قدم مئات المبدعين والنقاد.. وقاد التمرد ضد جيل الستينيات!!

حُزين عمر.. النهر الذى غمر شوارع المحروسة.. إبداعًا ومحبة!!

حُزين عمر
حُزين عمر

■ كتب: محمد شلبي أمين

هو مبدع ومفكر غير اعتيادى، نادراً ما تشهد الثقافة العربية رجلا مثل حزين عمر، يختار دائماً لنفسه الطرق غير المعبدة، والتربة غير الممهدة ليرمى فيها بذرته، فإذا بهذه البذرة عشرات من دواوين الشعر والملاحم والمسرحيات والدراسات الفكرية والدينية، وشتى أجناس الأدب التى أهمل الناس بعضها، مثل الرسائل الأدبية، والسيرة الشعرية والرواية الشعرية والسيرة الذاتية.

تتحول البذور التى رماها المفكر والمبدع الكبير حزين عمر إلى مئات من الشعراء والروائيين والنقاد والمثقفين بصفة عامة، تعمر بهم مدن مصر وقراها التى جابها الرجل شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً على مدى أربعين عاماً، ينشر الوعى الوطنى، ويبث الحس القومى، ويحيى الآمال فى نفوس الشباب والشيب بأن مصر عظيمة وستظل عظيمة، وأن وطننا العربى كل متكامل يشد بعضه بعضاً، وليس شذرات متناثرة متناحرة، وأن أمراض التطرف والشطط غريبة على الطبيعة المصرية، مناقضة للشخصية الوطنية.

 تجول فى قرى مصر ومدنها.. حتى فى معاقل الإرهاب!!

◄ يقول: صراعات المثقفين كانت لأسباب أيديولوجية.. تحولت الآن للمنافع الصغيرة!

◄ دروب المحروسة.. ماذا تعنى لك؟
• هذه محطات كبرى وإن شئ فقل جبال وهضاب مررنا بها، واجتزناها وشحنا منها روحاً ومعنى وعقلاً.. ففى العجميين مازلت أعيش، رغم مغادرتى لها منذ اثنين وأربعين عاماً بالضبط، مازلت أنفر من الصخب والضجيج، وأجد نفسى فى زرقة السماء، واتساع الأفق، ونقيق الضفادع، وقامات النخيل السامقة، ورائحة الندى على عشب الصباح والمساء، وآمل ألا تسخر منى إذا قلت لك أننى مازلت أضل طريقى فى شوارع القاهرة لاننى لا أجد بها النخلة، والترعة، وهدار الماء، وشجرة الجزورين، وجرن عمى صالح ولم تفلت هذه التجربة من مخالب إبداعى الشعرى، فكان أول ديوان شعر فصيح على لسان الفلاح.. هو «مذكرات فلاح» الذى اختلف معى فى عنوانه الشاعر الراحل بدر توفيق، وأصررت على أن هذا هو الانسب: فمادام للسياسيين الكذابين مذكرات، وللراقصات مذكرات، فلم لا يكون لأصل البلد وعموده الفقرى مذكرات؟!

مع التحاقى بالعمل الصحفى، مبكراً جداً فى عام 1982، رميت أنظارى تجاه خريطة الوطن الممتدة من اقصى الشمال لأقصى الجنوب، ولم أر مصر أبداً هى القاهرة، بل مصر هى البوادى والقرى والنجوع واقاصى الصعيد وتفاصيل الشمال، فبدأت خطواتى الأولى إلى كل مدن مصر، وقراها متواصلاً مع أدبائها، ومثقفيها، وموهوبيها، متحاوراً معهم فى قضايا الثقافة القومية، وأعمدة الهوية المصرية، سواء فى قصور الثقافة، أو المقاهى أو النوادى الرياضية، وحتى الكنائس، ككنيسة رُزْقة الدير بأسيوط، وحينها لم تكن قد نشأت ما تسمت بعد ذلك بنوادى الأدب، وفى مواجهة الإرهاب فى التسعينيات لم أرتدع واتقوقع خوفاً من تهديدات الارهابيين فى الصعيد، بل اعتدت إن ازور المواقع الاكثر سخونة خاصة فى أسيوط، وكانت فروع الثقافة هناك تنقلنا فى سيارات مصفحة انتزع زجاجها ووضع مكانه صفائح حديدية اتقاء للرصاص. ولا استطيع حصر مواقع الزيارة لأننى تجولت، من مرسى مطروح، والبحر الاحمر، والاسكندرية وسيناء، إلى أسوان، مروراً بجميع المدن.

