كنوز| «المازني» يروي معاناته مع الفئران و«قطط» الجيران!

الراحل الكبير ..إبراهيم عبد القادر المازنى
الراحل الكبير ..إبراهيم عبد القادر المازنى

هناك من يحب القطط ويستأنس بها فيقوم على تربيتها فى بيته، وهناك من يكرهها كراهية العمى ولا يطيق أن يقترب منها أو تقترب منه، وأجدادنا القدماء كانوا يقدسونها وموجودة فى بردياتهم وجدران معابدهم ولها تماثيل وحكايات، لكن كاتبنا الساخر المبدع الراحل الكبير إبراهيم عبد القادر المازنى الصديق الصدوق لكاتب العبقريات عباس محمود العقاد له حكاية مأساوية مع القطط يرويها بأسلوبه البديع.. فتعالوا لنعيش معه الحكاية التى يقول فيها: 

اقرأ أيضا: لمربي القطط| أربعة أسباب تجعل قطتك تتبول خارج صندوق الفضلات

القط حيوان مغرور جداً، ولست أتخذ القطط ولا أحبها أو أطيقها، ومن غرور القط أنه لا يستأنس أبداً، يسكن بيتك ويأكل طعامك، برضاك أو على الرغم منك ومع ذلك لا يكون معك إلا على حرف.. تمسح له شعره فيثنى أرجله تحته ويرخى جفنيه ويروح يزوم أو «يقرأ» كما يقول العوام فكأنك تستلم حجراً مقدساً من فرط ما يكون من انصراف هذا الحيوان المتكبر عنك، وتدغدغه فلا يعنى بأن ينظر إليك ليرى من أنت، أغريب أم صاحبه الذى يطعمه ويؤويه، بل ينحنى عليك بأظفار يده وبفمه فى آن معاً. وتقدم له اللقمة فينظر إليها شزراً ويعرض عنها محتقراً ويحول رأسه عنك بكبر دونه كبر وترفع لا يطاق حتى لكأنك تغلو فى حضرة البابا. فإذا كان ما تعرضه عليه لحماً أو سمكاً أهوى عليه بأسنانه وهو معبس متجهم وانتزعه منك كأنما أنت تدنسه بلمسه أو حمله، ولا يكون معك أبداً إلا متحرزاً متوثباً متوقعاً منك الغدر ومتهيئاً لمباغتتك بالخيانة. وليس أطغى منه ولا أغلظ كبداً.

وما أظن بالقارئ إلا أنه رأى ما يصنع القط بالفأر وكيف يمسكه بين يديه حتى يكاد يميته من الفزع ثم يطلقه فيقف الفأر المسكين جامداً لا يتحرك ولا يكاد يصدق أنه حر، والقط ساكت لا يمد إليه يداً ولا يبرز مخلباً فيطمئن الفأر ويشرع فى الهرب إذا وثق أنه آمن وثب عليه القط وهو يضحك فى سره وغرس فى جنبه مخالبه وراح يشكه بها شكاً يكون خفيفاً تارة وثقيلاً أخرى ثم يكف عنه مرة أخرى وعينه عليه، يتربص له وأن يلاحظه وهو يتلوى من الألم. ويدرك الفأر أن الشك قد انقطع وإن كان آخر ما لقى منه لا يزال شديدا فيتشهد ويقول «يا حفيظ ، أعوذ بالله، على وجه من أصبحت فى يومى المنحوس، على كل حال، الحمد لله، قدر ولطف، ترى أين ذهب هذا الوحش الضارى، يا حفيظ، المهم الآن أن أذهب إلى جحرى فإنه على ضيقه خير ألف مرة من ميدان هذه الغرفة التى لا آمن أن يثب عليّ فيها قط آخر».. ويتوكل المسكين على الله وهو يجر رجليه، وذيله مسحوب وراءه، ولا تبقى له قدرة على التلفت من فرط الإعياء ومن كثرة ما نزف منه، حتى إذا قارب الجحر وعظم أمله فى النجاة وإذا بالقط المتربص على ظهره ومخالبه فى لحمه الطرى فيدرك الفأر اليأس ويقول فى سره وهو يؤكل «عسى الله أن يعوضنى يوم النشور داراً أخرى لا قطط فيها»، ويلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يحلم بجنة الفيران. 

