رحلة بحث مكثفة بشبرا والنهاية السعيدة فى شارع حسن باشا حلمي

فى ذكرى رحيل «معلم الأجيال».. هنا عاش البابا شنوده 25 عامًا قبل الرهبنة| صور

محررة الأخبار في منزل البابا شنودة
محررة الأخبار في منزل البابا شنودة

سيدة قبطية رفضت التنازل عن الشقة ..والاقتراب ممنوع من غرفته المغلقة

سكنها مع شقيقيه بإيجار 4 جنيهات.. وشهدت إبداعاته الشعرية والصحفية

 

كنت أعتقد أن مهمة البحث عن منزل البابا شنودة الثالث فى ذكرى رحيله الـ«11» مهمة سهلة، خاصة بعد حصولي على عنوانه من الأب بولس الأنبا بيشوي سكرتيره الشخصي، والذى أكد لى أنه فى 8 شارع شبرا أو جزيرة بدران، ولكنه لا يعرف كيفية الوصول اليه الآن، وهل لا تزال معالمه كما هى أم تغيرت؟!

هنا وفى تلك اللحظات أخذت القرار بالتوجه إلى العنوان السابق ذكره، لتواجهنا مفاجأة صادمة فالمنزل رقم 8 تم هدمه وأصبح المكان ملاذا لأصحاب المقاهي والباعة الجائلين، انتابتنى حالة من اليأس خاصة بعد تأكيد عدد من أهالي المنطقة أن البابا لم يعش فى هذا المكان نهائيًا، كدت أفقد الأمل، لكن أحد المارة سأل عم نبحث عنه وأشار إلى احتمال أن يكون العنوان فى شارع جزيرة بدران وليس شارع شبرا شعرت بالسعادة لأن المهمة لم تعد مستحيلة وعلى الفور انتقلنا الى موقع البحث الجديد.

الطابق الأرضي استضاف البابا شنودة لمدة ربع قرن

فوجئت أن العمارة مواجهة تماما لمحكمة الأسرة بزنانيرى. سألت حارس العقار هل هو العنوان فأجاب نعم، هنا استرحت قليلا وتمنيت أن يجيب بنعم أيضا على السؤال التالى، استفسرت عن الشقة التى كان يسكن فيها البابا شنودة قبل أن يختار طريقه إلى الرهبنة.

تعجب كثيرا وظهرت الدهشة على الرجل وعقد حاجبيه وتساءل «البابا شنودة بتاعنا»، ويبدو أن الحارس تعجب من أن تسأل فتاة محجبة عن منزل البابا شنودة قلت نعم، فجاءت إجابته كالصاعقة على أذنى قائلا لا للأسف، حاولت تخفيف الخبر على نفسى ورجحت أنه لا يعرف لصغرعمره ابتعدت عنه ودارت عيناى بين أصحاب المحال المحيطة ومنها محلات الذهب بحثا عن شخص أكبر فى السن، لكن المشكلة ان النفى كان عاملا مشتركا بين جميع الإجابات.يبدو أننى «صعبت» على احدهم فنصحني بالتوجه الى اقرب كنيسة للسؤال، فربما اجد الاجابة على سؤالى، لعلى أجد من يستطيع مساعدتى، لكن الإجابة لم تختلف كثيرا، يبدو ان المهمة لم تكن سهلة للغاية فقد أكد مسئولو الكنيسة على عدم معرفتهم بمكان البابا شنودة الذى عاش فيه قبل الرهبنة.
هنا شعرت بحالة فقدان الأمل تسيطر على بعد أن ايقنت اننى لن استطيع الوصول الى هذا العنوان وكأننى أبحث عن إبرة وسط أكوام من القش!

تنهدت من التعب واتخذت القرار بالعودة الى الجريدة، لكنى فكرت بالتخلى عن فكرة العثور على بيت البابا والبحث عن الكنيسة التى بدأ فيها أولى خطواته فى حياة الرهبنة، استعنت بمحرك البحث جوجل الذى اخبرنى ان الكنيسة الذى كان يتعبد فيها البابا هى كنيسة «القديس العظيم الأنبا انطونيوس» بشارع الترعة بشبرا مصر.

