بترتيب من وزير الثقافة المغربى محمد بن عيسى .. 35 عاماً على مشروع مصالحة فكرية بين أدونيس وحجازى

 وزير الثقافة المغربى محمد بن عيسى
وزير الثقافة المغربى محمد بن عيسى

هذا حوار جرى فى باريس قبل أكثر من 35 عاماً بين أدونيس وأحمد عبد المعطى حجازى. ورغم إقامتهما فى العاصمة الفرنسية، آنذاك، فإن الشاعر السورى لم يكن قد التقى زميله الشاعر المصرى منذ زمن بعيد ، هل كانت بينهما جفوة؟ جاء اللقاء بفضل وزير الثقافة المغربى الأسبق محمد بن عيسى ،  كان ماراً فى باريس وارتأى أن يدعوهما إلى شرب القهوة فى أحد مقاهى حى «السان جيرمان». 


تجاوزاً للعتاب، امتدت بين الشاعرين الكبيرين خيوط حوار فكرى ابتدأ فى المقهى ثم استمر فى شقة الرسام جورج بهجورى ، فمن المعروف أن بن عيسى صديق الأدباء والفنانين. له فى كل مدينة أنيس من مثقفيها وجليس ، وهو كان عراب هذا الحوار الذى أراد له أن يكون مشروع مصالحة فكرية بين قامتين عربيتين بارزتين ، وهو قد اتصل بى طالباً أن آتى بالمسجل والكاميرا والتحق بهم. وبهذا فإن دورى اقتصر على توثيق اللقاء بالصوت، أما الكاميرا فقد عاندتنى وكان «الفلاش» ضعيفاً وانطفأ بعد الصورة الأولى والوحيدة. 

اقرأ ايضاً| «سينما باب الحديد» .. مشروع متكامل لتطوير متحف هيئة السكة الحديد


كعادته، كان حجازى منطلقاً فى الدفاع عن أفكاره ، بينما كان أدونيس مُقلاً فى الكلام، يمتص أنفاس غليونه ويستمع بهدوء، تاركاً لزميله حصة الأسد من الآراء والانفعالات. 


تلقّف زميلى فى مجلة «الوطن العربى»، الناقد الراحل غالى شكرى، النص الذى قمت بتفريغه على الورق ونشره فى أحد أعداد 1987. وبقى انتشاره محدوداً لأننا لم نكن قد بلغنا عصر المواقع الإلكترونية للصحف ولا شرارة مواقع التواصل.

وأذكر أننى حرصت على عرض النص على أدونيس قبل نشره، فقام بحذف كلمة وتعديل جملتين. أما حجازى الذى كان جارى والتقيه فى حافلة النقل العمومى، فقد منحنى ثقته ووافق على النشر من دون الاطلاع على نص الحديث. 


يبلغ حجازى من العمر، اليوم، 88 عاماً. وهو ما زال ملء السمع والبصر بعد أن عاد للاستقرار فى القاهرة التى كرّمته بجائزة النيل. ويبلغ أدونيس من العمر 93 عاماً. وهو ما زال مقيماً فى باريس ويواصل نشاطه متنقلاً فى أنحاء العالم العربى، ملقياً بأحجاره فى مياه بحيرة فكرية تبدو راكدة ، لقد تغير الزمن وجرت فى «السين» و«النيل» و«بردى» مياه كثيرة، بل سيول عارمة. مع هذا تبقى بعض أسئلة هذا الحوار طازجة، تستحق ولادة جديدة. 

حجازى: أفضل أن نبدأ من مطلب متفق عليه وهو الحريات الديمقراطية ، أدونيس: غير ممكن لأن مبدأ النظام العربى ينافى جوهرياً هذا المطلب
 

أدونيس: ثقافياً... هل لنا رؤية حقيقية لأنفسنا؟ وما هى؟ هذا هو السؤال الذى يقلقنى دائماً.
حجازى: لكن هل تعرف يا أدونيس...
أدونيس: (مقاطعاً) نحن إزاء موضوع يسوده الكثير من القلق والاضطراب.

حجازى: أتعرف لماذا؟ لأننا لا نمتلك تجربة. عندما لا توجد وظيفة لا يوجد العضو ، فأنت بمجرد ما تنسى واجباتك تفقد كفاءاتك ، لماذا لا نملك رؤية؟ لأن هذه الرؤية ليست لها وظيفة. أو ليس لنا مجال لتوظيف هذه الرؤية ، وحالما يكون لنا هذا المجال تتولد الرؤية ، فهى ليست وليدة عمل مكتبى مثلاً، ولا يمكن لشخص أو اثنين أو عشرة أو ألف أن يجلسوا ليصنعوا رؤية. إنهم بدل ذلك يستطيعون أن يخوضوا تجربة فى العلاقة مع العالم، ومن خلال هده التجربة تتولد الرؤية. 


