اللزوم الدلالي في القرآن الكريم ظاهرة التمايز عن لغة البشر

اللزوم الدلالي في القرأن الكريم ظاهرة التمايز عن لغة البشر
اللزوم الدلالي في القرأن الكريم ظاهرة التمايز عن لغة البشر

كتب : د. محمد سامى عبد السلام

قد تبدو المقولة التى أستهلُّ بها مقالى هذا غريبةً بعض الشيء؛ ممّا يدفع بعض من يتناولُها قبل تجربة محتواها إلى حملِها محمل المبالغة، إذ أقول: «القرآن الكريم الذى نزل بلسانٍ عربى مبين نزل متمايزًا عن استعمال العرب لهذه الألفاظ فى السياقات المُشَكِّلة لدلالة ألفاظ اللغة» فمع أنّ القرآن الكريم يُساير اللسان العربى فى دلالة الأسماء على مسمّياتها، وهى الدلالة المباشرة للفظ مجَرّدًا من السياق، إلّا أنّه يستخدم الألفاظ اللغة العربية استخدامًا ملازِمًا له فى السياقات المتعدّدة المضامين؛ ليشكِّلَ دلالةً خاصةً باللفظ تصاحبُ دلالته المباشرةَ المعجمية، ليكُونَ بعدها اللفظ العربى فى القرآن الكريم مصحوبًا بدلالة سياقية، أوجدتْ للفظ أمرين، أولهما: مغايرة نسبية عن دلالته عند العرب، وثانيًا: أوجدتْ هذه المغايرة معجمًا للدلالات الملازمة لألفاظ القرآن الكريم، ليس معجمَ دلالاتِ الألفاظ، وإنّما معجم اللزوم الدلالى للألفاظ القرآنية، يُصنِّفُ الدلالات الملازمة لاستخدام اللفظ فى سياقات متعددة ومتفرقة فى القرآن الكريم، أمّا الأمر الأول -وهو تلك المغايرة النسبية لدلالة اللفظ جرّاء لزوم استعماله بدلالة أخرى- فقد اختلف عن تلك المغايرة للاستعمال المجازى للفظ فى علم البلاغة؛ إذ ينقلُ المجازُ اللفظَ من معنًى إلى معنًى آخرَ يزاحم معناه الأصلي، أما ما نعنيه هنا بهذه المغايرة لاستعمال اللفظ فى القرآن الكريم، هو أنّ القرآنَ الكريمَ يستعمل اللفظ بمعناهِ الأصليِ فى اللسان العربى مصحوبًا بدلالةٍ ملازمةٍ له فى كلِّ سياقٍ يرِدُ فيه، وكما أنّ هذه الخصوصية القرآنية فى الاستعمال ليست من باب المجاز المعهود فى البلاغة، أيضًا ليست من باب استعمال اللفظ دون مرادفه لوجود معنى دقيق لكلٍّ منهما، إذ لا يتعلّق المعنى المصاحب لدلالة اللفظ فى القرآن الكريم بمعناه الأصلي، ليكون فارِقًا بين اللفظ ومرادفه، ولن يتَّضِح الشرح إلا بالمثال، ولكن قبل النماذج المتتالية، أكمل ما يترتب على الأمر الثانى لهذه المغايرة (وهو وجود معجم لزوم دلالى لألفاظ القرآن الكريم) وهو إمكانية فهم السياق القرآنى فى ضوء اللزوم الدلالى لألفاظه الواردة فيه، والتساؤل عن توجُّهِ السياق القرآنى المماثل فى المضمون إلى لفظٍ بديلٍ إبعادًا لدلالةٍ ملازمةٍ واستدعاءً لأخرى.

ولعلّى أستشعر بعد تلك السطور ثقلَ التفكير النظري، بينما الميدان عمليٌ نصيّ، لذا أبدأ ببوادر هذه النظرية فى ذهن متلقى القرآن الكريم، وهو حديث شريف رواه الترمذى وصححه الألباني، جاء فيه لمَّا نزل قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» (الأنعام:82) شَقَّ ذلِكَ علَى المسلِمينَ، فقَالوا: يا رسولَ اللَّهِ وأيُّنا لا يظلِمُ نفسَهُ ؟ قالَ : ليسَ ذلِكَ، إنَّما هوَ الشِّركُ، ألَم تسمَعوا ما قالَ لقمانُ لابنِهِ: «يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» (لقمان:13) فمن هذا الحديث الشريف ندرك أنّ اللفظ بدلالته المباشرة المعجمية ليس هو المراد من الآية

وإنما المراد ما يلازمه من دلالة فى السياق، ثم نجدُ من بوادر التفكير فى هذه الظاهرة القرآنية الملاحظة التى سجلها الجاحظ فى كتابه «البيان والتبيين» عن لفظ «مطر» فى القرآن الكريم، عندما ذَكَرَ أنَّ اسمَ «مطر» الدالَّ على الماء العذب النازل من السماء، والذى يبتهجُ به الناسُ لأنَّه حياة لهم ولأنعامهم ولزروعهم؛ يأتى فى القرآن الكريم مع دلالة معاكسة لدلالته عند الناس، فيأتى مع دلالته على الهلاك

يقول الجاحظ: ((ألا ترى أنَّ الله تبارك وتعالى لم يذكرْ فى القرآن (الجوع) إلا فى موضع العقاب أو فى موضع الفقر المدقع والعجز الظاهر، والناس لا يذكرون السَّغب ويذكرون الجوع فى حالة القدرة والسلامة، وكذلك كلمة (المطر) لأنَّك لا تجدُ القرآنَ يأتى به إلا فى موضع الانتقام)) فالجاحظ لاحظ أنَّ القرآن الكريم لا يأتى باسم (الجوع) فى حالة القدرة والسلامة، يقول تعالى: «فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ» (النحل: 112) فالجوع فى استعمال القرآن الكريم قرينُ الخوف والفقر والعقاب

وقد يُقالُ إنَّ الجوع فى أصله إحساسٌ بفقد الطعام والعَوَزِ إليه؛ فهو قريب فى استعمال البشر من استعمال القرآن الكريم له مصحوبًا بدلالة الفقر، لكنَّ ذلك لا يمنع من وجود مغايرة بين استعمال اسم (جوع) عند البشر واستعماله فى القرآن الكريم، والأظهر منه فى وجود مغايرة فى استعمال القرآن الكريم للألفاظ عن استعمال البشر لها؛ اسم (مطر)، الذى جاء مع دلالة العقاب مثل قوله تعالى: «وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ» (الشعراء:173) واستعمال القرآن الكريم لاسم (مطر) مع دلالة العقاب فى موضع أو موضعين قد يكون أمرًا واردًا فى استعمال البشر، لكنَّ العجيب هو ملازمة اسم (مطر) فى جميع مواضعه فى القرآن الكريم لدلالة العقاب، ويؤكد ذلك عدول القرآن الكريم عن اسم (مطر) إلى اسم (غيث) أو اسم (ماء) عند دلالة إنزال الماء العذب الذى تحيا به الأرض يقول تعالى: «وَهُوَ الَّذِى يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَه» (الشورى:28) ويقول سبحانه: «وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ» (البقرة: 22) فالقرآن الكريم يؤكد مغايرة استعماله للفظ عن استعمال البشر بملازمة هذا اللفظ دلالة معينة فى جميع مواضع استعماله.

وليست هذه الدلالة من معانيه الملازمة عند البشر، كما يقول السيوطى فى كتابه « الإتقان فى علوم القرآن» عن الاستعمال الخاص لبعض الألفاظ فى القرآن الكريم: ((الريح ذُكرت مجموعة ومفردة، فحيث ذكرت فى سياق الرحمة جُمعت، أو فى سياق العذاب أفردت)) واستعمال اللفظ مجموعًا مع دلالة تلازمه، ثم استعمال اللفظ نفسه مفردًا مع دلالة أخرى؛ يدلّ على أنَّ هذه الدلالة الملازمة ليست مرتبطةً بالمعنى المعجمى للفظ ؛ لأنَّ المعنى المعجمى يلازم اللفظ مفردًا ومجموعًا

وبذلك لا تكون المسألة مجرَّد تفرقة بين المترادفات كالتفرقة بين المطر والغيث؛ لأنّ التفرقة بين الريح (المفرد) والرياح (الجمع) فى الاستعمال ليست من باب التفرقة بين المعانى المعجمية الدقيقة للفظ ومرادفه .