كنيسة الانبا انطونيوس

على الفور اتجهت إلى الكنيسة بعد أن قررت أن تكون هى بطل الموضوع لكنى وجدت مفاجأة سارة فى انتظارى، قابلنا هناك القمص باخوم حبيب الكاهن بالكنيسة، لسبب ما قررت إعادة طرح السؤال عليه وأنا شبه متأكدة أن الاجابة لن تختلف كثيرا عما حصلت عليه على مدار 3 ساعات، فقد اخبرني بأن المنزل الذى أبحث عنه قريب جدا، لكنه اضاف بسرعة ان به سكانا يقيمون فيه وأنهم يرفضون استقبال الزائرين، وأشار إلى ان الكنيسة حاولت أكثر من مرة شراء الشقة لتحويلها الى مزار، لكن سكانها رفضوا، التمست لهم العذر فغالبا يشعر هؤلاء بالقيمة المعنوية والدينية للشقة خاصة أنهم رفضوا العروض المالية الضخمة التى عرضت عليهم، وجدت نفسى فى مواجهة مشكلة جديدة والعثور على الشقة ليس نهاية المطاف وستكون خيبة أملى اكبر عندما اصل لها ولأتمكن من دخولها، لكن ما لا يدرك كله لا يترك كله، فيكفي ان احصل ولو على صورة لواجهة العمارة، أثناء الخروج من مقر الكنيسة التقطنا صورة تذكارية معه، لنتذكر عمل البابا شنودة فى الخدمة بالكنيسة قبل التوجه إلى حياة الرهبنة.

بعد لحظات كنت فى المكان بصحبة أحد افراد الكنيسة، تمنيت ان توافق صاحبة الشقة على دخولنا رغم أن الأمر يبدو مستبعدا تماما حسبما أكد القمص باخوم حبيب، كان باب العمارة مغلقا طرقنا عليه ثم خرجت شابة فى مقتبل العمر، وأخبرناها برغبتنا فى الدخول لمقابلة مالكة المنزل، ظهرت الجدة ذات الشعر الأبيض بابتسامة جذابة ووجه بشوش، وعيون ضاحكة، لتتحدث معنا من شرفة منزلها بالدور الأرضي.

اقرأ أيضًا | احتفالية بمعرض الكتاب احتفالا بمرور مائة عام على ميلاد البابا شنودة الثالث

وبعد عدة محاولات لدخول الشقة التى عاش فيها البابا انصاعت لنا خاصة أنها كانت ترفض فتحها للزائرين، ثوان معدودة غابت الفتاة لتأتى بمفتاح الباب الرئيسى للمنزل.. هنا ساد الصمت أجواء المكان، انتابتنا حالة من الرهبة، فنحن أمام مسكن معلم الأجيال وبابا العرب البابا شنودة، فتحت الأبواب التى كانت موصدة بإحكام، تحركنا داخل أروقة المنزل الكائن بـ 8 شارع حسن باشا حلمي المتفرع من شارع الترعة، صعدنا 3 سلالم ودخلنا الى منزل البابا شنودة.

بدأت حالة التوتر تزداد، عم الهدوء الخافت المكان، تسارعت دقات قلبى كدت أسمعها تتعالى، وقفنا جميعا أمام باب الشقة، كانت الفرحة بوصولى إلى هذا المنزل الذى غاب عن أذهان الكثيرين مضاعفة، فبعد حوالى 6 ساعات بحث هنا وهناك، نحن الآن فى بيت البابا شنودة هذا البيت الذى شهد نشأة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، وشهد تحوله من الشاب نظير جيد روفائيل إلى «الراهب انطونيوس السرياني» وهو الاسم الذى لازمه الى ان اصبح أسقف عام للتعليم حيث رسم باسم الانبا شنودة ثم تم رسامته بطريرك باسم البابا شنودة الثالث بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية.. بمجرد دخولى إلى البيت شعرت بحالة غريبة من السكينة والطمأنينة، وجاء فى خاطرى مقولات عظيمة للبابا شنودة خاصة تلك التى قال فيها إن «مصر ليست وطنا نعيش فيه.. بل هى وطن يعيش فينا»، بدأت عيناى تتفحص ما بداخل المنزل وجذب انتباهى تواجد عدة صور كبيرة للبابا تزين الجدران والحوائط.