ولذلك، يفترض فينا أن ننشط عملياً، وأن تكون لنا علاقات مع أفريقيا، مثلاً، لكى تكون لنا رؤية. ونحن عندما نعالج هده المشكلة، لا بد أن نضع أمامنا اقتصادنا واقتصاد أفريقيا، تقدمنا وتقدم أفريقيا، سياستنا وسياستها... إلى غير ذلك ، إن العلاقة مع الآخر تستدعى بالضرورة سؤالاً عن النفس. فأنت بمجرد ما تقف بمواجهة الآخر تسأل نفسك: من أنا؟ والسؤال مطروح فى علاقتنا مع أوروبا، مع فارق أن علاقتنا مع الأفريقيين أمسّ ـ فى ظنى  وأن كانت ليست بالضرورة أقرب أو أوثق.


تاريخياً، علاقتنا بأوروبا قديمة وممتدة، وربما كان الأمر كذلك بالنسبة لأفريقيا، ولكنها علاقة غير تاريخية. بمعنى أنها غير معروفة فى التاريخ. إن للعرب علاقات عضوية مع أفريقيا لا يتبينونها ولا يعرفونها. ولا الأفارقة من جانبهم يعرفونها، لأنها كانت نتيجة اتصال عضوى لكنه غير ثقافى. أى أنه لم يخضع للتحقيق والدراسة، وبقى معزولاً وغير محلل.


أدونيس: فى هذا نفسه ما يدعو كذلك للتساؤل والبحث ، فأنا بوصفى عربياً مشرقياً، قد لا أحس مثلاً بضغط هذه الضرورة للعلاقة مع أفريقيا كما يحسها المغربى، مثلاً، أو المصرى. لذلك يجب أن يكون بيننا، أنا كمشرقى، وأنت كمغربى، حد مشترك أدنى من معرفة الذات على المستوى العربى العام لكى نعرف الآخر. فأنا بالنسبة للمغربى لست آخر، لكن الأفريقى آخر...


حجازى: أظن أن هذه أزمة.
أدونيس: طبعاً... يجب أن نلتقى لنتعارف.


حجازى: أظن أن النقطة التى تتكلم عنها هذه، هى نقطة تسبق الأزمة ، إنها أمر موجود من قبل ، أى أننا لسنا ممزقين بسبب هذه الأزمة ، فهناك تقصير خطير أسبابه عديدة، لا مجال لتعدادها ، مع هذا أتصور أيضاً أن لدينا حداً أدنى من معرفة النفس ، بمعنى إنى إذا أردت معرفة نفسى كما ينبغى الآن فى أواخر القرن العشرين، تمكنت من ذلك ، فما أنجزه الأوربيون خلال القرنين الماضيين ـ على الأقل ـ لم ننجزه نحن العرب حتى الآن. نحن لا نعرف وقائع وحقائق موجودة فى حياتنا اليومية. فنحن مثلاً لم ننجز حتى الآن دراسة اللهجات العربية، ولم نجمع الفنون الشعبية، وهذه أمور انجزها الأوربيون فى أواخر القرن السابع عشر. 


هذه كلها مظاهر الأزمة، ونحن الآن لسنا فى صدد مناظرة مفادها هل نعرف أنفسنا أم لا ، ففى رأيى أننا لا نعرف أنفسنا كما يجب وبالقدر الكافى ، لكننا لا نستطيع أيضاً أن ننكر تماماً أننا أنجزنا شيئاً فى هذا المجال. لقد أنجزنا -بصراحة- بعض الأمور ، إن المعرفة هى وليدة الخبرة العقلانية ، ولا يمكن نشوء معرفة عقلانية من غير تطور مادى معقول وكاف. فالمعرفة العقلانية لا وظيفة لها فى مجتمع متخلف ، لا بد لهذا المجتمع أن يتقدم. والتقدم ليس أمنية ولا ترفاً. فنحن لا نستطيع أن نصل إلى هذه المعرفة العقلانية إلا إذا كان لها ضرورة. وهذه الضرورة هى التخطيط مثلاً. فأنت حين تتحدث عن التخطيط تنتقل من مجتمع إلى مجتمع آخر يحتاج إلى التخطيط وبالتالى يحتاج إلى المعرفة. فالتخطيط لا يقوم على مجهول، ولا بد أن تعرف ماذا لديك هنا وماذا لديك هناك، وماذا تحتاج هنا وماذا تحتاج هناك... الخ.


إذاً، فإن دخول المجتمعات العربية فى عدة أطوار اجتماعية وسياسية، قد شوّش معارفنا وأثار فيها الاضطراب. فأنا أدّعى، مثلاً، أن شيئاً معقولاً من المعرفة كان موجوداً لدى المصريين عن أنفسهم حتى سنة 1952. كانوا يعرفون أن بلدهم كذا، ومستقبلهم كذا، وعلاقتهم كذا، وتطورهم يسير فى هذا الاتجاه. أى كانت لديهم صورة ما، ولديهم مؤسسات تسمح لهم بتحقيق هده الصورة.


كل هذا تغير مع العام 1952 وحلت محله صورة أخرى. لا شك أنها ناقصة، لأن كلامنا عن النهضة العربية فيه الكثير من الارتباك. إن النهضة العربية شعار صحيح مائة فى المائة، ولكنه يقوم على جهل كامل بالنفس. فنحن عندما نتكلم عن النهضة العربية لا بد أن نتكلم عن وحدة بشر مختلفين، وعن بلاد ممتدة مترامية الأطراف، وعن موروثات لها جانب مشترك وجانب غير مشترك. إن هذه الفوارق الدقيقة هى بالضبط موضوع العلم، وهى التى ننساها دائماً.