ولا نجد مع هذه الأمثلة الثلاثة ( الجوع، المطر، الريح ) تنظيرًا لقانونٍ بلاغى أو اصطلاحًا لهذه الملاحظة إلى أن تحدّث د. عبد العظيم المطعنى فى كتابه «خصائص التعبير القرآني» فى ثلاث عشرة صفحة عن وجود اللزوم الدلالى فيما سمّاه بنظرية الالتزام، ويظهر من تطبيقه لنظرية الالتزام بحثه عن الدلالة الملازمة للاسم التى تفرق بينه وبين مرادفه، لأنّ هذه الدلالة من المعانى الدقيقة للاسم، وهذا ما لا يتفق معه البحث هنا فى نظرية اللزوم الدلالي، إذ يبحثُ اللزومُ الدلاليُ عن دلالة مصاحبة للاسم فى جميع السياقات التى ورد فيها بغض النظر عن وجود مرادفٍ للفظ أو لا، وإذا كان د. المطعنى فى كتابه «خصائص التعبير القرآني» قد تحدَّث عن نظرية (الالتزام) فى القرآن الكريم وطبّقها على ستة أسماء مترادفة، فإنّه بعد ذلك أفرد لهذه النظرية كتابًا سمّاه «دراسات جديدة فى إعجاز القرآن» درس فيها أربعين اسمًا، وهى فى معظمها أسماء للمعانى المجرّدة مثل (النصر والظفر) وليست أسماءً للأجسام ذات الحيز، وقد جعل د. المطعنى دراسته للأسماء –أيضًا- فى كتابه الثانى قائمة على البحث عن الفرق بين الاسمين المترادفَين، وبذلك تختلف عن المراد باللزوم الدلالي، فالبحث عن اللزوم الدلالى للاسم لا يتوجّه فى الأصل إلى التفرقة بين المترادفَين، وإنّما يبحث عن الدلالات المصاحبة للاسم فى السياق فى المواضع المتعددة، وأيًّا ما كان الأمر فإن د. المطعنى فى كتابيه قدّم مفهومًا يُمهد لوضع نظرية (اللزوم الدلالي) والسعى وراء تطبيقها على أسماء عديدة للتوصُّل إلى صورة تواجدها فى القرآن الكريم.

ومن الدراسات التى لمستْ وجود دلالة ملازمة للاسم فى القرآن الكريم، دراسة د. حسن طبل للالتفات فى القرآن الكريم، حيث تناول فى بحثه نوعًا من الالتفات، هو الالتفات (العدول) عن اسم إلى اسم آخر مرادف له وكلاهما فى سياق واحد، مثل العدول عن اسم (كفل) إلى اسم (نصيب) فى آية واحدة ، وكذلك مثل العدول عن اسم (بحر) إلى اسم (يمّ) فى آية واحدة، ويُرجع د. حسن طبل (فى كتابه أسلوب الالتفات) عدول القرآن الكريم عن اسم واستعماله لاسم آخر إلى وجود دلالات معجمية دقيقة للاسم تجعل اختيار أحدهما أنسب من الآخر لمقتضيات السياق، وهذا –أيضًا- ما يختلف عن فكرة اللزوم الدلالى لأن اللزوم الدلالى للاسم يختلف عن الدلالة المستوحاة من معنى الاسم فى المعجم، واللزوم الدلالى للاسم ليس فى موضعٍ أو موضعين، وإنَّما فى جميع مواضع استعمال الاسم .

وبذلك نجد أنّ ملاحظة وجود دلالة ملازمة لاستعمال اللفظ فى القرآن الكريم بما ذكره الجاحظ ومن تبعه من ملاحظة لألفاظ محدودة على مرّ تاريخ البحث فى آيات القرآن الكريم؛ كانت خاضعة لتصوِّر أن هذه الدلالات الملازمة للفظ من باب الفروق الدلالية الخاصة باللفظ كما استخدمها العرب (كمقارنة لفظ المطر بالغيث، والعام بالسنة، والريح والرياح، والبحر واليمّ) وليس ظاهرة تنبئ عن –بل وتؤكِّد- وجود معجمٍ دلالى خاص بالقرآن الكريم، فأن يكون اللزوم الدلالى للفظ من قبيل استعمال العرب له بهذه التركيبة الدلالية أمر غير صحيح بنص الكتاب العزيز، إذ نجد لفظ «المطر» الذى أثار ملاحظة اللزوم الدلالي، جاء فى القرآن الكريم فى نصٍ يؤكّد أنّ العرب يستخدمونه للخير مستبشرين بقدومه، لكنّ القرآن الكريم يجعله وبالًا عليهم

ليكون لفظ «المطر» الذى جاء على لسان العرب للدلالة على الخير؛ دالًا على العذاب، يقول تعالى: «فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ» (الأحقاف: 24) وهو ما أراه دليلا قاطعًا على مغايرة القرآن الكريم للغة البشر فى استعماله للفظ بدلالة تلازمه مع اختلاف مضامين النصوص، وتباعد فترات نزولها زمنيًا، بينما لم يلتزم لسان العرب بهذه الدلالة المصاحبة للفظ عند استعمالهم للفظ فى شتى المضامين.

إذا - بادئ ذى بدء - أقدّمُ هذه النظرية «اللزوم الدلالى لألفاظ القرآن الكريم» بمنطلقين جديدين، أولاهما: مغايرة القرآن الكريم للغة العرب، أو بالأحرى أنّ للقرآن الكريم استعمالًا خاصًا للألفاظ يغاير استعمال العرب لها، وليس من قبيل الترادف الذى أدركته فصاحة اللسان العربي، والمنطلق الثاني: هو التوسع فى دراسة دلالة استعمال ألفاظ القرآن الكريم، توسعًا إحصائيًا، ليصل إلى نتيجة واضحة لهذه الظاهرة، فضلا عن كونها مؤكِّدةً لوجودها.

 ولذا سأقدّم لك – عزيزى القارئ- أمثلة من دراسة إحصائية شملت أسماء الإنسان وأعضائه وأسماء الحيوان فى القرآن الكريم، التى بلغت ثمانين اسمًا، ومن خلال دراستى -أيضًا- لغير هذه الأسماء من ألفاظ القرآن الكريم، وهى ألفاظ تكرّر اللفظ الواحد منها فى أكثر من موضع

ويختلف مضمون كل موضع عن الآخر، ليتحقّق وجود اللزوم الدلالى للفظ مع اختلاف مضامين السياق؛ محاولا – من خلال هذه الأمثلة- أن تشاركنى استجلاء فهم ظاهرة اللزوم الدلالى لألفاظ القرآن الكريم، ولنبدأ رحلتنا بصيغة المثنى من لفظ «امرأة» وهى صيغة «امرأتان- امرأتين» .

صيغة المثنى «امرأتان- امرأتين» :

اللزوم الدلالى لصيغة المثنى (امرأتان) من عجائب القرآن الكريم وأدلته على إعجازه وقدسيَّة أدائه المحكم، فقد وردت صيغة المثنى (امرأتان) مرتين فى القرآن الكريم فى موضعين متباعدين تمامًا فى المضمون، لا يُظَنُّ أنَّ بينهما دلالات مشتركة، ومع ذلك نجدهما يشتركان فى روابط دلالية متعددة كانت كالنسيج الداخلى المحيط بصيغة (امرأتان) فى كل موضع منهما، وقد جاء الموضع الأول فى أطول آية فى القرآن الكريم وهى آية الدَّيْن فى سورة البقرة يقول تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِى عَلَيْهِ الحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِن كَانَ الَّذِى عَلَيْهِ الحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى» (البقرة:282) وسميت هذه الآية الكريمة بآية الدَّين لأنَّها تأمر بالكتابة والشهادة عند المعاملة بالدَّيْن بما يحفظ به الدائن (من أقرض ماله) والمدين (من اقترض) حقَّ كلِّ واحدٍ منهما؛ لأنَّ آفة الدَّيْن النسيان، فقد يُطالِبُ الدائنُ بأكثرَ من حقِّه أو قبل الأجل المحدَّد فى السداد.

وقد يدَّعى المدينُ لنسيانه أو لجحوده خلافَ ما يجب عليه سدادُه أو خلاف الموعد المحدَّد للسداد، فتوقيت سداد الدَّيْن وقيمته قد تكون محلَّ نزاعٍ جحودًا أو نسيانًا، خاصة إذا كانت مدة سداد الدَّيْن (أى الأجلِ المحدد للسداد) طويلةً، فيتسبَّب طول الأجل فى النسيان، ولعله من البديع المعجز أن أطول آية فى القرآن تُشرِّع حفظ الدين حتى لا يكون طول الأجل المحدد للسداد سببًا فى ضياعه، فهناك مناسبة لطيفة بين طول الآية والسبب فى تشريع حفظ الدين مخافة النسيان الذى يُحدثه طول الأجل (المدة) فطول الأجل سبب فى تشريع أطول آية فى القرآن الكريم

وكأنَّ القرآن الكريم يلفت القارئ بطول هذه الآية إلى السبب وراء هذا التشريع وهو طول أجل الدَّين، ولذلك لم تُلزِم الآيةُ الذين تكون تجارتهم حاضرة أمامهم بالكتابة أو الاستشهاد لقلة احتمال النسيان، يقول تعالى: «َولاَ تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألاَّ تَكْتُبُوهَا» (البقرة :282) فلا يوجد زمن طويل يدفع للنسيان فى تعامل التجارة الحاضرة.