القطط تولد عمياء فيدركنا العطف عليها وترق قلوبنا لها فنعنى بها ونتعهدها ونفرح بها ونعجب بمنظرها ونباهى الجيران، ثم يتفق أن نخرج يوماً وأن توصد الأبواب ونحن لا ندرى أن القط فى إحدى الغرف ونغيب شيئاً ثم نعود إلى البيت ويدخل أحدنا حجرة النوم ليخلع ثيابه فيغلق الباب وراءه كعادته وإذا بالقط على السرير يتحفز للوثوب عليه وتمزيق لحمه، فكأنه ليس أمام قط صغير وإنما هو أمام نمر مفترس فيضطرب الرجل وتتخلخل ركبتاه ولا يعود يعرف أين الباب والقط يعوى ويتوثب كالمجنون وقد نسى كل ما كان من سابق النعمة ولم يبق له هم إلا الخروج من الغرفة أو افتراس هذا الذى دخلها عليه وإن كان صاحب الفضل عليه، وقد لقيت من قطط الجيران الأمرين، وما أكثر ما يحدث أن أنسى نافذة مفتوحة أو باباً موارباً فيدخل القط ويمضى إلى أوانى الطعام ويكشف عنها الغطاء الذى من النحاس الثقيل، ويلتهم كل ما بقى، وقد كان لى جيران ما رأيتهم قط ينامون إلا بعد أن يغلقوا الأبواب والنوافذ جميعاً، وكنت أضحك إذ أسمع رب بيتهم يصيح فى الليل «يا حنيفة.. هل أغلقت باب المطبخ» فتصيح حنيفة والنوم يغالبها «أيوه يا سيدى» فلا يقتنع ويخشى أن يكون الكسل قد أغراها بالكذب فيقول «يحسن أن تقومى وتستوثقى»، وبعد قليل أسمعه يؤنبها قائلا «ألم أقل لك إن النافذة لم تكن محكمة الإيصاد، وهذا الباب، انظرى، لو دفعه إنسان بيده لانفتح»، فتحلف أنها أوصدت كل الأبواب والنوافذ فيقول «يا بنتى، دورى قبل النوم على كل باب ونافذة لتتحققى بيدك».. كنت أعجب لهذا المتفزع وأسأل عما يخيفه وهو فى عمارة لها بواب لا ينام إلا بعد أن يدخل كل السكان يغلق بابها بالمفتاح، فإذا تأخر أحد السكان احتاج أن يدق الباب، ثم زال عجبى لما بلوت قطط الجيران، أيقنت أنه لا يخاف اللصوص وإنما يخاف القطط ، والعامة تعتقد أن للقط سبع أرواح ومن كان يشك فيتأمل كيف يسقط القط من فوق السطح العالى ثم ينهض ويمضى كأنما قد انحدر على بساط كهربائى، وتضربه بالحجر فلا يهيبه بل يرتد عنه.. وما رأيت قطتين اتفقتا قط وما اجتمع قطان فى مكان إلا تحفزا للقتال فترى كلاً منهما قد رفع ذيله وقوس ظهره وراح يجس الآخر بعينه وهو يزوم ويدور حوله ليغافله وينشب فيه أظفاره، والقطة هى الدابة الوحيدة التى تأكل صغارها، ومن كان يعرف حيواناً مستأنساً آخر يفعل ذلك فليخبرنى فإن العلم بهذا ينقصنى. 