نحن نعرف فقط الصورة فى حدودها العامة، الخارجية، إنما لا نعرف دقائقها وملامحها. أما متى نعرف تلك الملامح؟ فعندما ندخل فى التجربة.

وحدة فشلت لكنها أضاءت

إن تجربة الوحدة بين مصر وسوريا سنة 1958 قد أضاءت بالتأكيد جانباً مما كان خافياً فى قضية الوحدة العربية. صحيح أنها فشلت عملياً لكنها أضاءت ذلك الجانب الذى كان ينكر ولا ينظر إليه. بالإضافة إلى هذا، أننا ونحن مهزومون، أصبحنا نشك فى معارفنا القديمة رغم أنها ليست كاذبة ولا زائفة بالكامل. بل أننا أصبحنا نشك حتى فى جوانبها الصحيحة.


أما كيف يمكن للعرب أن يعرفوا أنفسهم كشعب وكأمة، كما يصارح الإنسان نفسه وهو فى غرفته الخاصة، فأعتقد شخصياً أن هذا مطلب صعب بالنسبة للفرد العربى ، حتى الأوروبى لا يقوم بهذا. وإذا أردنا المقارنة فأنا شخصياً أظن أن الفرنسيين لديهم إحساس شديد بالندم، وأن ضميرهم مثقل بوضع فرنسا أيام الاحتلال النازى. لكن كلمة صريحة لم تقل حتى الآن حول وضع فرنسا وموقف الفرنسيين الحقيقى من الاحتلال. إنهم يشيرون إلى ذلك إشارة، دون مصارحة كاملة للنفس.


والشعوب جميعاً تتعرض لأزمات من هذا النوع، ويحتمل أنها تتراجع وتخاف وتتردد. لكن هذا ليس دليلاً على نقص خاص فى هذا الشعب. إن هذا النقص إنسانى وليس عربياً فحسب ، كما أن موضوع معرفة الذات هو موضوع قابل للتطور باستمرار ، وأنت تدخل فيه من طور إلى طور ، فهناك فرق بين مصر التى ترفع شعار وادى النيل مثلاً، ومصر التى ترفع شعار الوحدة العربية. بين مصر التى تحارب من أجل فلسطين وبين مصر التى تعمل كامب دافيد ، لا بد أن يكون لكل فترة نوع من المعرفة. ولأن هذه المعرفة ليست مطلقة، بل هى اجتماعية تقدمها طبقة بالذات، هى طبقة لها مصالح، فإنها قد تخدم فى موضع دون أن تخدم آخر.


لذلك، أنا لست محايداً بين أنواع المعارف. وأقول إن هناك نوعاً من أنواع المعرفة تخدم قاعدة أوسع من الجماهير العربية وتتفق مع التاريخ، لأن ما يخدم الجماهير فى نظرى يتلاءم مع التاريخ ومع المستقبل. لذلك أتصور أن فكرة أولى ـ دعك من موضوع الوحدة العربية ـ هى اننا عرب.

ارتباط الدين بالسياسة

أدونيس: ولكن ما قيمة ذلك بلا حرية؟ دون حرية سيظل الفكر تبعياً، وسيكون دون فعالية على الإطلاق. لذلك، فإن الشعر العربى قد استمر لأن للشاعر هامشاً يسمح له أن يقول أشياء لا يستطيع المفكر أن يقولها، وذلك باللجوء إلى الرمز والأسطورة والصورة. وهكذا بقى الشعر العربى يتطور ويتجدد. وهو المظهر الثقافى العميق والحقيقى حتى الآن للشخصية العربية، وهو أعمق ما يعبر عن هذه الشخصية. وعندما أقول الشاعر أعنى المبدع بالمعنى الشامل، سواء فى مجال المسرح والرسم والموسيقى والتصوير.


إذا كان هذا صحيحاً فنحن يجب أن ننظر إلى مسالة أساسية وهى النظام العربى. وأنا لا أميز بين الأنظمة العربية. فهناك نظام واحد وآلية واحدة لهذه الأنظمة المتنوعة فى المظهر لكن الواحدة فى الجوهر.  والآلية التى تسير النظام العربى هى ارتباط الدين بالسياسة. وعندما يرتبط الدين بالسياسة نعطى المشروعية للنظام ان يكون هو صاحب الفكر، وصاحب الشعر، وصاحب السياسة. أما الشعب فلا وجود له.


هل قرأت فى الكتب التى تؤرخ للعرب، تأريخاً للشعب نفسه؟ أين الشعب العربى؟ من 1500 سنة حتى اليوم ... أين هو؟
إذاً ما لم نفكك هذه البنية التى يقوم عليها المجتمع العربى، وما لم نحرر هذا المكبوت التاريخى، فأننى أشك فى قيام أى فكر عربى حقيقى.
حجازى: الفكرة معقولة، وأظن أنها فكرة جميلة وبراقة وصحيحة لكنها متجاوزة. أى أنها تتخطى عقبات. وأنا أفضل أن نبدأ من مطلب متفق عليه تماماً، وهو مطلب الحريات الديمقراطية، الحريات العامة.