وجاء الموضع الثانى الذى وردت فيه صيغة المثنى (امرأتين) فى سورة القصص فى قوله تعالى: «وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لاَ نَسْقِى حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ» (القصص:23) والآية وما بعدها من الآيات تقصُّ قصة موسى عليه السلام عندما خرج من مصر وتوجه تلقاء مدين فوجد امرأتين تعجزان عن السقيا حتى يسقى الناس، وظهر من ضعفهما أنَّ أبوهما شيخًا كبيرًا، فسقى موسى عليه السلام لهما ثم دعته إحداهما ليأخذ أجر السقيا من أبيها، وموسى عليه السلام حينها غريبٌ، فكان فى حاجة للقاء أبيها، وأن يقصَّ عليه ما حدث له فى مصر، وطمأنه الرجلُ بقوله «لا تخف نجوت من القوم الظالمين» ثم طلبت إحدى المرأتين من أبيها أن يستأجر موسى عليه السلام لما فيه من صفات حسنة، وهنا بدأ التعاقد أو الاتفاق بين طرفين على نوع من المعاملات، يقول تعالى: «قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ القَوِيُّ الأَمِينُ * قَالَ إِنِّى أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِى ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ* قَالَ ذَلِكَ بَيْنِى وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَانَقُولُ وَكِيلٌ» (القصص: 26-28) فهذا العقد المُبْرمُ بين موسى عليه السلام والشيخ الكبير فيه التعامل بالأجل، إذ يتزوج موسى عليه السلام إحدى المرأتين، ويكون مهرها (الصداق) مؤجلاً وهو أجْرُ عمل موسى عليه السلام فى خدمة الشيخ لمدّة طويلة.

ومن ذلك يظهر اللزوم الدلالى الذى يجمع بين موضعى صيغة (امرأتان) وهو ما يمكن تحديده فيما يلي:

أولاً: كلا الموضعين يتحدثان عن التعامل بالأجل، أى استحقاق أحد طرفى التعامل لمال أو نحوه يأخذه من الطرف الآخر بعد أجلٍ محدد، وهذا هو مفهوم الدَّين الذى شرَّعتْ توثيقَه آيةُ سورة البقرة، وهذا أيضًا ما حدث بين موسى عليه السلام والشيخ الكبير فى سورة القصص، فموضع سورة البقرة يُقدِّم التشريع الذى يحفظ قضاء الدَّين فى أجلهَ، وموضع سورة القصص يُقدِّم مثالاً للتعامل بالأجل وحسن قضائه، يقول تعالى: «فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بَأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَاراً قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَاراً لَّعَلِّى آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ» (القصص:29) فقد كان المهر دَيْنًا تعهد به موسى عليه السلام وقضاه، فالقصة التى نقرأها فى سورة القصص ونعيش داخل أحداثها ولا نتخيل أنَّ لها علاقة بآية الدَّين فى سورة البقرة، إنما هى مثال للتشريع الذى أمرت به آية الدَّين.

ثانيًا: وصف المرأة فى كلا الموضعين يفيد ضعفها وحاجتها إلى من يؤازرها، فالمرأة فى آية الدّين فى سورة البقرة لا يُستشهد بها إلا مع امرأة أخرى ورجل، والسبب فى ذلك - كما نصت الآية- «أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى» وضعف المرأتين فى سورة القصص لفَت انتباه موسى عليه السلام فسألهما: ما خطبكما؟ وعلم منهما ضعفهما عن السقيا حتى يسقيَ الناسُ قبلهما.

ثالثًا: فى كلا الموضعين نجد إنجاز المهمَّة برجل وامرأتين، ففى آية الدَّين يحصل الاستشهاد برجل وامرأتين، وفى سورة القصص تحصل السقيا برجل وامرأتين، وإن كان الرجل هو الذى سقى للمرأتين فإن المرأتين حملتا أوعية الماء ذهابًا وإيابًا.

رابعًا: ضرورة اتصاف الرجل بالصفات الحسنة فى كلا الموضعين، فآية الدّين تأمر بكتابة الدَّين وأداء الشهادة، ولابد وأن يكون ذلك من عادل أمين على حقوق الناس، وقوى لا يَخشَى أحدًا فى قول الحق، حتى لا تضيع الحقوق، وفى سورة القصص دعت إحدى المرأتين أبيها إلى أن يستأجر موسى عليه السلام لأنّه قوى أمين، فهذه الصفات التى ذكرتها هذه المرأة هى الصفات التى يجب توفرها فى المَدِين والأجير ليوفِّى كلٌّ منهما ما عليه، وكذلك فى الكاتب والشهيد ليحفظ للناس حقوقهم.

خامسًا: إسناد القول السديد لواحدة من المرأتين فى كلِّ موضع، فآية الدَّين تبيّن أنَّ الحكمة من إشهاد أمرأتين أنْ تنطقَ إحداهما بشهادة الحق فتقول قولاً سديدًا إذا ما سكتت الأخرى عن قول الحق لنسيانها، ولذلك كان نص الآية «أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى» ومثل ذلك ما حدث من المرأتين فى سورة القصص، فقد قالت إحداهما لأبيها استأجره لقوته وأمانته، ولم يسند هذا القول للمرأتين، مع أنّه من الممكن إسناد القول لأكثر من واحد عندما يكون القول متفقًا عليه مثل قوله تعالى: «قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ» (يوسف:11) وينسب القول لواحد إذا كان هذا القول مختصًا برأيه وفكره مثل قوله تعالى: «قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَةِ الجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ» (يوسف:10) فقول المرأة فى سورة القصص (استأجره) هو رأيُها ولا يلزم ذلك مخالفة أختها لرأيها، ولكنَّها لم تفطن ما لاحظته أختها التى قالت: استأجره، وذلك أيضًا قريب من وصف آية الدَّين لسكوت امرأة عن قول الحق ونطق الأخرى به، فقد ضلّت إحداهما وتذكرت الأخرى.

سادسًا: وجود ترابطٍ رقميٍ بين الموضعين يؤكد وجود اللزوم الدلالى لصيغة (امرأتان) هذا الترابط الرقمى يأتى من ملاحظة رقم الآية ورقم السورة وملاحظة مدة الأجل التى نصّت عليها سورة القصص، فرقم آية الدَّين فى سورة البقرة (282) ورقم سورة البقرة (2) ورقم آية سورة القصص التى ورد فيها لفظ (امرأتين) (23) ورقم سورة القصص (28) وأطول مدة الأجل فى سورة القصص (10) حجج وأقلها (8) حجج ، ومن ذلك يلاحظ الآتي:

رقم سورة القصص (28) x أطول مدة الأجل (10) + رقم سورة البقرة (2) = رقم آية البقرة (282)

 أطول مدة الأجل (10) – أقل مدة الأجل (8) = رقم سورة البقرة (2)

رقم سورة القصص (28) – رقم آية القصص (23) x رقم سورة البقرة (2)= أطول مدة الأجل (10)

رقم آية سورة القصص (23) x رقم سورة القصص (28) = (644)

 رقم آية البقرة (282) x رقم سورة البقرة (2) = (564)

 (644) - (564) = (80) وهو ناتج أطول مدة الأجلx أقل مدة الأجل

رقم آية البقرة (282) – رقم سورة البقرة (2) = (280)

رقم سورة القصص (28)x أطول مدة الأجل (10) = (280)

وهذا الرقم (280) هو رقم الآية التى جاء فيها قوله تعالى : «وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ» (البقرة:280) فرقم الآية التى تحثّ على التصدق فى سياق آية البقرة (280) وهو حاصل ضرب أطول مدة الأجل (10) التى يكون بها التصدّق بعد إتمام الدين «فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ» فى رقم سورة القصص (28) التى وردت فيها أطول مدة الأجل، فحاصل ضرب مدة التصدق (10) فى رقم السورة الواردة فيها (28) = (280) وهو رقم الآية التى تحثُّ على التصدق فى سياق آية الدّين فى البقرة، وهو حاصل طرح رقم سورة البقرة (2) من رقم آية الدّين التى وردت فى سورة البقرة (282).

فهذه التشابهات الرقمية تؤكد على الصلة بين الموضعين، وهى صلةٌ لا تَظهر بمجرد قراءة كل موضعٍ منفردًا عن الآخر، وهى تشابهات تصاحب اللزوم الدلالى لصيغة المثنى (امرأتان)، حيث لازمت هذه الصيغة دلالة التعامل بالأجل (أى سداد الحقِّ متأخِّرًا عن وقت المنفعة المقابلة له ، وهو الدَّيْن)، ودلالة وصف المرأة بالضعف واحتياجها لغيرها، ودلالة ضرورة توفُّر صفات العدل والقوة والأمانة فيمن سيكون التعامل معه، ودلالة أداء العمل برجل وامرأتين، ودلالة نسبة القول السديد لإحدى المرأتين.

