خفراء النظام الدولى

إيهاب فتحى
إيهاب فتحى

..فى رائعة المخرج حسين كمال فيلم "شيء من الخوف " مشهد معبر عن حال العدل وتطبيقه فى القرية التى تدور بها أحداث الفيلم، فالعصابات والمجرمون يقتلون وينهبون ويعتدون على الأهالى الضعفاء وممتلكاتهم ثم فجأة تنتقل الكاميرا إلى الخفراء المسئولين عن حماية القرية والأهالى فنجدهم إما نيام أو يتابعون هذا الإجرام فى بلادة شديدة دون أدنى تدخل.

أعتقد أن حال هؤلاء الخفراء النيام أو المتبلدين هو نفس حال المجتمع الدولى الذى يشاهد مايحدث من إجرام يمارس تجاه شعوب مستضعفة ولكنه يصمت ولا يتحرك أو يتدخل لكن فى بعض الأحيان تجد خفراء المجتمع الدولى أو منظماته الدولية و التابعة له تنتابها حالة من النشاط وتقرر أن تتدخل وتصدر القرارات فى أيام وأحيانًا ساعات تجاه البعض وتترك البعض الآخر، ويقرر الخفراء الدوليون تطبيق قواعد العدالة من وجهة نظرهم.
بالتأكيد لا يوجد مجال للدهشة من حالة النشاط المفاجئ التى تنتاب خفراء المجتمع الدولى لأن هؤلاء الخفراء لا يتحركون ويتدخلون أو يظلون فى سباتهم العميق إلا بناءً على أوامر المنظومة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية والتى توزع حصص العدل بأكثر من مكيال حسب مصالحها وليس وفق قواعد العدالة.
منذ أيام انتاب خفير من خفراء المجتمع الدولى أو المحكمة الجنائية الدولية حالة من النشاط بأوامر ففى وقت وجيز بحثت وحققت ثم أصدرت الجنائية الدولية مذكرة بتوقيف واعتقال الرئيس الروسى فيلاديمير بوتين ومعه ماريا أليكسييفنا بيلوفا، مفوضة حقوق الطفل فى مكتب رئيس الاتحاد الروسى لأن الجنائية الدولية اتهمت الرئيس بوتين والمفوضة بيلوفا بارتكاب جرائم حرب تحت زعم أنه مسئول عن جريمة حرب تتمثل في الترحيل غير القانوني للسكان (الأطفال) ونقل السكان (الأطفال) غير القانوني من المناطق المحتلة في أوكرانيا إلى الاتحاد الروسى.
بمجرد صدور القرار سريع التجهيز من مطبخ الجنائية الدولية خرجت واشنطن تهلل فرحًا بالقرار وعلى رأس المهللين الرئيس الأمريكى جو بايدن الذى أكد أن الرئيس بوتين ارتكب جرائم حرب كأن بايدن كان ضمن المحققين واطلع على الحقائق المزعومة حول هذا القرار.
جاء الرد الروسى طبيعى وهو السخرية من هذا القرار الغريب واعتبر ديمتيرى ميدفيدف نائب رئيس مجلس الأمن الروسى فى تغريدة على موقع تويتر أن مذكرة التوقيف هذه لا يوجد لها إلا استخدام واحد واضعًا ايموجى لورق تواليت الحمامات، أما  المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا فقالت إن موسكو ليست عضوًا في نظام روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية وبالتالي لا تترتب علينا أي التزامات تجاه المحكمة واعتبرت زاخاروفا قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرة اعتقال بحق بوتين عديم الأهمية.
المثير للسخرية أن الولايات المتحدة لا تعترف بالجنائية الدولية منذ تأسيسسها عام 2002 أو وقعت على قانونها المؤسس فى روما وليست واشنطن فقط بل الصين أيضًا بالإضافة إلى موسكو التى وقعت على النظام المؤسس ولكنها لم تصدق على توقيعها ثم سحبت التوقيع كاملا فى العام 2016 ،الأكثر سخرية أنه قبل عامين حاولت الجنائية الدولية فتح تحقيق فى جرائم حرب ارتكبتها الولايات المتحدة فى أفغانستان وهى مجرد محاولة وهنا كان رد واشنطن عاصفًا وقاسيًا فوصفت الخارجية الأمريكية الجنائية الدولية بأنها منظمة فاسدة ومحطمة تمامًا الآن بعد مذكرة توقيف الرئيس الروسى أصبحت الجنائية الدولية بالنسبة لواشنطن منظمة تحقق العدالة !!.
لم تكتف واشنطن بالشتائم والاتهامات بل أصدرت الحكومة الأمريكية سلسلة من العقوبات ضد رئيسة المحكمة وقتها فاتو بنسودة وزيرة العدل السابقة بجامبيا وكل من سيشارك أو سيفكر فى المشاركة فى هذه التحقيقات ومصادرة أصول ممتلكاتهم ومنعهم من دخول الولايات المتحدة بمعنى آخر مطاردتهم فى كل أنحاء العالم.