أدونيس: ولكنك يا أحمد لا تستطيع أن تصل إلى هذا لأنه مرتبط بمبدأ أساسى يقوم عليه النظام العربى، ينافى جوهرياً مبدأ الحريات الديمقراطية.
حجازى: أنا معك فى الفكرة. لكن فى الواقع هذا الربط غير ميكانيكى. أنا أدّعى، مثلاً، أن مصر عرفت فى أواخر القرن التاسع عشر...


أدونيس: (مقاطعاً) أنا أتكلم على المستوى العربى.
حجازى: فاهم. أنا لا أتكلم عن مصر فقط. سوريا أيضاً عرفت فى إطار النظام الليبرالى الذى كان قائماً بعد الاستقلال والجلاء، أى من 1946 إلى 1958 وقيام الوحدة، نظاماً برلمانياً. لقد تخللت تلك الفترة انقلابات عسكرية استغرقت بضع سنوات، لكن كان هناك نظام برلمانى وكانت هناك حريات، وقوى فكرية وسياسية تعالج مثل هذه الأمور التى تتكلم عنها الآن: الدين، الجنس، السياسة، إلى غير ذلك... بكامل الحرية.

وكان يحدث كثيراً أن تقمع تلك الأفكار، لكنها كانت موجودة. إن موضوع «التابو» الذى يواجهه أى مجتمع فى العالم ومنذ بدء الخليقة الى الآن، أى ثلاثى الدين والجنس والسياسة، كان قائماً. لكن كيف يمكننا أن نعالج هذه المسائل التى عولجت قبلنا، ولسنا وحدنا الذين نواجهها؟ لا شك أن نوعاً من مناقشة الفكر الدينى القائم قد جرى، رغم خلافنا المحتمل فى تقدير حركة الإصلاح الدينى التى حصلت فى بلادنا جميعاً، والبلاد الإسلامية الأخرى وليس مصر وحدها، منذ أواخر القرن الثامن عشر، أى من زمن الحركة الوهابية الى أواخر الاربعينات تقريباً.


إن تلك المناقشة قد اصطدمت مع السلطات القائمة. ولا شك أن الحركة الوهابية لم تكن تعنى الأتراك الذين حاربوا الوهابيين، لكن عامة المصريين لم تكن تعجبهم الأفكار التى قدمها محمد عبدة، وكان جمال الدين الأفغانى يصور فى كثير من الأحوال على أنه رجل مارق لأنه تكلم عن الشورى.


ولقد حصلت فى تاريخنا صدامات حول هذه الموضوعات نفسها. وقد لا نكون وصلنا فى طرح موضوع الجنس إلى ما وصل إليه الأوروبيون، لكن لا شك فى أن عملية نزع الحجاب، مثلاً، كانت معركة حقيقية رغم أنها لم تصل إلى العمق.
لقد خضنا معارك كثيرة، ويفترض بنا ألا نتخلى عن تراثنا فى هذه المعارك.

أبو نواس فى بلاط الخليفة

 أدونيس: بالعكس... فنحن فى العصر العباسى كنا، ويا للمفارقة، أكثر تقدماً مما نحن فيه الآن، وأكثر تقدماً من الغرب أيضاً.
حجازى: العصر العباسى بالنسبة لى هو العصر الذهبى. وقد قال أبو نواس والمعتزلة فى بلاط الخليفة ما لا يسمح الآن بنشره فى الكتب.


أدونيس: وحداثتنا بدأت فيه وقتلناها!
حجازى: كيف أننى لا أستطيع اليوم أن أنشر فى صحيفة عن خلق القرآن، بينما المعتزلة أشبعوا هذا الموضوع بحثاً قبل قرنين او ثلاثة من الزمان؟ لهذا أريد أن أقول إنك على حق يا أدونيس. لكن تاريخنا ملىء أيضاً. فأنت لو سألتنى عن المؤلف أو الدراسة التى ألقت الضوء على هذه الموضوعات وبحثتها بحثاً صريحاً، لأجبتك أن هناك دراسات، وإن كانت لا ترقى إلى الصراحة التى بحث فيها الغرب هذه الموضوعات. والسبب هو أننا نمر فى طور اجتماعى مختلف. وليس لأننا ـ دون خلق الله ـ مصابون بالكتمان أو بالخوف.

لا... فمن نقاط خلافى الدائم معك ـ وقد يكون خلافاً سببه سوء التفاهم ـ أنى كنت أرى لديك نوعاً من التعميم. وربما كنت اتفقت معك فى آرائك لو وُضعت بدقة فى إطار تاريخى معين. كنت أجد دائماً فى كلامك قدراً من التعميم على كل التاريخ العربى. وأنا لا أختلف عنك، ولا أدعى أننى أكثر حرصاً منك على التاريخ العربى، ولكن وجهة نظرى أن التاريخ ليس مستوى واحداً، ففيه ارتفاعات وانحدارات، وفيه مراحل تنكسر فيها روح الأمة، ومراحل أخرى تسترد فيها الأمة هذا العنفوان.