ويمكننا ملاحظة بل التأكّد من وجود ظاهرة اللزوم الدلالى فى القرآن الكريم، ليكون للفظ معجمه الدلالى الخاص به فى سياق الآيات مختلفة المضامين؛ من خلال مثال آخر، وهو لفظ «أذن» الذى اختلفت الدلالة الملازمة له وهو بصيغة المفرد عن الدلالة الملازمة له وهو بصيغة المثنى أو الجمع، وليس هذا الاستخدام من لغة العرب، ولا معجمها الذى يضع معنى للفظ، بل ليست هذه الطريقة «اللزوم الدلالي» من أساليب البشر فى أى لغة، ولا أعدو بقولى هذا حقيقةَ استخدام اللغات فى اللسان البشري، مبالغًا فى القول أو متعصبًا لكتاب الله عز وجلّ، فالمتفق عليه فى كلّ لغات البشر أنّ الإنسان يستعمل لفظ «أذن» بمعنى محدّدٍ، وهو عضو حاسة السمع، أو بمعنى مجازي، كأنّ أقول : كلّى آذانٌ مصغية، لكن لا يلتزم لسان الإنسان باستعمال اللفظ فى صيغة المفرد بدلالة معينة فى جميع المواضع فى مضامين مختلفة، ويأتى مع صيغة الجمع بدلالة أخرى، وكلتا الدلالتين لا علاقة لهما بمعنى اللفظ فى المعجم وليس من باب التوسّع المجازي، فالعقل البشرى لا يمتلك القدرة على حفظ الدلالة المقترنة لاستعمال اللفظ فى موضع ووقت ما، ثم يحافظ على وجود هذه الدلالة بصور مختلفة فى كل مواضع استخدامه، وعلى مرّ سنين طوال.

 

وليتضّح لنا القول، نحتكم للأمثلة بموضوعية الحكم ونزاهته؛ فثبوت الظاهرة واستجلائها لن يكون هو السبيل لقداسة النص الذى نؤمن بعيدًا عن هذه المُدارسة بأنه الوحى المنزل، أقول: لنقرأ مواضع لفظ «أذن» فى القرآن الكريم.

«أذُن» فى القرآن الكريم :

صيغة المفرد (أذن) لزمتها عدّة دلالات ولازمها أيضًا أسلوبٌ فى الأداء، وجاءت هذه الصيغة خمس مرات وذلك فى ثلاثة مواضع، الموضع الأول فى قوله تعالى: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» (المائدة:45) وقد نزلت هذه الآيات الكريمة فى بيان وجوب القصاص فى الشرائع السماوية، والمراد بقوله تعالى: «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا» أى فرضنا على اليهود فى التوراة، فللآيات الواردة فى السياق سببًا فى النزول يدل على أنّها نزلت لبيان حكم الله تعالى فى القصاص، وهو موجود فى التوراة كما أنَّه موجود فى القرآن الكريم

وعليه تسمع آذان الحاضرين لهذه الآيات المتضمِّنة حكم القصاص مع وجوده فى كتابين من الكتب السماوية، كما يوضحه قوله تعالى: «يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين» (المائدة:43) وهذه الأذن المذكورة فى السياق سمعت حكم الله تعالى فى كتابين من كتبه، وقع عليهما تطبيق الحكم فهى أذن انصاعت لأوامر الله تعالى بعدما سمعته من مصدر آخر هو القرآن الكريم، وتيقَّنتْ ثبوتَه من الله تعالى ، ولا يلزم مع القصاص فى الآذان بصيغة المفرد فى الآية الكريمة فقدانُ حالة السمع

والذين تليتْ عليهم هذه الآيات من المسلمين واليهود واستمعوا لحكم الله تعالى ورسوله أذعنوا للحكم وأقاموه، وكذلك أصبح المعنِيُّ بتطبيق هذا الحكم فى القصاص من يسمعُ آيات الله تعالى ويؤمنُ بها ويذعِنُ لها ، فاسم (أذن) الذى جاء مرتين فى هذا الموضع جاء مع دلالة حصول السمع لحكم الله تعالى والخضوع له، والإيمان بالتشريع من عند الله عز وجل، فالآذان تسمع آيات الله تعالى، وتتحقق غاية هذا السمع فى التسليم والإيمان بصدق التشريع السماوي.

وقد تكرّر كذلك اسم (أذن) بصيغة المفرد فى الموضع الثانى فى قوله تعالى: «وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ» (التوبة:61) وقد نزلت هذه الآية فى الردّ على المنافقين الذين عابوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبوله للأعذار، فوصفوه عليه السلام بأنّه (أُذُن) يُصدِّق كل ما يسمعه من الأعذار، يقول الزمخشرى فى تفسيره الكشّاف: ((الأذن: الرجل الذى يُصدِّق كلَّ ما يسمع، ويقبَلُ قولَ كلِّ أحدٍ)) وقد ردّ الله تعالى عليهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن خير أى يسمع ويصدِّق الحق، وأنَّ قبوله -عليه السلام- للأعذار رحمةٌ للمؤمنين بما عُرف عنه من رحمةٍ ورأفةٍ ولِين.

 فالملاحظ هنا أنَّ الأذن تسمع، وهى تسمع لمصدرين متنوعين، فهى تسمع لأعذار الصادقين وأعذار المنافقين، ومع ذلك فإنّها أذنُ خيرٍ يحكم صاحبها فى الناس بالرحمة، فهى أذُنٌ تؤمن بالله تعالى وتنصاع لأوامره، فهذا الموضع فى سورة التوبة يماثل الموضع السابق فى سورة المائدة فى وجود دلالة الاستماع لمصدرين متنوّعين، وفى الانقياد لأوامر الله تعالى، وتتوثّق هذه الصلة بين الموضعين بوجود شبه بين حال اليهود الذين أرادوا الاحتيال على رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع أحدهم يده على آية الحَدِّ فى التوراة

وهو سبب نزول الآيات فى سورة المائدة، وحال المنافقين الذين أرادوا الاحتيال على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعذار كاذبة وهو سبب نزول الآيات فى سورة التوبة، وفى كلتا الحالتين يكون الحكم معصومًا من الاحتيال عليه ، وهو تشريع ثابت ورحمة للمؤمنين، ومع هذا الشبه بين الموضعين تكرّرت صيغة المفرد فى كل موضع (الأذن بالأذن) و(يقولون هو أذن قل أذن خير لكم) فضلاً عن دلالة اللزوم وهى حصول السمع وتحقّق الإيمان والخير به.

أمّا الموضع الثالث فقد جاء فى قوله تعالى: «وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً * إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِى الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ * فَإِذَا نُفِخَ فِى الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الوَاقِعَةُ» (الحاقة :9-15) فالآيات هنا تأتى بضمير المخاطب للحاضرين (لكم) وتتحدّث عن الأذن التى تسمع وتعى أخبار السابقين من الهالكين والناجين ، وتستفيد منها العبر، فهى أذن تسمع جيدًا وتعى ما تسمعه، فالفعل (تعي) فى نصِّ الآية يكفى لبيان عمل الأذن وصفتها، لكن جاء تكرار هذا الوصف باسم (واعية) لبيان أن هذه الأذن كما أنها واعية لآيات الله تعالى المحيطة بها، تعى كذلك آيات الله تعالى فى الأقوام السابقة عليها، ومن كلٍّ تتذكر قدرة الله تعالى وتنصاع لأوامره، فهذا التكرار يُبيّن أن هذه الأذن تؤمن بنوعين من الأخبار المتضمِّنة آيات الله تعالى وقدرته، فالفعل المضارع ( تعي) يدل على إيمانها بما تسمعه فى زمن الحال من أخبار السابقين، واسم الفاعل (واعية) يدل على اتصافها المسبق والثابت بالإيمان، فهى تؤمن بالله تعالى وآياته وقدرته على البعث والحساب إيمانًا راسخًا ومستمرًا يتعدَّى زمن الفعل المحدد والمنقطع، ولذلك تحدّث السياق عن النوع الثانى من الأخبار التى تعيها الأذن، وهى أخبار الآخرة من نفخ فى الصور ودكٍّ للأرض وللجبال

وهو وصف شبيه بوصف الآيات لمصير الأمم السابقة من إهلاك بالطاغية وبالريح العاتية، وكان ذلك جزاءً للتكذيب بالآخرة، يقول تعالى: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ* فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ» (الحاقة:4-6) فالآيات تربط بين أخبار السابقين وأخبار اليوم الآخر، والأذن المؤمنة تعى أخبار السابقين كما أنّها واعية بأخبار اليوم الآخر، فهى تؤمن بكلا النوعين من الأخبار اللذين تحدّث عنهما السياق .

ففى المواضع الثلاثة التى جاء فيها اسم (أذن) بصيغة المفرد خمس مرات توجد دلالة حصول السمع الواعى والمصدِّق لما يُقال، وهو استماع لنوعين من الأخبار يوصل إلى الانقياد لأوامر الله تعالى والخضوع لحكمته المشتملة على الخير، ومع اللزوم الدلالى فى هذه المواضع الثلاثة يوجد لزوم فى الأسلوب وذلك بالتكرار، فالموضع الأول تكرر فيه اسم (أذن) الأذن بالأذن والموضع الثانى كذلك: هو أذن قل أذن خير وفى الموضع الثالث جاء التكرار لوظيفة الأذن بما يقتضى تكرار الأذن فى المعنى، فاسم الفاعل (واعية) فى قوله تعالى: وتعيها أذن واعية تكرار لفعل الأذن بما يوجب تكرار الفاعل (الأذن) .