لكن يبدو أن هناك حالة من الوئام عادت بين واشنطن والجنائية الدولية بعد رحيل سنودة وتولى المحامى البريطانى كريم خان الادعاء العام للجنائية الدولية أو رئاستها والمحامى خان يلقى قبولا من واشنطن ولندن وله قبول مضاعف عند تيار اليسار المعولم المسيطر الآن على الحكم فى البيت الأبيض فحركة خان واتصالاته خلال السنوات الماضية تؤكد أن التيار المعولم والحكومات فى واشنطن ولندن  راضية عنه.
بعيدًا عن العدالة التى تهلل لها واشنطن ومذكرة التوقيف سابقة التجهيزضد بوتين فإن هذا القرار المزعوم له أبعاد سياسية لا تمت للعدالة بصلة مع علم واشنطن أن روسيا لا تخضع لولاية الجنائية الدولية مثلها لكن هذه اللعبة تسبق توقيت حدث هام تراقبه واشنطن بقلق بالغ وهو الزيارة المرتقبة للرئيس الصينى تشى بينج إلى موسكو والتى قد تغير قواعد الوضع الدولى بشكل لا تفضله واشنطن رغم عدم جدوى تطبيق القرارعمليًا أو أن تقوم دولة من الموقعين على إنشاء الجنائية الدولية بالقبض على الرئيس الروسى حال وصوله إلى أراضيها إلا أن القرار قبل الزيارة المرتقبة فى رؤية واشنطن يمثل وسيلة ضغط على موسكو ورئيسها ويلقى بظلال من الضيق عندما تبدأ المباحثات بين بكين وموسكو.
تريد واشنطن بهذا القرارأيضًا إرسال رسالة تحذير إلى الرئيس الصينى تشى بأنه عندما يجلس مع بوتين فإنه يجلس مع الرجل الذى يطارده الغرب بمذكرات ارتكاب جرائم الحرب فلا داعى إلى الانفتاح الكامل على تحالف مع رجل مطارد من المنظومة الغربية وأصبح فى خانة الأعداء بلا عودة.
كان أكثر ما أغضب واشنطن عقب العملية العسكرية الروسية فى أوكرانيا أنها تصورت أن روسيا أصبحت تحت الحصار وفقدت علاقاتها الدولية وأصبحت أغلب الدول تخشى التعامل معها لكن ما حدث العكس فروسيا تمددت فى علاقاتها وحققت الكثير من توطيد العلاقات الدولية ورفضت العديد من الدول الانخراط فى حملة جنون العقوبات المفروضة من قبل أمريكا وحلفائها على روسيا بل رغم الإدانة فى الأمم المتحدة للعمل العسكرى إلا أن هناك تفهمًا دوليًا عميقًا للأسباب الروسية التى دفعتها للقيام بهذه العملية العسكرية من أجل حماية أمنها القومى المهدد من الولايات المتحدة وحلف الناتو الذى وصل إلى حدود روسيا بالسيطرة على أوكرانيا لذلك رأت واشنطن فى مذكرة التوقيف سابقة التجهيز والصادرة من الجنائية الدولية ضد بوتين وسيلة لكبح النشاط الروسى المتزايد بإخافة الدول من التعامل او استقبال الرئيس الروسى المطارد بالجرائم المزعومة.
من ناحية أخرى حسب ما ترى واشنطن فهذه المذكرة سابقة التجهيز قد تضعف من سلطة بوتين الحاكمة فى موسكو أو تفتح الباب أمام الألعاب الأمريكية المعتادة من أجل مد المساعدة إلى من يتطلع إلى السلطة داخل الكرملين ويريد تحقيق أمانيه فى السلطة عن طريق واشنطن.
الرد الروسى الحقيقى والعملى على مذكرة التوقيف سابقة التجهيز جاء من الرئيس فلاديمير بوتين شخصيًا فبعد المذكرة العبثية قام بزيارة أراضى القرم الأراضى التى استعادتها روسيا قبل العملية العسكرية فى 2014وبعد العملية العسكرية فى فبراير 2022 لتكون الرسالة واضحة بلا لبس أمام واشنطن وحلفائها أن كافة الأراضى التى دخلتها القوات الروسية هى أراضى روسية ولا تفاوض حولها وأصر بوتين على التجول بسيارته بمفرده وتحاور مع المواطنين وبالتأكيد كان الحوار باللغة الروسية لأنها أرض روسية ليؤكد بوتين رسالته ثم ناقش مع المسئولين التنفيذيين فى المناطق  التى زارها المشاريع التنموية المستقبلية لخدمة سكان القرم.
من الواضح أن الأساليب الأمريكية القديمة فى الضغط والترهيب والتشدق والاحتيال بمزاعم حقوق الإنسان والحريات والديمقراطية لخدمة مصالح واشنطن واستنزاف الشعوب المستضعفة  لم تعد تجدى الآن فى نظام عالمى جديد تتشكل ملامحه فى كل ساعة.