الحد الفاصل

د. محمد محمد زيادة يكتب: عامانِ من قتل صناعة الأسمنت الأبيض

د. محمد محمد زيادة
د. محمد محمد زيادة

من منطلق إدراكها الدقيق وفهمها العميق، أطلقتِ القيادةُ السياسيةُ الأجندةَ الوطنيةَ "رؤية مصر 2030" و"الاستراتيجية الوطنية لتغير المناخ 2050"، لتعكس بهذا ملامح خطتها طويلة المدى؛ لأجل تحقيق أهداف ومبادئ التنمية المستدامة، وعلى رأسها الاستدامة البيئية والحد من التغير المناخي، إلا إنَّ الجميع يقف أمام معادلة صعبة للموازنة بين أمرينِ لا غنى عن أي منهما، الأول: هو دعم مختلف القطاعات الاستثمارية بما يضمن استمرار دوران عجلة التنمية، والثاني: هو ضمان الحفاظ على البيئة واستدامة مواردها للأجيال القادمة.

قرار وزير البيئة رقم (49) لسنة 2021

في إطار هذه الرؤية، تَبَنَّتْ وزارات عديدة وجهات معنية كثيرة سياسات جديدة، وأصدرتْ قرارات منظمة؛ سعيًا منها إلى تحقيق هذه الأهداف، التي من بينها: الحفاظ على البيئة، وتوفير المناخ الاستثماري المناسب، وعلى الرغم من أنَّ نوايا هذه القرارات حسنةٌ فقد افتقر بعضها إلى دراسة الجوانب الفنية الخاصة بالتطبيق، ولعل من أبرز الأمثلة على هذا هو قرار وزير البيئة رقم (49) لسنة 2021، الصادر في 31 مارس من العامِ نفسه.

قرار وزير البيئة المشار إليه صَدَرَ ليُلزِمَ مصانعَ الأسمنتِ -المصرح لها باستخدام الفحم الحجري أو البترولي- باستخدام نسبة لا تقل عن 10% من الوقود المشتق من المخلفات المرفوضة -الذي يعرف باسم “RDF”- في مزيج الطاقة الخاص بها.
(للتعرف على ماهية الوقود البديل، وأنواعه، ومَا له من مميزات إيجابية وأخرى سلبية؛ يمكنكم مطالعة مقال "كارثة CSS صديق البيئة" من مقالات الحد الفاصل).

اقرأ للكاتب أيضا د. محمد زيادة يكتب: كارثة CSS صديق البيئة

النوايا الحسنة وحدها لا تكفي

لا شك في أنَّ قرار وزارة البيئة يستحق الإشادة، وهذا لما يعكسه من مواكبة للحلول الخضراء الرامية إلى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، بالإضافة إلى تخليص البيئة من المخلفات عن طريق استخدامها وقودًا في أفران مصانع الأسمنت، إلا إنَّ القرار قد أغفل جانبًا فنيًّا وهندسيًّا ذا أهمية، هو اختلاف طبيعة صناعة الأسمنت الأبيض عن الأسمنت الرمادي، حيث شمل القرارُ صناعةَ الأسمنتِ جملةً دون استثناء صناعة الأسمنت الأبيض منها، وهذا علَى الرغم من استحالة استخدام الـ "RDF" في مصانع الأسمنت الأبيض؛ بسبب تأثيره الشديد في نصاعة المنتج النهائي، وهو ما سنستعرضه في السطور القادمة.

من نعم الله على أرض الكنانة أنها تحوي في أرضها أجود أنواع الحجر الجيري على مستوى العالم! حيث يتميز بلونه الأبيض الثلجي، الذي تتجاوز نسبة نقائه 99.5%، وهو ما أَهَّلَ مصرَ لتحتل مكانةً مرموقةً في سوق الأسمنت الأبيض العالمي، حيث تُصَدِّرُ هذا المنتجَ عالي الجودة إلى دول الاتحاد الأوروبي وأمريكا؛ لتَمَكُّنِ مصانع الأسمنت الأبيض المصرية من تحقيق المواصفات العالمية المطلوبة، التي يأتي على رأسها درجة نصاعة اللون الأبيض، مُشَكِّلَةً بهذا نقطةً مضيئةً في قطاع الصناعة المصرية، ومصدرًا لتوفير العملة الصعبة، خصوصًا في ظل الأزمات العالمية المتوالية .

لذا، فصناعة الأسمنت الأبيض ذات درجة عالية من الحساسية مقارنةً بالأسمنت الرمادي، نظرًا لما سبق، حيث تُرَاعَى جوانبُ عديدة، مثل: درجة نقاء المواد الخام -وغيرها- من الرمل والكاولين، وكذلك مراعاة استخدام مزيج وقود مناسب؛ للحصول على النصاعة المطلوبة في المنتج النهائي، لكونها عاملًا أساسيًّا في تحديد جودته؛ وبالتالي فاستخدام الـ “RDF” في مصانع الأسمنت الأبيض يُعَدُّ خيارًا غير مطروح تمامًا؛ لما له من تأثير شديد في درجة لون المنتج.

مناشدات عديدة دون استجابة

منذ صدور هذا القرار ناشد الخبراءُ والاستشاريون وزارةَ البيئةِ بضرورة تعديل القرار، واستثناء مصانع الأسمنت الأبيض من استخدام الـ" “RDF، واستمر البعض في مخاطبة وزارة البيئة لأكثر من عامينِ -حتى الآن- لأجل تعديل هذا القرار، لكن دون أنْ تلتفت الوزارة إلى هذه المخاطبات؛ وهو ما يضع هذه الصناعة المهمة تحت مزيد من الضغوط بشكل غير مبرر، وهذا في ظل توقيت حرج تتضافر فيه الجهود لدفع عجلة الصناعة والتصدير.

وفي الختام، تجب الإشادة بما حققته الدولة المصرية من قفزات تنموية فريدة، إلا إنه يتوجب على المؤسسات والجهات المعنية المختلفة مواكبة هذه القفزات التنموية بقدر كبير من البحث والدراسة والتفهم، والمناقشة مع الأطراف المعنية قبل إصدار القرارات، كما يجب على وزارة البيئة الإسراع إلى تعديل قرار (49) لسنة 2021 باستثناء مصانع الأسمنت الأبيض من استخدام الـ "RDF"، مع إمكان إلزام هذه المصانع باستخدام مزيج من الطاقة الأكثر صداقةً للبيئة، على أنْ يصدر هذا التعديلُ بشكل علمي فني مدروس وقابل للتطبيق، وهذا بعد مناقشة خبراء الصناعة في آليات تطبيقه، مع مراعاة الجانبينِ التنموي الاستثماري والبيئي المستدام.

اقرأ أيضا للكاتب د. محمد زيادة يكتب: قانون العمل.. عجلة الإصدار والاستثمار