وهذا التكرار فى المواضع الثلاثة يشير إلى وجود نوعين من الأخبار التى تسمعها الأذن، ففى سورة المائدة يتحدث السياق عن القصاص فى التوراة وفى القرآن الكريم، وفى سورة التوبة يفيد السياق استماع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أعذار المنافقين وأعذار المؤمنين، وفى سورة الحاقة يتحدّث السياق عن سماع الأذن بوعى لأخبار السابقين الذين عجّل الله تعالى لهم حسابهم فى الدنيا، وهى أذن واعية بأحداث الآخرة من النفخ فى الصور والبعث والحساب

كما أنَّ هذا التكرار فى المواضع الثلاثة لاسم (أذن) يشير إلى وجود الفعل (المؤثر) وهو الاستماع، ووجود ردّ الفعل الصحيح وهو الاستجابة لما تسمعه الأذن وفيه طاعة الله عزَّ وجلَّ، فهذا التكرار يوافق الدلالة الملازمة لصيغة المفرد للدلالة على حصول السمع وحصول الغاية منه بالتسليم والإيمان .

وأمَّا صيغة المثنى وكذلك صيغة الجمع فقد جاءت بدلالة ملازمة أخرى، إذ جاءت دلالة نفى السمع مع صيغة المثنى (أذنيه) ومع صيغة الجمع فى جميع مواضعه، ومن الجميل أنّ القرآن الكريم عَمِد إلى إيجاد صورتين لحالة نفى السمع الملازمة للمثنى والجمع من (أذن) وهما كما يلي: الصورة الأولى: تعطيل حاسة السمع لوجود مانعٍ فى الأذن: وقد جاءت هذه الصورة مع صيغتى المثنى والجمع عند الإضافة إلى الضمير ، فجاءت مع صيغة (أذنيه) كما مرّ فى قوله تعالى: «كَأَنَّ فِى أُذُنَيْهِ وَقْرًا» (لقمان :7) وجاءت فى قوله تعالى:«يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِى آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ» (البقرة: 19) فالآذان موجودة

ولكنْ هناك مانع يحول دون وصول الصوت إليها، وهو مثل قوله تعالى: «َجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً» (الأنعام:25) ويُعرّف ابن منظور «الوقر» فى لسان العرب بقوله: ((الوَقرْ ثِقل فى الأُذُن (بالفتح ) وقيل: هو أن يذهب السمع كله والثقل أخفّ من ذلك... والوِقر بالكسر الثِّقل يحمل على ظهرٍ أو على رأس)) فوجود الوَقر يمنع من وصول الكلام إلى العقل، ويوقف حاسة السمع .

ومن بديع القرآن الكريم أنَّ دلالة تعطيل حاسة السمع الملازمة لاسم (أذُن) عند تثنيته وجمعه لا تقتصر على الكفار فقط، بل جاءت أيضًا للمؤمنين فى قوله تعالى: «إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً* فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً» (الكهف:10 -11) فحاسة السمع معطلة لما أصاب الأذُن من حائل يمنع من وصول الصوت إليها ، وهو هنا حائل غير الوقر مراعاة لوجوده مع المؤمنين، وبذلك لازمتْ دلالةُ تعطيل حاسة السمع اسم (أذُن) عند جمعه مع تغاير المضمون من سياقٍ لآخر .

وكذلك جاءت صيغة الجمع من الاسم (أذُن) مضافًا للضمير مع هذه الدلالة فى المواضع الآتية (الإسراء:46، الكهف :57 ، فصلت : 5،44، نوح :7) وفى جميعها جاء وصف الأُذُن بوجود وَقْرٍ فيها يمنعُ من السمع أو حائلٍ آخرَ كالأصابع والثياب فى قوله تعالى : «جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ» (نوح: 7) ليكونَ بذلك نفى السمع بوجود وقْرٍ أو أصابع الكفار أو الضرب على الأذُنِ ، ممّا يمنع وصول الصوت .

الصورة الثانية: نفى وجود السمع بالكلية: وقد جاءت هذه الصورة مع صيغة الجمع (آذان) المنقطعة عن الإضافة للضمير، وذلك أربع مرات فى القرآن الكريم، وهى درجة أقوى فى نفى السمع ، يقول تعالى: «وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (الأعراف:179) فهذه الآية الكريمة تنفى السمع تمامًا عن هذه الأذن التى للكفار، ثم تؤكِّد أنَّ وجود آذانهم كعدمها بتشبيههم بالأنعام

فهذا التأكيد على عدم الإدراك يدلُّ على أنَّ الآية تعمَدُ إلى وصف درجة أقوى من درجات الصَمَم ، وما ذلك إلا لأنّ الآية تتحدث عن الكفار بعد انقضاء حياتهم وقد مرّت عليهم جميع أنوع الآيات فأعرضوا عنها حتى قُضِيَ عليهم فى نار جهنم .

وكذلك جاء نفى السمع بالكلية فى دلالة الاستفهام الإنكارى فى قوله تعالى: «أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِى الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِى فِى الصُّدُورِ» (الحج:46) فليس للكفار آذان كى يصلَ الحقُ إلى قلوبهم، فالاستفهام يفيد نفى وجود الآذان التى تسمع

وهو أشدّ فى الصمم من وجود الآذان التى بها ما يمنع السمعَ، وقد جاء هذا الوصف فى الآية مع أعراض الكفار عن أنواع الآيات المشاهدة فى الأرض فضلاً عن إعراضهم عن الآيات المتلوّة عليهم من رسلهم.

وعليه نجدُ نوعين لنفى السمع، فنفى السمع بالكلية فى الصورة الثانية جاء مع إعراض الكفار عن كلِّ الآيات المتلوّة والمشاهدة التى مرّت بهم فى حياتهم فلم يعتبروا حتى زُجَّ بهم فى نار جهنم، أما نفى السمع بتعطيل حاسة السمع فى الصورة الأولى فكان مع إعراض الكفار عن الآيات التى تُتلى عليهم من رسلهم، وهو وصف لإعراض الكفار عن استماع الوحى وتصديق ما يقوله الرسل لوجود الوقْر أو الأصابع فى آذانهم مثلما يوضّحه قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ» (الأنعام:25) فقد جاء وصف الوقر فى آذانهم مع إعراض الكفار عن الآيات التى تتلى عليهم من رسلهم

كما يوضحه قوله تعالى:«وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً* وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِى آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً» (الإسراء :45-46) فإعراض الكفار عن الآيات التى تتلى عليهم من رسلهم يناسبه وجود مانع يمنع من وصول صوت الحق إلى أذانهم، وكذلك جاء وصف تعطيل حاسة السمع بقوله تعالى:«فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِى الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً» (الكهف:11) لأنّ المراد عدم وصول الصوت إلى آذان أهل الكهف وليس نفى سمع أذانهم بالكلية .

وأمّا إعراض الكفار عن جميع الآيات المتلوة والمشاهدة حتى انقضاء حياتهم الدنيا ناسبه درجة أقوى فى وصف الصمم، فجاء مع نفى السمع بالكلية لهذه الآذان التى تشبه آذان الأنعام وذلك فى الصورة الثانية مع صيغة الجمع (آذان) المقطوعة عن الإضافة للضمير .

 وكذلك جاءت دلالة نفى وجود السمع بالكلية فى موضعين آخرين لصيغة الجمع (آذان) غير المضافة للضمير، وحقاً أنها جاءت لغير الإنسان إلا أنها جاءت ملازمة لدلالة نفى وجود السمع مؤكدّة على أن صيغة الجمع (آذان) غير المضافة للضمير جاءت فى درجة أقوى فى نفى السمع من صيغة التثنية والجمع المضافة للضمير ، فجاءت صيغة (آذان) فى قوله تعالى: «وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً» (النساء:119) فالآيات الكريمة تتحدّث عن تحريض إبليس للإنسان ليفسد فى الأرض، ومن ذلك بتك آذان الأنعام وهى آذان لا يتحقق لها مراد السمع

إذ لا تعقل ما يقال لها ولذا جاء تشبيه الكفار بالأنعام فى أنهم لا يسمعون فى قوله تعالى: «وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ» (الأعراف: 179) فآذان الأنعام منفى عنها السمع الموصل إلى الوعى والإدراك والهداية

وفضلاً عن ذلك جاءت هذه الآذان مع حديث السياق عن إفساد ما خلقه الله تعالى بإفساد آلة السمع عند الأنعام، يقول الرازى فى التفسير الكبير: ((البتك القطع ... المراد أنهم يقطعون آذان الأنعام نسكًا فى عبادة الأوثان)) فهذا الفعل إفساد لآلة السمع وضلال فى العقيدة، ومع وجود الأذان لا يتحققُ مرادُ السمع من التعطيل والهداية، فهى كآذان الكفار الذين لا يسمعون.

وجاء الموضع الأخير لصيغة الجمع غير المضافة (آذان) مؤكدًا أيضًا على نفى السمع بالكلية إذ يتحدث الله سبحانه وتعالى عن المخلوقات المعبودة من دونه فيقول سبحانه : «أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ» (الأعراف:195) فهذه الأصنام والأوثان لا تسمع دعاء من يعبدها ولا تَقْدِر على الإجابة فأذُنُها -إن وُجدَتْ- بلا قيمة ولا غاية .

