مساعدة اليتامى والأرامل والفقراء والكادحين أولى من تكرار الحج والعُمرة

مدرس الحديث بجامعة الأزهر: المصلحة العامة تقتضى نشر ثقافة الإطعام وتوفير السلع الضرورية للمحتاجين

د. أحمد شبل
د. أحمد شبل

يؤكد د. أحمد شبل، مدرس الحديث بجامعة الأزهر، أننا تربينا فى الأزهر الشريف على أن لكل مقام مقالا، وأنه إذا حضر الماء بطل التيمم، وأن هناك حسنا وأحسن، وراجحا وأرجح، وغيرها من العبارات، والقواعد التى ترسخ فى الذهن ما يسمى بفقه الأولويات، فالفرض أولى من النفل، ونفع الناس لا شك أولى من نفع النفس، وعلى هذا، فلا يليق بنا فى مجال الإنفاق الخيرى أن نقدم ما حقه التأخير، فإن انخراطنا فى الواقع الذى يحيط بنا يحتم علينا أن نتلمس مواطن الحاجة الضرورية فى المجتمع، خاصة فى ظل المستجدات الطارئة.

يشير د. شبل إلى أن المسلم الحقيقى هو الذى يولى بالاهتمام ما يحتاجه مجتمعه، ويبحث عن مواطن الخلل فيجبرها، ومواطن النقص فيحاول أن يسدها؛ ليكون بذلك جزءًا لا يتجزأ من الحل، فالمسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا، وخير الناس أنفعهم للناس، ولا يؤمن أحدنا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وليس بالمؤمن الذى يبيت شبعان وجاره إلى جنبه جائع، كما وجه بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا تقرر هذا، فإنه يتوجب على مياسير المسلمين تجاه مجتمعهم أولا المسارعة فى إخراج زكاة أموالهم التى فرضها الله عليهم، فإن الممتنع عن الزكاة المضيع لها يهدم ركنا من أركان الإسلام، ويتوجب امتناعه الوعيد الذى ذكره القرآن الكريم فى هذا الشأن حيث قال: «والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها فى سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها فى نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون».

اقرأ أيضًا | رئيس جامعة الأزهر يهنئ كليات طب الأسنان لحصولهم على المراكز الأولى في مسابقة أوائل الطلبة

ترتيب الأولويات
ويضيف د. شبل أنه يجب على المنفقين المتصدقين منهم ثانيا إعادة ترتيب أولويات أبواب الخير التى يشاركون فيها، فالحاجة الآن ماسة إلى التوسعة على الناس، ونشر ثقافة إطعام الطعام، وتوفير السلع الضرورية للفقراء، بالإضافة إلى المشاركة فى بناء المدارس الحكومية وتطويرها، والمشاركة فى تقديم الخدمات الطبية من المستشفيات العامة والخيرية وتزويدها بالمستلزمات المتنوعة، لا سيما إذا كان ذلك من خلال المؤسسات الخيرية الموثوقة، فإن المستفيد من كل ذلك بلا شك فئة البسطاء والكادحين.

ويضيف أننا نتفق أن الإنفاق فى هذه الأبواب أولى من أمور كثيرة حتى وإن كانت فاضلة، فالكلام هنا على فقه ترتيب الأولويات، فمصالح المسلمين العامة مقدمة على المصالح والأغراض الشخصية الخاصة، وقد حرص الإسلام على نشر تلك الفلسفة بين أتباعه، فرتب الأجر العظيم، لكل من ينفعون الناس، ويهتمون بمصالحهم، حيث قال النبى صلى الله عليه وسلم: «من نفّس عن مسلم كُربة من كُرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على مُعسر يسّر الله عليه يوم القيامة»، وقد سئل صلى الله عليه وسلم أى الأعمال أحب إلى الله؟ فقال: «أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضى عنه ديْنا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشى مع أخ لى فى حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف فى هذا المسجد، يعنى مسجد المدينة، شهرًا..»، وقال صلى الله عليه وسلم: «بينما رجلٌ يمشى بطريق، إذ وجد غصن شوك على الطريق، فأخره، فشكر الله له، فغفر له»، وقد علل العلماء كون هذه الأعمال سبب مغفرة الذنوب، وأنها من أفضل الأعمال فى الإسلام، فقالوا: لكون نفعها يتعدى إلى الغير، فكلما كان النفع متعديا ويستفيد منه أكبر عدد من الناس كان الثواب أعظم والأجر أكبر، ولذلك لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السيدة خديجة رضى الله عنها حينما نزل عليه الملك فى غار حراء رجع وهو يقول: لقد خشيت على نفسي، قالت: له كلا لا يخزيك الله أبدا، وكانت الأسباب التى استندت إليها فى عدم خزى الله له كلها أسباب فيها نفع للإنسانية، فقالت له: «كلا لا يخزيك الله أبدا إنك لتصل الرحم وتحمل الكلّ، وتقرى الضيف وتكسب المعدوم- أي: تتبرع بالمال لمن عدمه وتعطى الناس ما لا يجدونه عند غيرك- وتعين على نوائب الدهر».

فلسفة الإسلام
ويتابع أنه إذا كانت تلك هى فلسفة الإسلام، فإنه يظهر من خلال ذلك أن تكرار الحج والعمرة تطوعا مع أنه عملٌ فاضل وحسنٌ، لكن نفع الناس خاصة فى هذا الوقت أفضل وأحسن، فنحن لا ننكر أن المتابعة بين الحج والعمرة أمرٌ مستحب، ولها فضائل عظيمة دلت عليها أحاديث النبى صلى الله عليه وسلم المتنوعة، لكن أحيانا يتعين أن يكون الأولى رسم البسمة على وجه مئات اليتامى، والأرامل، والفقراء، والمساكين، والكادحين، والغارمين الذين لا يقدرون على مواجهة أعباء الحياة المختلفة ويكون ذلك عند الله أعظم وأبلغ، ذلك بأن حجه للتطوع يعود نفعه على نفسه فقط، وأما إنفاقه على الفقراء وفى المصالح العامة يستفيد منه كثيرون، يفرج كرباتهم وييسر عليهم أمور معيشتهم، وفى مقابل ذلك يفرج الله كربة هذا المنفق، وييسر عليه فى الدنيا والآخرة.

ويقول شبل: أما بناء المساجد والمشاركة فى تجهيزها له من الفضل ما لا يعلمه إلا الله تعالى، لكن إذا تعددت المساجد فى المحيط الجغرافى المحدود، وتمت كفايتها لاستيعاب المصلين على أكمل وجه وأحسنه، فتوجيه أعمال الخير لنفع الناس، وسد جوعهم فى هذا الوقت لا شك أفضل وأحسن.. وما ذكرناه توجيه للمنفقين المتصدقين لاتباع فقه الأولويات وفق احتياجات المجتمع، وهو خطاب من باب أولى للمنفقين أموالهم على تكرار التنزه والسفر والترحال داخليا وخارجيا، المتلبسين بكل أشكال الترف ومظاهره، أما من يتكسبون بالحرام، ولا يتورعون عن اجتنابه، فليعلموا أن الله تعالى طيبٌ لا يقبل إلا طيبا.