين الآخرين يعوضانهما بالتناوب. ولأنه ملأ فراغ زميله الغائب، أعطى مع الوقت قاربا نفاثا ومنظارا ليقرب تفاصيل الجزر إلى عينيه حين يكون فى بركا. يمكنه أن يراقب من الشاطئ الحركة البعيدة، كما أعطى جهازا لاسلكيا يتحدث من ثقوبه مع حراسه. 
كان يراقب مكان عمله طيلة الأسبوع الذى يمضيه فى بيت والده، حتى بعد أن تزوج وصار له أبناء، ظل يراوح ذلك العمل بإصرار لا يخلو من شغف. 

حين جاء إسماعيل أول مرة إلى الجزر الثلاث، كانت فى هيئة لا تصلح لحياة البشر، مليئة بالعضاءات والعقارب، وفضلات الطيور تغطى قشرتها الأرضية بسواد كئيب. صارت بعد أن قطع مع معاونيه الوقت الطويل فى تنظيفها من الشوائب المتوحشة والحشرات السامة، خضراء مرتوية جنباتها، وقد جلب إليها أشكالا من الزروع. ومع مرور الوقت، بنت الدولة لهم فى إحدى جزر الديمانيات الثلاث بيتا إسمنتيا. وتُركت للنوارس جزيرتان من أجل التكاثر، ومن هناك كانت تشق طريقها صباحا إلى الشواطئ، ولا تؤوب إلا عند الغروب.

تغيرت تبعية الجزيرة وتنقلت بين الجمارك والحرس ووزارة البيئة، وبالتالى تغيرت الجهة الإدارية التى تتبعها، رغم ذلك ظل إسماعيل فى مكانه، بعيدا عن أروقة الإدارة وحسابات الوجاهة والحظوات المالية، ولم يكن يذهب إلى تلك الإدارات إلا حين يشعر أن راتبه الهزيل قد مس ونقص بسبب تفاوت الرواتب بين جهة انتقلت إليها تبعية الجزر وأخرى، حينها يهز سيفه الوهمى ويذهب لمقابلة الرأس الأعلى فى تلك الجهة الإدارية مطالبا بأن يعاد له راتبه كما كان. 

ذات يوم اعترض الحرس الذين يشرف عليهم إسماعيل قارب تهريب مخدرات قادما من جهة مجهولة، وكادوا أن يدفعوا حياتهم ثمنا حين رأوا أحد المهربين وهو يحاول أن يخرج سلاحه الرشاش من جوف القارب، فما كان من أحد الحراس إلا أن بادره بتوجيه سلاحه ناحية ظهره، وقد شيع تهديده بصرخة جمدت المهرب مكانه مستسلما رافعا يديه. ولأن دور حرس الجزر يقف عند حدود التبليغ، فقد تم التحفظ على الحراس الثلاثة وأودعوا حبسا مؤقتا بسبب تعريض حياتهم للخطر. إسماعيل تدخل وطالب بمقابلة الضابط: «يستحقون أفضل من هذه المعاملة بسبب شجاعتهم» قال له، وافق المسؤول بسبب المكانة الاعتبارية لإسماعيل على إطلاق سراحهم، شريطة عدم تكرار مثل هذه المواجهات القاتلة مستقبلا.

ومع إحالات الدفعات الأولى من قدامى الموظفين إلى التقاعد، وجد إسماعيل نفسه فجأة بعيدا عن مملكته. 

وفى بعض الأحيان، حين يخزه القلق على الجزيرة، يحمل منظاره ويجلس على كرسى الرمل، متابعا من بعيد تفاصيل تعوم فيها الذكريات.

يرفع عدستى منظاره، فيرى سحابة بيضاء منعشة.


زاد عدد الأسماك الصغيرة التى اصطادها الحفيد وارتفع منسوبها فى الوعاء، وفى الأفق استحالت الشمس برتقالة تنتظر التقشير. رفع إسماعيل وعاء السمك بيد، وقاد حفيده باليد الأخرى، وقفلا راجعين إلى البيت.