أعتقد أن فكرنا العربى بكامله تعرض لذلك. مثلاً خذ ألف ليلة وليلة، والغلمانيات ومجون أبى نواس ورفاقه، والحسين بن الضحاك وبشار وديك الجن... هذه فترة محدودة. لكن الفن الشعبى عالج مسائل الجنس والدين والسياسة فى كل ما أنتجه من قصة ونكتة وصور وعقائد شعبية. إذاً، عندما نتحدث عن الفكر العربى الذى يتعرض لهذه المسائل... فأى فكر تقصد؟ هل تقصد الشيخ مصطفى عبد الرازق الذى كتب « الإسلام وأصول الحكم» أم نأخذ الشيخ الظاهرى الذى وقف مع الملك؟ 
أدونيس: نأخذ الاثنين...


حجازى: والذى يقرر فى الأخير هو مستوى الثقافة السائدة.
أدونيس: دائماً فى كل المجتمعات، هناك ثقافة مكبوتة وثقافة ظاهرة. ثقافة سائدة كما قلت، وأخرى تحتية لكنها فعالة. وأنا حين أنظر إلى المجتمع نظرة تقويمية، وأبحث ماذا يحدث فى هذا المجتمع على مستوى القرار، لا أجد إلا الشيخ الظاهرى. لا أجد جمال الدين الأفغانى لأنه مقموع ومعزول رغم أنه موجود وفعال. وهذا شىء طبيعى فى كل المجتمعات، وأنا حين أعمم هذا الكلام، أعمم فقط على مستوى الثقافة السائدة.


حجازى: ولكن يا أدونيس، فى كل حوار هناك درجات. مثلاً صادق جلال العظم لا يمكن أن نعدّه خارج الثقافة السائدة، فكتابه فى نقد الفكر الدينى قد قرئ كما قرئ أى كتاب سائد.
أدونيس: ولكن كتاب العظم ليس نقداً جذرياً... يجب ألا ننسى ذلك.


حجازى: هذا تقييم علمى، لكننا نتكلم على مسألة الجرأة على هذا النقد.
أدونيس: أنا أجد كتابات الشيخ مصطفى عبدالرازق أكثر جذرية بكثير من كتابات العظم.
حجازى: يمكن أن أتفق معك على هذا، ولكن أقول إن المجتمع عرف دائماً تلك المحاولة. نحن نتكلم فى حقيقة الأمر عن الثقافة العربية السائدة بعد قيام الدولة الحديثة، والتى تمتلك صحفاً وإذاعة وتلفزيون ومدارس... أى أننا نتكلم عن فترة تعود مائة سنة الى الوراء فحسب. وفى ظنى، أن الثقافة الشعبية قبل ذلك كانت ضمن الثقافة السائدة. فقبل 150 عاماً بالتحديد، كانت الثقافة السائدة فى بلادنا هى الثقافة الشعبية.


أدونيس: أميل إلى القول إن حداثتنا بدأت فى القرن الثانى الهجرى، أى فى القرن الثامن الميلادى، قبل ألف سنة من الحداثة الأوروبية. وبدلاً من أن يستمر الفكر العربى فى تعميق هذه الحداثة وتطويرها وإيصالها إلى ذرواتها، رجعنا إلى الفكر الوظيفى الذى نشأ فى القرن الأول الهجرى ،  وأقصد بالفكر الوظيفى ذلك المرتبط بالسلطة... هو نفسه الثقافة الوظيفية. وما لم نبطل هذا الارتباط بين الثقافة والسلطة لا يمكن أن نصل إلى فكر حقيقى وخلاق. اسمع قولة ذلك الصوفى الكبير الذى لا يحضرنى اسمه الآن: « إذا رأيت عالماً يلوذ بباب سلطان، فاعلم أنه لص».


حجازى: آه ... نعم.
أدونيس: لا بد من الفصل بين الثقافة والسلطة.
حجازى: ولكن انتبه يا أدونيس، مع احترامى للقرن الثانى الهجرى وإعجابى بإنجازاته العظيمة، ففى هذا القرن بدأت فكرة ارتباط الثقافة بالسلطة. وقبل ذلك كان هناك استقلال... فى ظل السلطة.


أدونيس: كان عصراً ثقافياً عظيماً. فالثقافة فيه جرّت السلطة إلى موقعها، وهذا هو الشيء المهم.
حجازى: هل جرّت الثقافة السلطة؟ أم أنه تطور المجتمع فى ذلك الوقت...
أدونيس: إن مشكلة الفكر العربى الأساسية والملحة ليست فى علاقته بالفكر الأوروبى، وإنما مشكلته هى مع نفسه، فى علاقته بالمجتمع. إن عليه أن يطرح السؤال على نفسه قبل أن يطرحه على الغير.


حجازى: أجد لدينا اتفاقات أساسية، وهناك تفاصيل نختلف عليها، وأظن أن الحوار فيها نافع جداً.
أدونيس: هيا نكمل الحديث عند بهجورى.
حجازى: بل أريد أن أقترح عليك ما هو أبعد من ذلك... أن نعمل حواراً وننشره فى كتاب.