◄ الإبداع.. النقد.. العمل الصحفى.. النشاط التثقيفى.. كلها روافد صبت فى نهرك العذب.. بأيها بدأت؟!
• الإبداع.. موقف، حقيقة لم أكن أدركها، وأنا أكتب أول خاطرة لى - كنت أظنها شعراً - وأنا طالب فى المدرسة الإعدادية، وكانت حينها عن اتفاقية كامب ديفيد، التى أدركت فيما بعد أن شرها أكبر من نفعها، كنت أكتب كلاماً بسيطاً من هذه الخواطر، وأقرؤه لأمى، فتبدى سعادة به، وتطلب من أبى أن يدفع لى جنيهاً فى كل خاطرة، فكانت مكسباً لى وخسارة لأبى وتفتحت آفاق رؤيتى مع الدراسة الثانوية مع التحاقى بالمكتبة فى المدرسة، وأنصرافى عن ضرب العيال زملائى «والبلطجة عليهم» إلي القراءة الجادة.

ولم أتجه الى كلية الحقوق تنفيذاً لرغبة والدى، بل اتجهت إلى كلية الألسن: تراث رفاعة الطهطاوى، ومعقل اللغة والدراسات الادبية العميقة، ومناهج البحث العلمى والدراسات الاستشراقية، وكانت قطرات الابداع الأولى قد فاضت ابتداء من الصف الثالث الثانوى، حتى اننى كتبت مقالتين أدبيتين عن أحمد فتحى، شاعر الكرنك، وعبد الحميد الديب، شاعر البؤس وأرسلتهما إلى المجلة العربية، ومجلة المنهل، فى السعودية، وفوجئت بنشرهما معاً، وللمرة الثانية اتقاضى أجراً من العمل الأدبى، بعد جنيهات أبى.

مع الخط الدراسى، وابتداء من السنة الأولى الجامعية، التحقت بالعمل الصحفى بدار مايو الوطنية للنشر، التى كانت الابنة المدللة لأنور السادات.. وكانت تصدر صحف: مايو، واللواء الاسلامى، وشباب بلادى.. فكان عملى بالاخيرة.. التى قدمت نخبة من الصحفيين الأكفاء نبغوا فى المؤسسات القومية: الأهرام والأخبار والجمهورية.. منهم أحمد عطية صالح، وعزة سعد وعاطف حزين وعمر الصعيدى وعبدالحميد جاد ويوسف سعداوى.. وبعد عامين من عملى بها التحقت بالجمهورية، التى كانت معروفة - قبل انطفائها - بالجماهيرية والشعبوية والصحافة الاجتماعية.. واجتمع حولى بعض من أصدقاء الدراسة والساحة الأدبية مثل د.نجوى عمر ود.إيمان عبد الرشيد ود.ثناء كيلانى وسلامة عيسى ومحمود رمضان الطهطاوى وبهاء وعلاء الدين رمضان ومجدى جعفر ومحمود الديدامونى وجمال بركات وعبدالنبى شلتوت وسعيد عبدالخالق وعلاء عيسى.. وغيرهم لتشكل (جماعة الجيل الجديد الفكرية) التى اتخذت من نقابة الصحفيين بمبناها القديم مقراً لندوتها الاسبوعية مساء كل ثلاثاء.. ثم اصدرنا من خلالها سلسلة كتاب الجيل الجديد - 15 عدداً.

◄ العيال.. نجحوا!!