ومن غرور القط أنه يعتقد أن ريقه ترياق فتراه يضطجع على جنبه ويلوى عنقه ويقبل على شعره بلسانه ويلحسه ولا يخجل أن يستحم على هذا النحو أمام الناس بل لعله يباهى بذلك ويفخر، قبحه الله، وهو مفطور على الغدر والخيانة فلا أمان له ولا اطمئنان منه، فهو لهذا سيئ الظن حتى إنك لتراه إذا صار على رف أو لوح من الخشب يخطو كأنما يمشى على الجمر فيضع كفاً وينتظر ويخيل إليك من وقفته أنه يختبرها بكفه ويقدر مبلغ ثباتها، ثم يمد يده الأخرى وينتظر شيئاً زيادة فى الاستيثاق ومبالغة فى الحذر ويظل يتريث حتى تزهق روحى وأنا أنظر إليه، ولو كان الإنجليز قد خلقوا قبل القطط وسبقوها إلى الدنيا والحياة لقلت إن القطط أخذت ذلك عنهم وقلدتهم فيه فإنهم مثلها يقدمون على الشيء متحرزين ويخطون خطوة ثم يقفون ينظرون ما يكون فإذا جرت الأمور على غير ما يحبون أو يتوقعون ارتدوا بخفة وبسرعة وإلا نقلوا رجلاً أخرى وهكذا فيظهر أنهم هم الذين يتقيلون القطط ويحاكونهم فى هذا والله أعلم. 

لم يسرنى قط وجود قط فى بيتى إلا مرة واحدة وكان قطاً ملعوناً لا يزال كلما أوينا إلى مضاجعنا يتسلل إلى المطبخ ويرفع غطاء كل وعاء ويقلب كل صحن ويروح يعبث بما فى المكان، وليست نقمتى عليه من أجل ما يسرق فقلما يجد شيئاً فى المطبخ لأن عادتنا أن نبيت الأوعية والصحون فارغة نظيفة والحمد لله، إنما نقمتى عليه من أجل الضجة المزعجة التى يحدثها والصحون والأطباق التى يكسرها فنهب مذعورين من فرط الضوضاء ونعدو إلى المطبخ عسى أن ندرك شيئاً قبل أن يتحطم وإذا بالقط اللعين يثب من الرف حين يرانا إلى النافذة دفعة واحدة، وأقسم أنى كنت أغلقت النافذة واستوثقت منها قبل أن أنام ولكن من يصدق، تروح زوجتى تكذبنى وتزعم أنى أهملت واكتفيت بأن ألمس النافذة بيدى، ونظل فى هذا الخلاف السخيف الذى سببه القط إلى الصباح.  

واتفق يوماً أن دخل علينا قط ضخم بلا استئذان فهممت بطرده إذ حسبنا ما يصيبنا من القطط بالليل، ولكنى لمحت قطاً آخر واقفاً بالباب يشاور نفسه ولم أكد أراه حتى كانت المعركة ناشبة بين القطين وكانا يدوران وذيلاهما مرفوعان، وكانت أصواتهما المنكرة كأنها المسامير فى آذاننا ولكنها كانت لهما كموسيقى الحرب، ثم اشتبكا وأخذت المخالب تطول وتنغرز والأسنان تساعدها وكانا يتقلبان على البساط بصيحات الحرب وأنا واقف من فرط السرور أستحثهما وأقول للذى أراه يفتر منهما «عليك به أغرز مخلبك فى عينه، افقأها له ليعمى ولا يعود يرى، برافو، أحسنت، هكذا تكون البطولة وإلا فلا، بارك الله فيك، مزق جلده، اسلخه، عضه، يا أبله لا تبعد، عد إليه وتذكر الدجاجة التى خطفها وحرمنى وحرمك لذتها، أو لم تسمع بقول الشاعر «وفاز بالطيبات الفاتك اللهج».

وهكذا صرت أهيجهما حتى أوسع كل منهما صاحبه عضاً ونهشاً ولاذ أحدهما بالفرار، ولكن الغريب أنى لم أرد ما يسيل أو يقطر ولم تأخذ عينى تمزيقاً فى جلد أحد القطين على الرغم من عنف القتال، فهل كان هذا مزاحاً، ومهما يكن من ذلك فقد استرحت من القطط المتلصصة بعد هذه المعركة ولله الحمد.. وبقيت الفيران قوانا الله عليها، إنه سميع مجيب!

من كتاب «أحاديث المازنى»