 فالمواضع الأربعة التى جاءت فيها صيغة الجمع غير المضافة للضمير (آذان) لازمتها دلالة نفى السمع بالكلية لهذه الآذان، وليس تعطيل وصول الصوت إليها بالوقْر أو وضع الأصابع أو الضرب عليها، ونفى السمع بالكلية درجة أقوى من الصمم لذا جاء مع الأنعام بإفساد آلة السمع، ومع الأصنام، وكلاهما لا يَعقِل، وجاءت مع الكفار الذين انقضت حياتهم معرضين عن صنوف الآيات المتلوة والمشاهدة فى آثار السابقين، وبذلك تشترك صيغة الجمع غير المضافة للضمير (آذان) مع صيغة التثنية والجمع المضافة للضمير فى لزوم دلالة نفى السمع، وتختلف عنها فى أنَّ صيغة الجمع غير المضافة نفيٌ للسمع بالكلية، وصيغة التثنية والجمع المضافة نفيٌ للسمع لوجود مانع من وصول الصوت، وكان ذلك فى مواضعِ إعراضِ الكفار عن دعوة رسلهم ومنع وصول الصوت لأهل الكهف .

وبهذا - نوجز القول ولا نوفى النصّ حقه- يكون لاسم (أذن) لزومٌ دلاليٌ فى صيغة المفرد يختلف عنه فى صيغة المثنى والجمع، فعند صيغة المفرد لازمته دلالة الاستماع لنوعين من الأخبار بما يحقق الانقياد لأوامر الله تعالى، وعند تثنية اسم (أذن) وجمعه لازمته دلالة نفى السمع، ودلالة اللزوم هذه خاصة بأسلوب القرآن الكريم فلا نجد هذه الدلالة من معانى اسم (أذن) فى المعاجم التى سجلّت استعمال البشر للاسم، سواء فى اللغة العربية أو غيرها.

إنّ هذا اللزوم الدلالى نجده –أيضًا- فى استخدام القرآن الكريم للفظ «فاه» بمعنى فم، لتلازمه دلالة تختلف عن تلك الدلالة الملازمة للفظ «لسان» وليس ذلك الاختلاف من قبيل الفروق الدلالية للمترادفات، ففضلا عن أنّ لفظ «فاه» ليس مرادفًا للفظ «لسان» نجد أنّ اللزوم الدلالى لهما فى القرآن الكريم خاص باستعمال القرآن الكريم، وليس موجودًا فى استعمال العرب (البشر) مثل استعمال الرسول صلى الله عليه وسلم، وباختصار يمكن للقارئ الكريم تتبع مواضع لفظ «فاه» فى القرآن الكريم الذى جاء ثلاث عشرة مرة، وقد لازمته فى جميع مواضعه دلالة نسبة الفاه لمن يصدر منه القول الخطأ النابع من معتقد فاسد، مثل قوله تعالى: ((ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِى السَّبِيلَ)) (الأحزاب: 4)) وقد لاحظ الرغب الأصفهانى فى كتابه «معجم مفردات الفاظ القرآن» هذه الملاحظة التى تتعلّق بلفظ «فاه»

أمّا ما يؤكد وجود اللزوم الدلالى لهذا اللفظ هو استعمال القرآن الكريم للفظ «لسان» المفرد ملازمًا لدلالة الهداية وقول الحق المحفوظ من الله تعالى دون اختلاف فيه، مثل قوله تعالى: «فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (الدخان:58) أمَا صيغة الجمع منه فتلازمه دلالة الاختلاف، وقول الباطل، مثل قوله تعالى: «وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الحُسْنَى» (النحل:62) وهذه التفرقة بين المفرد والجمع تؤكّد أنّه لا علاقة بين وجود اللزوم الدلالى للفظ وما يعرف بالفروق اللغوية الدقيقة لمعنى اللفظ، فاللفظ واحد وهو «لسان» اختلف اللزوم الدلالى مع صيغته مفردًا عن صيغته مجموعًا، كذلك نجد صيغة الجمع «عيون» تلازمها فى القرآن الكريم دلالة مختلفة عن صيغة الجمع «أعين» فجاءت صيغة «عيون» للدلالة على منبع الماء، وجاءت صيغة «أعين» لآلة البصر، ولازمت تركيب «قرة أعين» و «تقر عينها» الفرحة بالذرية.

«حوت» فى القرآن الكريم :

ومن أمثلة اللزوم الدلالى فى القرآن الكريم ملازمة دلالة نفاد الصبر لسياق لفظ «حوت» وهى بالتأكيد دلالة ليست معجمية، فالحوت معروف بأنَّه اسم لحيوان بحري، وجاء بهذا المعنى فى القرآن الكريم، لكن لازمته دلالة أخرى مع أنَّ المواضيع التى وردت فيها متعددّة؛ فقد جاء اسم (حوت) فى القرآن الكريم خمس مرات

وقد تنوّع الحديث عن الحوت فى القرآن الكريم إلى ثلاثة أنواع، فجاء الحديث عن الحوت الذى كان طعامًا لموسى عليه السلام وفتاه، وعن الحوت الذى التقم يونس عليه السلام، وعن الحيتان التى كانت تأتى يوم السبت شرعًا أمام القرية حاضرة البحر، وفى دراسة مواضع هذه الأنواع نلاحظ اللزوم الدلالى لاسم (حوت) وذلك كما يلي:

أولاً: حوت موسى عليه السلام : حيث جاء اسم (حوت) مرتين فى قوله تعالى: «فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَباً* فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا *قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا» (الكهف:61-63) وقد كان هذا الحوت طعامًا لموسى عليه السلام وفتاه، وقد نسى كل منهما هذا الطعام فى مكان ما تجاوزاه، وهو ما دفعهما إلى الرجوع إلى هذا المكان

وقد كان وراء هذا الرجوع غرض آخر أراده الله تعالى، وقد أفصح عنه موسى عليه السلام عندما قال: «قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصا» (الكهف:64) حيث كان رجوع موسى عليه السلام إلى هذا المكان سببًا فى لقائه بالخضر عليه السلام، وجرت بينهما القصة المذكورة فى سورة الكهف، والتى ظهر فيها عدم استطاعة موسى عليه السلام تحمُّلَ الصبرِ الذى يمكِّنُه من متابعة رفقة الخضر عليه السلام، والآيات صرحت بذلك عدّة مرات إذ يقول الخضر لموسى عليه السلام: «قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً» (الكهف:67) وكذلك فى الآيات (72 ، 75 ، 78 ، 82) وغيرها من الآيات التى تؤكد على أنَّ موسى عليه السلام لم يستطع تحمّل مزيد من الصبر

وهو ما جاء فى الصحيحين فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يرحم الله موسى، لوددْنا لو صبر حتى يقصَّ علينا من أمرهما)) وهذا ما يدل دلالة واضحة على عدم تحمّل موسى لمزيدٍ من الصبر، ولابد أن يشار إلى أن عدم تحمّل هذا النبى الكريم لمزيدٍ من الصبر كان وراءه دافع قوي، وهو غيرته الشديدة على حدود الله تعالى ، فقد كان يتعجّب مما يحدثُ، ويستنكر أفعالاً فى ظاهرها معصيةٌ لله تعالى.

ودلالة نفاد صبر موسى عليه السلام ليست فقط دلالة صريحة فى السياق الذى ورد فيه اسم (حوت) وكان نسيان الحوت سببًا فى حدوث هذا اللقاء الذى ظهرت فيه هذه الدلالة؛ وإنّما أيضًا نجد دلالة تحمّل الصبر تفسِّرُ الغرض من أن يكون نسيانُ الحوت والعودةُ ثانيةً فى سبيل البحر سببًا فى لقاء الخضر، إذ كان من الممكن أنْ يحدث لقاء موسى مع الخضر عليهما السلام دون الحاجة للعودة فى طريق أمضى فيه موسى وقته، ولكن كان هذا الرجوعُ وتحمّلُ المشقة تعليمًا من الله تعالى لموسى -عليه السلام- الصبر

وقد كان موسى عليه السلام صابرًا فى سبيل تحصيل العلم والخير، فما حدث من ارتداد موسى عليه السلام وفتاه فى البحر فيه دلالة على صبر موسى عليه السلام ، لتوضّح الآيات بعدها دلالة نفاد صبره عليه السلام ، فلم يتحمّل اتباع عبدٍ آتاه الله تعالى علمًا من لدنه، فكانت عاقبة نفاد صبر موسى عليه السلام أن فقد رفقة الخضر والتعلم من عِلْمه، وكان موسى عليه السلام مُلومًا فى ذلك من الخضر، وإن كان نفاد صبره لدافع قوى لم يستطع تحمله.

ثانيًا: حوت يونس عليه السلام: وقد جاء اسم (حوت) للحوت الذى التقم يونس عليه السلام مرتين، وذلك فى قوله تعالى: ﴿وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ» (الصافات:139-142) وفى قوله تعالى: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ» (القلم:48) وهذه الآيات التى تتحدث عن قصة يونس عليه السلام تَحمِلُ دلالة على نفاد صبر يونس عليه السلام، فالآيات تأمر بالصبر، وتنهَى عن فقدانه مثلما حدث من يونس عليه السلام

وقد كان لنفاد صبره دافع قوي، وهو إصرار قومه على الكفر، فلم يتحمّل البقاء معهم وهم على عنادٍ وكفر جلب عليهم العذاب الشديد كما يقول تعالى: «فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ» (يونس:98) ومع ذلك كان نفاد صبره مُلومًا، فالآيات تصفه بأنه مليم، يقول الزمخشرى فى تفسيره: ((أى داخل فى الملامة)) وقد مكث يونس عليه السلام فى بطن الحوت عدة أيام ليعلمه الله تعالى الصبر وأن كل شيء عنده بمقدار، وليدرك خطأه فى نفاد صبره.