◄ مع هذه البدايات.. كيف كانت خريطة الثقافة العربية؟!
• الروح كانت تدب بقوة، وتسرى الدماء دفاقة فى قلب الواقع الثقافى، على الرغم من انقسامه الى «ثلاث» جماعات وتنظيمات مدفوعة غالباً بالانتماء الايديولوجى أكثر من اللهاث المادى الذى نراه الآن.. فلم تكن أموال البترول قد تضخمت تضخمها فى العقود الأخيرة، ولم يكن الاشقاء الخليجيون يوظفونها فى (الاحتواء الثقافى والسياسى) وفى زحزحة مصر عن مكانتها كما نرى الآن.
كانت أموال النفط تصرف بحذر على أوجه قليلة  وبسيطة - وربما بريئة - من وجوه الثقافة.. خاصة المجلات.. فهنالك حينذاك مجلة (العربى) الكويتية التى انشأها وانضجها المصريون الكبار أمثال: الدكتور أحمد زكى وأحمد بهاء الدين.. ومجلة (الدوحة) القطرية، وعلمها الشامخ رجاء النقاش، ومجلة (المنتدى) الإماراتية ومدير تحريرها ابراهيم سعفان، إضافة الى مجلات الفيصل والمنهل والمجلة العربية السعودية.. وكانت هذه الاصدارات مرآة شبه صادقة للواقع الثقافى العربى: فهى تحتوى أقلام المصريين والعراقيين والسوريين والمغاربة واللبنانيين مع الأقلام المحلية.

◄ التمرد.. وقلب النظام!!

◄ صراع الأجيال كان حديث الساحة الثقافية قبل عقود مضت.. كنت طرفاً فيه!! لماذا تنحت هذه القضية عن اهتمامات المثقفين؟!
• الجيل ثلاثون عاماً.. لكننا - كمصريين - نحب ان نضع لمساتنا على كل شىء، ونصبغه بلوننا نحن، حتى إن الدين الحنيف نفسه حينما تسلمه المصريون، شيئاً فشيئاً طبع بسماحة نفوسهم - وقد كان سمحاً فى ذاته ووسطيتهم وفنونهم وطبائعهم، منذ الإمام الليث بن سعد حتى الشيخ محمد عبده، مروراً بالعز بن عبد السلام.. فما بالك بمسمى الأجيال نفسه؟! لقد تقلص وتكثف حتى اصبح عقداً واحداً بدلاً من ثلاثة عقود.. واصبحنا نتحدث عن جيل الخمسينيات، وجيل الستينيات، وجيل الثمانينيات وشهدت فترة الثمانينيات بالذات، مع الاستقطاب الايديولوجى والسياسى وهجمة تيارات التطرف، حديثاً مطولاً عن هذه الأجيال وصراعاتها.. ولاشك فى ان الصراع يبدأ بمن هو أقوى وأرسخ قدماً فى الحياة الثقافية.

رحنا نسمع عن شكوى جيل الستينيات وصوته العالى وولولته من اضطهاد الجيل السابق له، ودفعه خارج دائرة الضوء.. ودائرة الضوء تلك كانت هى العمل بالصحف القومية - لم يكن هناك  سواها والإذاعة والتليفزيون وتولى مناصب حكومية فى وزارات الثقافة ونشر الكتب والحصول على الجوائز.. هذه هى مبررات الصراع! المبنى على تقسيم الأجيال، ليضاف الى الصراع القائم على التقسيم الفكرى: يميناً ويساراً.. كنا نسمع شكوى جمال الغيطانى وبهاء طاهر وعبدالعال الحمامصى ونور نافع وعلية الجعار ويوسف القعيد ومحمد قطب ونبيل عبدالحميد، من تضييق الفرص أمامهم على يد الخمسينيين جيل: صلاح عبد الصبور وحسن فتح الباب وصلاح عبد الصبور ومحمد التهامى ويوسف الشارونى ويوسف السباعى ويوسف إدريس.. على الرغم من أن كثيرين من ابناء هذا الجيل، بل ومن جوهر اليسار كمحمد صدقى كانوا محاصرين مهمشين، ولم يشاركوا بعض رجال جيل الخمسينيات الا فى المعتقلات والسجون!! وكذلك كانت شكوى جيل الثمانينيات ـ الذى قدت تمرده ـ مريرة من جيل الستينيات.

◄ تغير الولاء!!