فى شقة بهجورى

بعد أن وصلا إلى ما يشبه الاتفاق، عاد حجازى وأدونيس فاختلفا مجدداً فى بيت بهجورى.
وبيت بهجورى عبارة عن غرفة رحبة فى الطابق الأخير بعمارة عتيقة فى حى «سان لوي» الجزيرة الصغيرة فى حضن «السين»، وسط باريس. إن الصعود إلى الشقة يأخذ الزائر إلى أجواء رواية «البؤساء». ذلك أن كاتدرائية نوتردام تقع فى الجوار. وعن تلك الشقة كتب حجازى قصيدة مطلعها:
«سلّمك العالى إلى أين يؤدى
درجٌ يصعدُ والروح تحنّ للقرار»
هناك، بين قماشات الرسم وعلب الألوان وأكداس اللوحات والكتب، كانت الجلسة أكثر حميمية. استلقى الشاعران فوق بساط على الأرض كتفاً إلى كتف، وواصلا الحديث الذى بدآه فى المقهى.


لو كانت الجلسة فى بيت مرتّب، وفوق كراس متباعدة، لما اتصل ـ ربما ـ هذا الحوار، ولما استمر حتى الثانية صباحاً. كان دفء المكان وطيب الشراب جزءاً من قواعد اللعبة.
حجازى: أنا أحكم على شاعريتك يا أدونيس من خلال محيط معين.


أدونيس: لا...لا... إذاً نحن أساساً مختلفان.
حجازى: كيف أحكم على شاعريتك؟ من خلال لغتك. يعنى لو رأيتك تلعب باللغة، فلن أعتبر شاعريتك. إن هذا الخطأ فى اللغة يصح أن يكون صواباً فى عصر آخر. عليّ أن أعتبر هذا الخطأ فى اللغة ميزة لك.


هناك شعراء كبار يخرجون على اللغة، لا لأنهم يعرفونها جيداً، ولكن لأنهم يريدون أن يخرجوا عليها. وأنا لا أتحدث عن هذه الحالة، بل عن الشاعر الذى يرتكب خطأ لم ينتبه إليه. لقد قال العقاد كلمة جميلة جداً وهو يقدم كتاب «الغربال» لميخائيل نعيمة. ففى الكتاب مجموعة مقالات منها واحد بعنوان «نقيق الضفادع»، يقول نعيمة فيه إن اللغة هى وسيلة تعبير. وما دام الشاعر يصل إلى المعنى الذى يريد التعبير عنه، إذاً لغته صحيحة. وعلينا ألا نؤاخذه إذا خرج على اللغة. وتناول نعيمة بعض التعابير لدى جبران، مثل «هل تحمّمت بعطر...» إلخ.


العقاد خالف نعيمة فى رأيه هذا، وقال إن اللغة فى الأدب هى غير اللغة فى السياسة أو فى الفلسفة أو فى العلم. فاللغة فى الأدب ليست وصفية، بل مقصودة لذاتها. إذاً ليس الهدف هو الوصول إلى المعنى فحسب، بل أن تكون طريقة الوصول جميلة. وطالما أننا لسنا من اخترع اللغة، بل هى موجودة وجاهزة، إذاً علينا أن نتعامل بها.


وأنا يا أدونيس أوافق على الخروج على اللغة، شرط أن يكون أجمل وأصوب من الأصل. وسأقول لك كيف. أن المتنبى يقول فى أحد أبياته: «فللناس بوقات لها وطبولُ...» ليس فى اللغة العربية بوقات، بل فيها أبواق، وهى على وزن بوقات، ولم يكن المتنبى جاهلاً لهذا، وكان بإمكانه أن يقول: «فللناس أبواقٌ لها وطبولُ». لكن كم هى بوقات أجمل من أبواق لها هنا؟ وبالتالى فالخطأ فى هذه الحالة أجمل من الصواب.


كيف نظروا إلى هذا الخروج فى عصر المتنبى؟ بالتأكيد أن هناك أناساً تحمسوا له جداً، وهناك المتقعرون المتفيهقون الذين جلسوا يؤاخذونه على هذه الكلمة أو تلك، دون أن ينفى ذلك وجود شاعرية متدفقة وهدارة.


أدونيس: يبدو لى أنك يا أحمد ميال إلى السياق التاريخى، وإلى وضع الشعر فى هذا السياق. وإذاً فإن تقديم الشعر لديك يأتى دائماً ضمن سياقه التاريخى. أما بالنسبة لى، فالأمر ليس كذلك، فأنا لا أعطى للسياق التاريخى أهمية فى تقويم الشعر لأن للشعر هامشاً مستقلاً. نحن لا نستطيع القياس الشاعرى على المقياس الاقتصادى والسياسى والتاريخى. الشعر شىء آخر.


نحن مثلاً عندما نقرأ ملحمة جلجامش الآن، والتى كتبت من أربعة آلاف سنة فى مجتمع زراعى بسيط جداً، نقرأها، أو أقرأها أنا كنص مجرد كلياً عن كل ظروفه السياسية والاجتماعية والتاريخية. نص قادر على تجاوز الزمن، وتجاوز كل ظروف التاريخ والمجتمع. فأهمية نص جلجامش، إذاً، هى فى ذاته. إنه نص خالد، بصرف النظر عن وجوده فى ظرف اجتماعى وتاريخى معين. وأهمية امرئ القيس لا تأتى من كونه شاعراً عاش فى الصحراء أو فى المدينة، بل فى أنه يقدم نصاً هو فى حد ذاته عظيم.