ثالثًا: حيتان يوم السبت: وجاء اسم (حوت) مجموعًا وذلك فى قوله تعالى: «وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِى كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِى السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ» (الأعراف:163) وتتحدث سورة الأعراف عن النعم التى أنعمها الله تعالى على بنى إسرائيل لما صبروا فى أول الأمر، يقول تعالى: «وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِى إِسْرائيلَ بِمَا صَبَرُوا» (الأعراف: 137) ثم تتوالى الآيات لتتحدّث عن المخالفات التى فعلها بنو إسرائيل مع نِعَم الله تعالى عليهم المتتالية كالمنّ والسلوَى

وهو ما يُذكِّر بعدم صبرهم حتى على هذه النعم فسألوا ما هو أدنى منها، ثم تأتى الآية التى جاء فيها اسم (حيتان) لتبيّن أن الله تعالى أنعم على هذه القرية بنعمة عظيمة وهى أنها حاضرة البحرة، أى مجاورة للبحر ميسر على أهلها الصيد

وكان مِن لوازم هذا التيسير أن يُمنعوا (يحرّم عليهم) الصيد يوم السبت ليدركوا نعمة سهولة الصيد بقية الأيام ، لكن أهل هذه القرية لم يصبروا على ذلك، والآية التالية لهذه الآية تذكر أن هناك مَن صَبَر على إرشاد المخطئين وهناك مَن لم يصبر على تقديم النصح لهم، يقول تعالى: «وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ» (الأعراف:164) فهذه الآية التى تتحدّث عن مَن لم يصبر على وعظ العصاة تماثِلُ الحديث عن يونس عليه السلام مع قومه.

ويذكر السياق عقاب هذه الطائفة العاصية من اليهود، وهو جعلهم قردة، يقول تعالى: «فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ» (الأعراف:166) ولعلّ فى هذا العقاب مناسبة لجنس المعصية، فالمعصية كانت نفاد صبر أهل هذه القرية وتنقلهم للصيد يوم السبت فى البحر ولم يَظلُّوا مكانهم يوم السبت دون صيد، فعوقبوا بأن صاروا قردة، وهذا الحيوان خاصة معروف بكثرة حركته، فهو لا يمكث على حال ثابتة، فكأنَّ عدم صبرهم وعدم مكثهم يوم السبت جزاؤه كثرة الحركة دون مكث أو صبر على حالة واحدة

وارتباط هذا العقاب بهذه المعصية هو ما جاء فى سورة البقرة أيضًا فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِى السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ» (البقرة:65) وهو ما يؤكد أنَّ عدم الصبر بالمكث يوم السبت عقابه التحوّل إلى هذا الحيوان المعروف بعدم الصبر، وهو أيضًا يؤكد دلالة نفاد الصبر فى سياق اسم (حيتان) .

ويلاحظ أنَّ نفاد صبر أهل القرية حاضرة البحر كان له دافع قوى يُفهم من وصف حال الحيتان يوم السبت بوصف (شُرَّعًا) فهذا اللفظ يصوّر منظر الحيتان فى البحر وما كانت تثيره من مغرياتٍ ودوافعَ لفعلِ المُحرَّم، وعدم تحمّل الصبر فى ترك الصيد يوم السبت

وذلك لا يبرِّرُ الخطأ فالإيمان يقوى عزيمة الصبر أمام هذه المغريات، ففى الآيات التى ورد فيها اسم (حيتان) نجد دلالة نفاد صبر أهل هذه القرية، ونفاد صبر بعض مَن لم يشاركوهم المعصية، فتخلّوا عن وعظ قومهم.

فاسم (حوت) استعمله القرآن الكريم طعامًا لموسى عليه السلام فى رحلته للخضر التى أظهرت له عجزه عن شديد الصبر، وحِوَاءً ليونس عليه السلام إذ ذهب مغاضبًا فقَدَ صبره، وصيدًا شُرَّعًا يوم السبت لم يصبر على فواته أهل القرية، والاسم بذلك جاء مع لزوم دلالى هو دلالة نفاد الصبر لوجود دافع قوي

وهو ما يترتب عليه اللوم والمؤاخذة، فأيُّ إعجاز ذلك، الذى يجعل لمواضيع الفظ الواحد رابطًا دلاليًا يجاور اللفظ فى السياق، ولا يغيِّر معناه المعجمي، فالحوت فى مواضع القرآن الكريم هو الحيوان البحرى –كما يستعمل البشر هذا اللفظ للدلالة على هذا المعنى- لكنّ القرآن الكريم ينفرد عن استعمال البشر؛ بأن يجعل للفظ دلالة (صريحة أو ضمنية) مجاورة فى السياق.

وإذا كنتُ لا أجد علاقة بين دلالة نفاد الصبر والحوت؛ فإنّ اللزوم الدلالى -أحيانًا- تكون بينه وبين اللفظ علاقة قريبة من اشتقاقاته، لكنها ليست من معانيه المعجمية، مثال ذلك لفظ «عِجل» الدال على الحيوان المعروف، لا نجد من معانيه المعجمية التعجّل والعجلة، ولا يلزم أن تستعمله العرب أو غيرهم مختصًا أو ملازمًا لدلالة العجلة (التسرُّع)، بينما نجد القرآن الكريم بإبداع معجز يجعل لفظ «عِجْل» بمعناه الدال على الحيوان ملازمًا لدلالة العجلة والتسرّع، وهو ما يدفع أن نقرأ بتعجّب مواضع اللفظ.

«عِجْل» فى القرآن الكريم :

وجاء اسم (عجل) فى القرآن الكريم عشر مرات ، ويراد بالعجل فى ثمانِى مرات العجل الذى عبده بنو إسرائيل، ويراد بالعجل فى مرتين العجل الذى قدمه إبراهيم عليه السلام طعامًا للملائكة عليهم السلام، وبذلك يمكن تقسيم هذه المواضع التى ورد فيها العجل إلى قسمين، الأول: مواضع العجل الذى عبده بنو إسرائيل: وقد جاء الحديث عن هذا العجل فى قوله تعالى: «ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ» (البقرة:51) وفى المواضع الآتية ( البقرة : 54 ، 92 ، 93 ، النساء : 153، الأعراف: 148 ، 152 ، طه : 88 ) القسم الثاني: مواضع العجل الذى قدَّمه إبراهيم عليه السلام للملائكة: وجاء الحديث عنه فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» (هود:69) وفى قوله تعالى: «فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ» (الذاريات:26)

ويلاحظ فى وصف القرآن الكريم لكلٍ من عِجل بنى إسرائيل، والعجل الذى قدمه إبراهيم، وفى سياق مواضع كل منهما؛ وجود عدة دلالات مشتركة كوّنت اللزوم الدلالى لاسم (عِجل) من هذه الدلالات: عدم نفع العجل لمن قُدّم إليهم؛ حيث لم يستفد بنو إسرائيل من هذا العجل، فهو عِجل مصنوع من ذهبٍ، فليس العجل للأكل، قدّمه إليهم السامرى ليعبدوه، كما أنّهم لم يستفيدوا بهذا الذهب الذى صنع منه العجل، لأنّ موسى عليه السلام حرقه وألقاه فى اليم، يقول تعالى: «وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِى الْيَمِّ نَسْفاً» (طه:97) فلم ينتفع بنو إسرائيل من العجل لا أكلاً ولا ذهبًا، وكذلك حال العجل الذى قدمه إبراهيم عليه السلام للملائكة

إذ لم يأكلوا منه، ولم يحقق الغرض الذى أراده إبراهيم عليه السلام من تقديمه لهم، فلم ينتفع الملائكة بشيء من هذا العجل، ونلحظ كذلك أنّ العجل كان لضيوف على المكان، حيث صنع السامرى العجل لبنى إسرائيل وقدمه إليهم ليعبدوه بعدما خرجوا من ديارهم فى مصر مع موسى عليه السلام، فلم تكن تلك الأرض التى حلّ فيها بنو إسرائيل بأرضهم، وقد قدّم إبراهيم عليه السلام العجل للملائكة بوصفهم ضيوفًا عليه، وهم من انفردوا فى القرآن الكريم بهذا الوصف، يقول تعالى: «هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ» (الذاريات:24) فلم تكن الملائكة فى مكان بقاء لهم .