◄ أربعة عقود فى (بلاط صاحبة الهم) وليس الجلالة!!
من نافذتك على الصحافة الأدبية.. كيف كانت؟! وماذا أصبحت؟
• اتصلت بالصحافة الأدبية كاتباً شاباً، قبل ان أكون محرراً ثقافياً أو صحفياً محترفاً.. نشرت إبداعاتى الشعرية وبعض مقالاتى فى (المنتدى) الإماراتية، وفى (المجلة العربية) و(المنهل) و(الشرق) السعودية، وفى حواء والهلال وغيرها.. وكان أول اتصالى بها كحرفة فى دار مايو الوطنية للنشر، ثم فى دار الجمهورية، حيث عملت محرراً فى صفحة الأدب مع الراحل الدكتور فتحى عبدالفتاح، ومدة قصيرة قبلها فى صفحة (أدباء الاقاليم) ثم الملحق الأدبى لجريدة المساء. ثم اشرفت على صفحات آدبية بالمساء، منها (الناس والثقافة) و(فى المواجهة).. وفى أثناء هذا عملت مديراً للتحرير بجريدة الزمان مع صاحبها الراحل حسين الشاعر، وقدمت صفحة ثقافية كذلك، قبل أن تتحول الزمان بترخيصها الى (المصرى اليوم).. وكذلك عملت زمناً محرراً ثقافيا بجريدة (الوطن) الكويتية، من خلال مكتبها بالقاهرة، ومع الزميلين الشاعر الكبير الراحل محمد مهران السيد والزميل حسن عبدالباسط.

حينها كانت الأهرام والأخبار الضلعان الآخران من الصحف القومية الصباحية الكبرى - معنيتين بالثقافة وصفحات الادب، حيث يتصدر هذه الصفحات ثروت اباظة، ومعه د.عبدالعزيز شرف ود.محمد عبدالمنعم خفاجى ومحمد عبدالعزيز شنب ومحمد هزاع وغيرهم.. مع خط آخر للصحافة الأدبية بالأهرام يقوده فاروق جويدة، طبعاً فى حياة صلاح جاهين وكل جيله الكبار.

وفى مؤسسة الأخبار بدأ يبرز اسم جمال الغيطانى - الذى كان محرراً عسكرياً - ثم بركسام رمضان ومصطفى عبدالله وغيرهم.. وكان حسن المنافسة والرغبة فى التجويد - مع هذه الاسماء والصفحات والأجواء - هو الذى يقودنا .. وكنا نحاول إكمال الدور الذى أداه فى الستينيات الكاتب عبدالفتاح الجمل من خلال جريدة المساء التى قدمت جل مبدعى الستينيات والسبعينيات آمثال: بهاء طاهر وأمل دنقل ويحى الطاهر عبدالله وجمال الغيطانى وعبدالرحيم منصور وسيد حجاب ومحمد جبريل ويوسف القعيد وغيرهم.

الكلمة كانت مسموعة حينها.. لأن كلا منا كان مستقل الشخصية - كمحرر ثقافى - وكان لديه ما يقول من الابداع والفكر.. حتى بدأت لحظة التحول التدريجى فى تدمير الصحافة الأدبية، بحيلة خبيثة من مسئولى الثقافة الرسمية، بأن عينوا بعض المحررين - غالباً غير مبدعين - مستشارين لهم، ورؤساء تحرير مجلات رسمية، ووفروا لهم السفريات الكثيرة للخارج والمنافع والمرتبات والجوائز واللجان بما يسمى بالمجلس الأعلى للثقافة.. حتى كان دخل كل محرر من هؤلاء «المرتزقة» أضعاف مرتبه من صحيفته!! وشيئاً فشيئاً تحول هؤلاء المحررون من مندوبين لصحفهم لدى وزارة الثقافة الى مندوبين لوزارة الثقافة لدى صحفهم: يدافعون عن الوزير ورؤساء الهيئات وأى موظف يرمى لهم قطعة عظام!!
هكذا اكتملت البيئة المواتية لتدمير الصحافة الثقافية، حتى قبل ان تتراجع الصحف الورقية وتفقد مصداقيتها وجماهيريتها!!

◄ قدمت مبدعين ونقاداً وأكاديميين من خلال منافذ عدة! الجمهورية، المساء، الزمان، الجيل الجديد، اشراقات جديدة، صالون حزين عمر الثقافى، صالون المساء الأدبى، مخيم المنتدى بمعرض الكتاب، أنشطة اتحاد الكتاب.. ما العائد؟!!
• العائد.. العائد هو جملة واحدة «الحمد الله!!