وبهذا المعنى أرى أن نص عصر النهضة هو نص ـ على المستوى الإبداعى  ليست له قيمة فنية وشعرية بالمعنى الحصرى. وهو نص تكرارى واجترارى لنصوص تقليدية. فالبارودى مثلاً ليست له أى قيمة شعرية، بالمعنى العميق.

لكل واحد شمسه

حجازى: أظن أنك لم تفهمنى يا أدونيس. فأنا لا أتكلم على القيمة التاريخية أو القيمة الاجتماعية للشعر، بل عن الظروف أو الشروط الاجتماعية والتاريخية للعمل الشعرى وللنشاط الإنسانى عامة، وليس لقصيدة بالذات. ومع احترامى لسحر الكلمة، ولفكرة أن الفن هو شىء خارج الزمان والمكان، ولفكرة الإبداع خارج الشروط، فإننى أقول إن الإبداع هو داخل الشروط. ما هو الإبداع ما هو الإبداع الشعرى؟ معناه أنك تبدع فى اللغة. ما هى اللغة؟ اللغة بالتحديد ظاهرة اجتماعية. إن العمل الشعرى بالتحديد هو صراع بين لغة اجتماعية ولغة خاصة.


وبمعنى آخر، كيف أستطيع أن أتوصل إلى لغتى الخاصة بى بين لغة الجميع؟ هذا بالضبط هو الصراع الذى يخوضه الشاعر... كيف ينتزع لغته الشعرية من داخل اللغة الاجتماعية. مع هذا، فالشاعر لا يبتكر لغة شخصية مائة فى المائة، وتبقى نتيجة الصراع نوعاً من المصالحة بين اللغتين... بين لغة الإبداع والخلق، ولغة الاتصال، أى بين المستوى الأفقى الذى يتمثل فى الصراع مع اللغة العامة، والمستوى الرأسى الذى هو مستوى الخلق الجذرى، والعمق، والنبع. 


من هنا، يظل شىء اجتماعى فى لغة الشاعر. ويظل شىء تاريخى فى لغة الإبداع الخاص. وهذا الشىء التاريخى له شروط. فأنا، مثلاً، لا يمكن أن أحكم على شاعرية امرئ القيس دون التعرض للغته ،  ويستحيل عليّ أن أحكم على شاعرية البارودى دون التعرض للغته. فهو إن كان يكتب بالعربية، صار لزاماً عليّ ـ إن كنتُ جاداً ـ أن أعود إلى اللغة العربية فى القرن التاسع عشر. هذا مع اعترافى بأن العمل الشعرى الممتاز قادر فى النهاية على استخلاص قيمة لا تتعلق بمعناه الاجتماعى أو التاريخى.


أنا أتحمس اليوم عندما أقرأ لشاعر مغربى متوسط، لكنى لا أتحمس لو قرأت لشاعر متوسط من العراق، لأن فى العراق شعراء ممتازين... مثلاً. وهذا بالضبط معنى الشرط التاريخى.


الآن نعود إلى المثال الذى أنت قدمته، جلجامش. فهل تعتقد حقاً أنك قرأت جلجامش كنص شعرى؟ أنا قرأتها يا أدونيس مثلك. وأشهد أن الشعر الذى فيها هو الرموز، بالتحديد، أكثر مما هو لغة الشعر. وقد سررت جداً من فكرة نزول جلجامش إلى العالم الآخر بحثاً عن رفيقه أنكيدو الذى مات. إن هذا  فى حد ذاته عمل شعرى، من غير اللغة. فما الذى تحبه أنت فى جلجامش؟ هل هو الخيال؟ الحركة؟ أم اللغة؟ أنا أزعم أننى لا أعرف البابلية، ولا تعرفها أنت، وإذاً فأننا قد أحببنا الخيال فى هذا النص.


إن السياق التاريخى الذى أتحدث عنه ينطبق على أشكال الإبداع كافة. لقد شاهدت مؤخراً لوحة «غارنيكا» الشهيرة فى متحف برادو، ووقفت أمامها طويلاً وأُعجبت بها. ولو كنت شاهدتها دون أن يكون فى ذهنى قرية غارنيكا التى ضربتها قنابل الطائرات الهتلرية فى زمن الحرب الأهلية الإسبانية، فهل كانت قيمتها بالنسبة لى ستكون كذلك؟ 
أنا متأكد من أن العمل فى ذاته له قيمة خارج التاريخ. لكنك تراه وفى بالك فرانكو، والحرب الأهلية، وثقافتك ومعارفك كلها، وبدون هذه الثقافة لما ذهبت الى «برادو».
أنت أيضاً لا تنظر إلى الشمس بشكل مجرد. فالشمس فى السويد غيرها فى مصر. وهى قد عُبدت فى بعض البقاع، وعُبد القمر فى بقاع أخرى. وهى قد أُنّثت فى لغات وذُكّرت فى لغات أخرى ، وهى عندما تشرق عليّ فى باريس، لا تمنحنى الشعور نفسه وهى تشرق عليّ فى القاهرة. إن لكل منا تجربته الخاصة ووعيه التاريخى للأشياء، ولكل عمل شروطه الاجتماعية والتاريخية.