ومن دلالات اللزوم الدلالى للفظ (عِجْل) فى القرآن الكريم؛ عِظَم شكل العجل، فقد كان العجل الذى عبده بنو إسرائيل عجلاً ذا هيئةٍ مبهرة لأنه مصنوع من الذهب، ووصفه القرآن الكريم بأنه جسد له خوار، أى جماد يُحدِث خوارًا، وليس كائنًا حيًا يتفاعل مع الآخرين، يقول تعالى: «وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ» (الأعراف:148) فكان لهذا العجل شكل مُبْهِر

وكذلك نجد الآيات تصف شكل العجل الذى قدمه إبراهيم عليه السلام للملائكة، فتصرح بوصفه إظهارًا لِكرم الخليل عليه السلام، فهو عجل سمين كما جاء وصفه فى سورة الذاريات، أى ليس بالهزيل وإنّما له صورة مرضية، وهو عجل حنيذ، ومعنى «حنيذ» كما يقول الراغب فى معجم مفردات القرآن: ((أى مشوى بين حجرين، وإنما يفعل ذلك لتتصبب عنه اللزوجة)) فيأخذ بشوائه لون الصفرة المائل للحمرة (وهو لون الذهب الذى صنع السامرى منه العجل) وهو بشوائه أطيب رائحة وألذ طعمًا وأشهى منظرًا، فلكلا العجلين صورة مبهرة، ويشبه عجل السامرى العجل الذى قدمه إبراهيم عليه السلام فى أنّه جسد بلا روح، فالآيات تتحدّث عن عجل الضيافة وهو فى هذه الحالة التى أصبح فيها جسدًا بلا روح، إذ لم يأتِ وصف العجل فى القرآن الكريم وهو كائن حى .

ونجد دلالة أخرى تلازم لفظ (عِجْل) وهى صفة العَجَلَةِ (الإسراع) للنبى فى الخير، وليس للعِجل، مع أنها مشتقة لغة من مادة اسم (عجل) وهو من بديع القرآن الكريم ، إذ من أنماط الفصاحة والبلاغة اختيار اللفظ دون مرادفه لوجود معنًى يؤديه هذا اللفظ فى السياق لا يؤديه المرادف له، أما ما نجده فى القرآن الكريم فهو أمر آخر، وهو اختيار اللفظ لوجود معنًى فى أحد مشتقات مادته، ولا يؤدى هذا اللفظ هذا المعنى فى السياق ، وإنما يرتبط هذا المعنى بلفظ آخر فى السياق، ليكون اختيار اللفظ مع وجود هذا المعنى لغيره فى السياق من باب المناسبة بين اللفظ وما يلازمه من دلالة ليست لازمة له فى غير القرآن الكريم، فالجذر اللغوى الذى اشتق منه اسم العجل، اشتق منه كذلك اسم (العَجَلَة) بمعنى السرعة

وغير أن استعمال البشر لاسم (عِجْل) الدال على الحيوان لا يكون باقتران دلالته بدلالة السرعة، فهو لا يدل على السرعة فى استعمال البشر، وكذلك فى استعمال القرآن الكريم ، حيث لا نجد فى الآيات إطلاق اسم (عِجْل) على الحيوان للدلالة على وصفه بالسرعة أو نحو ذلك، وإنما جاءت دلالة السرعة مع استعمال العِجْل الذى عبده بنو إسرائيل فى وصف استعجال موسى عليه السلام، يقول تعالى: «وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى قَالَ هُمْ أُولَاء عَلَى أَثَرِى وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى» (طه:83 –84) ونجد دلالة السرعة مع استعمال العجل الذى قدمه إبراهيم عليه السلام للملائكة فى وصف سرعة إحضار إبراهيم عليه السلام للطعام، يقول تعالى: «فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ» (هود: 69) فأسلوب الآية يصوِّرُ سرعة إعداد إبراهيم عليه السلام للطعام

وإذ لو لبث (مكث) قليلاً لعلم من ضيوفه أنّهم ملائكة لا يأكلون، لكنّه تعجل لعبادة إكرام الضيف، وهو ما وُصف به أيضًا فى قوله تعالى: «فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ» (الذاريات:26) يقول ابن كثير فى تفسيره:((أى انسل خفية فى سرعة)) فنجد دلالة العجلة (السرعة) وصفًا لإبراهيم ولموسى عليهما السلام، وممّا سبق يلاحظ أن اللزوم الدلالى لاسم (عِجل) تكّون من عدة دلالات هي: عدم نفع العجل لمن قدّم إليهم، وهم ضيوف على المكان، وتصوير العجل فى صورة مبهرة، ووصفه بأنه جسد بلا روح، وصفة العجلة (السرعة) للنبى المذكور فى السياق استباقًا منه إلى الخير.

إنَّ مثل هذه القراءة لنصوص القرآن الكريم (القراءة الأفقية) عن طريق اللزوم الدلالى لتكشِفُ عن معانيَ قد لا تلوح للقارئ بدون هذا الجمع بين النصوص، فمثلا فيما سبق عن اللزوم الدلالى للفظ (عِجل) جمَعَ اللزوم الدلالى بين نبى الله إبراهيم ونبى الله موسى عليهما السلام، فى صفة المسارعة للخير، وهى من صفات الصالحين إذ أمرهم الله تعالى بذلك فى قوله: «وَسَارِعُوا إِلَ ىمَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (آل عمران: 133) فاللزومُ الدلاليُ يحمِل من المعانى الضمنية المتروكِ للقارئ التقاطُها، ومثله ما يوصلنا إليه اللزومُ الدلاليُ لتركيب «سميع الدعاء» إذ يجمع –أيضًا- بين نبيين بوصف آخر.

«سميع الدعاء» فى القرآن الكريم :

إنّ من اللافت فى البحث عن اللزوم الدلالى فى القرآن الكريم؛ وجوده مع تراكيب بعينها، وهذا ما نجده مع تركيب «سميع الدعاء» الذى جاء مرتين فى القرآن الكريم، وذلك فى قوله تعالى: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِى مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (آل عمران: 38) وقوله تعالى: «الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لسَمِيعُ الدُّعَاءِ» (إبراهيم: 39) والآية الأولى دعاء ذكريا عليه السلام، والثانية فى دعاء إبراهيم عليه السلام، ويقول الألوسى فى تفسيره لآية دعاء زكريا عليه السلام: ((أرادَ كثيرَ الإجابة لمن يدعوك من خلقك

وهو تعليلٌ لما قبله، وتحريكٌ لسلسلة الإجابة، وفى ذلك اقتداءٌ بجدِّه الأعلى إبراهيم عليه السلام؛ إذ قال الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى وَهَبَ لِى عَلَى الكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّى لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (إبراهيم: 39) )) وأنا أدعو القارئ أن يلحظ وصف الألوسى لدعاء زكريا عليه السلام بأنّه «اقتداءٌ بجدِّه الأعلى إبراهيم عليه السلام» وكأنّ الألوسى يصل إلى غاية من غايات الربط بين السياقات؛ وهو الوصول إلى القيمة والمعنى الضمنى والمغزى، وإنْ لم يتخذ الألوسى اللزوم الدلالى لتركيب «سميع الدعاء» سبيلا للوصول إلى هذه الغاية، فاللزوم الدلالى أحد السبل الكاشفة عن المعنى.

وفقد وصف زكريا عليه السلام حاله وحال زوجته فى هذا الشأن بقوله ((وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِى عَاقِرٌ)) (آل عمران: 40) وهو حال يصعب معه مجيء الولد، كذلك وصفت زوجة إبراهيم عليه السلام نفسها فقالت: ((قَالَتْ يَا وَيْلَتَىٰ أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَٰذَا بَعْلِى شَيْخًا)) (هود:72) ((وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ)) (الذاريات:29) فقد جمَعَ بين إبراهيم وزكريا عليهما السلام حالٌ واحدٌ، وجاء تركيب «سميع الدعاء» مشيرًا إلى ذلك، فكلتا الآيتين دعاء لمجيء الولد بعد كِبَرٍ وعُقم، فعلى الرغم من أن معنى «سميع الدعاء» عامٌ لكلّ الأدعية

وإلا أنّ السياق فى القرآن الكريم يجعل للتركيب خاصيّة دلالية، ومن البليغ فى هذا الجمع بين آيتى «سميع الدعاء» أن إحداهما كانت دعاءً قبل الإجابة، والثانية كانت ثناءً على الإجابة فى سياق الدعاء، فالمولى عز وجل يُعلِّم الناسَ موطِنَ الدعاء وطريقتَه، ويؤكِّد على الإجابة، ويعلِّمهم الشكرَ عليها.

إنّ مثل هذه النماذج التى تؤكّد وجود ظاهرة اللزوم الدلالى لألفاظ القرآن الكريم لتُثمر أولَ ما تُثمر قراءةً فى مضمون الآيات والبحث عن الترابط بين نصوص السور وإن اختلفت موضوعاتها، ثم تُقدّمُ سؤالَها الموضوعيَ للقارئ عن هذه السمة الأسلوبية «اللزوم الدلالي»: هل بمقدور البشر الإتيان بلزومٍ دلاليٍ يربط بين نصوصٍ مختلفةٍ فى موضوعاتها برابطٍ واحد يلازم فى السياق لفظا مشتركًا بين هذه النصوص، ولا ترتبط هذه الدلالة بمعنى اللفظ، وإنما تجاوره وتلازمه فى السياق؟ ومهما كانت الإجابة، تظلّ الظاهرةُ مثيرةً للتفكير، مثمرةً بحلاوة التدبّر، ونظلّ لله تعالى سائلين الإخلاص والفتح والأجر من لدنه، إنّه هو العلى القدير.

اقرأ ايضاً | رحيق السطور أعادة الاعتبار إلى صلاح الدين