هبة جمال الدين تكتب: حديقة الحيوان البشرية وخفايا المستقبل

هبة جمال الدين
هبة جمال الدين

جاء دارون بنظرية التطور والانتقاء الطبيعي ليضع العالم  ليس فقط أمام نظرية علمية جديدة، ولكن أيضا تجاه مرآة تكشف حجم وضخامة العنصرية المتجزرة في الضمير البشري؛ لأجناس دون غيرها، وتؤكد على مفاهيم جد خطيرة كالإنسان الأصلح، ونقاء العرق، واستحقاق الحياة بناء على القدرة على التكيف مع البيئة، وفي المقابل ظهرت مفاهيم أكثر تعصبا مدعية تطبيق الفكر الداروني كالعرق الأفضل، نقاء العرق، تفوق جنس على أخر.

وتجسد هذا الفكر المتطرف في أبشع صور العنصرية التي عرفتها البشرية ؛ ألا وهى حدائق الحيوان البشرية نعم البشرية في دول التقدم والإزدهار والعدل والديمقراطية في قلعة الغرب صاحب المثل والمبادئ الغربية. لتكون مدخلا لتعظيم فوائد وعوائد الاستعمار للتحكم في الشعوب الأصلية ، وعرضهم كسلعة للترفيه والسخرية وإجراء التجارب والفحوصات العلمية بحجة خدمة البشرية والوصول لمجتمع أفضل. فخلال  القرن التاسع عشر والعشرين حل البشر محل الحيوانات في حدائق سميت بحدائق الأنثولوجي (علم الرسم العرقي).

فاستطاعت القوي الاستعمارية المتاجرة بالبشر عبر ممارسة السلطة علي الجسم البشري لتحصيل اموال طائلة من وراء عرضهم في أقفاص كحيوانات بشرية منقولة من مستعمراتهم بإفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية  لأوروبا وأمريكا ، ولم تكن للتسلية فقط وأنما لإجراء أبحاث ثقافية وعلمية علي تلك الشعوب المختلفة، وسرعان ما ظهرت دراسات تنادي بسيادة الجنس الأبيض وتشرعن له حقه في القضاء علي ماعداه من الشعوب كدراسات ماديسون غراينت، ومن ثم فتلك الحدائق كانت حقا مشروعا للقوي الأستعمارية التي انقضت بإنقضاء الاستعمار.

أمًا الأن فهل يمكن أن نشهد تكرارا لنفس المشهد، هل يمكن أن يستباح جسد الإنسان بحجة نقاء الجنس والعرق ، وأحقية البعض في الحياة مقابل إنكار هذا الحق للآخر؟.

هنا يحاول المفكر الفرنسي ميشيل فكو الإجابة علي السؤال من خلال مفهوم السيادة الحيوية ؛ بمعني إدارة الحياة أو ممارسة السلطة علي الجسد البشري بقوة سلاح للمعرفة ، أو ما اسماه أغامبين بالحياة العارية أو الإنسان المستباح، فالبشر لا يستحق جميعهم الحياة فهناك من يموت لصالح البعض الأخر ، فهم كالقربان البشري يقدمون لصالح العرق الأفضل ، ومع تلك العنصرية التي قننتها محاولات الفلاسفة والمفكرين.

وجدنا تطبيقاتها علي الأرض كالقرصنة الإلكترونية للجسم البشري ، أو ما يسمي بالأختراق المشروع للجسد البشري الذي أخذ في التطبيق ، فيحق للبعض اختراق اجساد البعض الاخر تحت عدة مبررات منها حماية اجسادهم وتتبع تحركاتهم، وتحسين عملياتهم الحيوية وخلافه. وبات الأمر يناقش بمحافل علمية ففي فبراير عام 2019؛ عقد مؤتمر القرصنة الأخلاقية للأجسام عام 2019 مؤتمر سنوي للقراصنة الإلكترونيين للأجسام ؛ تناقش التقنيات الحديثة لانترنت الأجسام واخلاقيات تتبع واختراق الجسد البشري.

ومن النفاذ للجسد البشري، تأتي الأبحاث الجينية لتؤسس للعنصرية المستندة علي مفهوم العرق النظيف عبر الحمض النووي واعتباره تقنية للكشف عن العرق الأبيض النقي كتقنية ستورم فرونت التي تكشف نقاء العرق وتعتمد عليها حركة النازيون الجدد. 
وأمتدت العنصرية لصناعة الدواء فقامت هيئة الغذاء والدواء بالولايات المتحدة FDA عام ٢٠٠٥ بإنتاج دواء خلص بالعرق لعلاج قصور القلب موجه للمرضي من الزنوج ، الأمر الذي وصفه الطبيب جاي كوهين بأنه مدخلا لقتل عشرات الالاف. 

وامتدت العنصرية للمنظومة الطبية ككل بالولايات المتحدة عبر مطالبة المرضي بتدوين عرقهم قبل إجراء أي فحص طبي مما يضع علامات استفهام عديدة. فهل اصبح العلاج والطب والدواء مدخلا لتكريس العنصرية ، ومدخلا للأبارتهيد في استباحة الجسد البشري تحت مزاعم البقاء والشعوب الأفضل ، فهل نحن علي اعتاب عودة للحدائق الحيوانات البشرية لكن دون قطبان وحدود أو حيز محدد ؟ فهل اصبحت البسيطة ساحة للتحكم البشر في أجساد غيرهم من البشر ، في ظل تغير النظام العالمي وإدعاءات روسيا تورط الولايات المتحدة وأوكرانيا بممارسة أنشطة بيولوجية خطيرة ومحظورة بمختبرات سرية كشفتها روسيا خلال حربها بأوكرانيا ؟ 
فماذا يخبئ لنا المستقبل؟ وما خفي كان أعظم.