أدونيس: أنا معك فى أن لكل شيء شروطاً. فالوردة مثلا لهل شروط للنمو، فنحن نزرعها ونسقيها بالماء، ونضع لها سماداً. وهى تحتاج إلى طبيعة معينة... إلخ. لكننا عندما نشم رائحة الوردة لا ننظر إلى الشروط التى كانت سبباً فى إنتاج هذه الرائحة.


إن الفن هو هذه الرائحة الصاعدة من المجتمع، لكنها فى النهاية لا علاقة لها بكل شروطها. إنها تتجاوز كل الشروط. وبدون ذلك لا يوجد فن أبداً.


حجازى: أود أن أقول إن هذا المثال خاطئ مائة فى المائة. أنت هنا تقيس عملاً بشرياً بعمل طبيعى. ومثالك يعود بنا إلى فكرة انتشرت فى اتجاه النقد الأميركى. فقد قدم عدد من النقاد الأميركيين مثل الوردة التى تظهر هكذا، وأنت لا تسألها أين ظهرت وكيف، إنما هى جميلة... وهذا يكفى. وهكذا هو الفن. 


أنا أقول لا. فالوردة إذا كان لها قيمة مطلقة فى ظل حضارة معينة، فإن هذه القيمة يمكن أن تختلف بحيث لا تعتبر الوردة جميلة فى حضارة أخرى. من يدرى؟ أنا أرى أن الحضارات تختلف فى تقييمها للمسائل الطبيعية. فالشمس التى هى مظهر من مظاهر الجمال والنعمة فى المناطق الباردة من أوروبا، قد تكون رمزاً للجحيم فى بلدان أخرى. وهى فى التراث الإسلامى رهيبة، لأن الرب يسلطها على الناس فى يوم ما. والقمر الذى هو مُذكّر لدينا، مؤنث لديهم. ونحن نشبه المرأة الجميلة بالقمر، فى حين أن الأوروبيين لا يطيقون هذا التشبيه. لذلك أشكك بصحة فكرة القيمة الثابتة للوردة.


ثانياً، وهذا هو الأهم، أنك عندما تكتب قصيدة ما، تكتبها مستخدماً أدوات لها طابع اجتماعى. أى اللغة. وعندما تقول وردة، فإنها مثل الورد الذى يبيعونه فى الشارع. وعندما تضع الكلمة فى قصيدة يصبح لها معنى ثان. لكن فى النهاية هناك شىء يختلف، أو يتبقى، من معنى الوردة التى يبيعها بائع الورد، فى القصيدة التى يكتبها أدونيس أو غيره من الشعراء. هناك المعنى الموجود القائم. وهذا المعنى الاجتماعى يعنى خلق كيان فنى جديد تستخدم فيه أدوات لها طابع اجتماعى لا طبيعى. أى أنها ليست كائنات أو أشياء طبيعية.

وهذا يقيم فرقاً كبيراً جداً بين المثال الذى قدمته أنت وبين القصيدة. فالقصيدة، فى نظرى، لها كل ما يترتب على أى نشاط إنسانى من معنى تاريخى واجتماعى. إن الوردة لا تملك هذا، وإن كانت تملك أيضا معناها التاريخى، نحن مثلاً فى عاميتنا العربية نسمى كل زهرة وردة. ولهذا أصل اجتماعى.


أدونيس: يا أحمد دعنى أسألك، لقد عاش دعبل الخزاعى وعلى بن أبى الجهم وأبو نواس وأبو تمام فى شروط اجتماعية، واقتصادية، وسياسية، واحدة. فكيف تقول عن أبى تمام أنه أفضل من شخص آخر عاش معه فى الشروط الواحدة؟ فإذا كانت الشروط هى التى تنتج الشاعر، فمعنى ذلك أن يكون الشعراء كلهم متساوين ومتماثلين.


حجازى: هذا ليس صحيحاً. ونحن لسنا متفاهمين على المبدأ. أنت تناقشنى فيما لم أقله. فأنا لم أقل إن الظروف الاجتماعية هى التى تقدم الإنتاج، بل قلت إن للإنتاج جانباً اجتماعياً وإنك لا تستطيع أن تفهم خلافات المعاصرين إلا من خلال إدراكك العام للشروط العامة.


أدونيس: عندما تحدثنا عن عصر النهضة قلت لك إن نص البارودى لا قيمة له شعرياً. لكنك خالفتنى وقلت لى يجب أن تنظر إلى الظروف الاجتماعية وغيرها...
حجازى: أنت فى النهاية تعمل عمليات ذكاء مختزلة، فتقيس البارودى بمن تعرفه من الشعراء دون أن تدرى، فتجده أقل بكثير من غيره.
كانت الساعة قد بلغت الثانية صباحاً، وتعب الشاعران، فسكتا عن الكلام.