السيدة فلورنس داخل غرفة البابا

قطعت نظراتنا السيدة فلورنس فانوس صاحبة الـ75 عاما بعبارات الترحيب ثم جلسنا معا داخل المنزل التى أكدت لنا خلال اللقاء أن البابا شنودة كان يعيش بالفعل فى هذا المنزل، وكان يدفع هو وأشقاؤه الاثنان 4 جنيهات إيجارا لوالدى «فانوس»، وهذه هى غرفته واشارت إلى باب مغلق وقالت إنها غرفته، طلبنا منها الدخول اليها لالتقاط بعض الصور لهذا المكان، وافقت بابتسامة، بدأت بالنهوض والاستناد إلى عكازها وخطت عدة خطوات وقامت بفتح الغرفة المغلقة واضاءت المصباح الوحيد الذى يتوسط سقف الغرفة.. بمجرد اضاءة المصباح ذى الاضاءة الضعيفة، كانت روحانية المكان شاهدة علينا، دارت العيون داخل الغرفة الخاوية، التى غاب عنها اثاث المنزل ولكنها لم تخل من صورة الكبيرة التى تزين الجدران المليئة بالشقوق، وبداخلها منفذ وحيد للتهوية.

هنا كان يذاكر البابا شنودة دروسه ومحاضراته ويؤلف الشعر والقصص الادبية إلى أن أصبح عضوا عاملا فى نقابة الصحفيين المصرية، ما يقرب من 25 عاما عاشها البابا بين جدران هذا المنزل، ففى هذه المكان خرج من رحابه البابا شنودة، هنا كتب القصائد والشعر فى عمر مبكر جدا -عندما كان عمره 14 سنة- وصَقَلهَا بدراسة أوزان الشعرعام 1939م، وهنا أيضا بدأ بكتابة قصائد روحانية بمجلة مدارس الأحد، وكان قد التحق بمدرسة «الإيمان الثانوية» بجزيرة بدران بشبرا مصر، وأتمَّ دراسته الثانوية بالقسم الأدبى بمدرسة «راغب مرجان» بالفجالة.. وهنا ايضا بدأ فى نشر مقالاته بمجلة «الحَقّ» التى كان يصدرها أب اعترافه وقتذاك القمص يوسف الديرى كاهن كنيسة الشهيد العظيم مارجرجس بشبرا البلد، وقد نشر بها سبع مقالات خلال الفترة من أكتوبر 1947م إلى نوفمبر 1948م، وكانت الفترة من 1946 - 1962م، هى أكثر الفترات إنتاجًا لشعره.. الذى بلغ حوالى خمس وعشرين قصيدةً روحية، إلى جانب المئات من أبيات الشعر، تجمع بين البساطة والعمق والدقة والاتزان، يفهمها القارئ البسيط والعالم الكبير ومن أشهر قصائده: غريب، أبواب الجحيم، أبطال، الأمومة، أنا يا نجم غريب ههنا، أغلق الباب، فى جَنةِ عدن، مَن تكون؟، همسة حب تائه فى غربة، كيف أنسى وغيرها.

وبين هذه الجدران لم يكن وحى الخيال والإبداع يخيم على البابا فى الشعر فقط بل كان يعمل ايضا فى مجال التدريس، واُختيرَ رئيسًا لمجلس إدارة بيت مدارس الأحد عام 1952م، ثم استقال منه ليتفرغ للإكليريكية وللخدمة، حتى رهبنته فى دير السيدة العذراء «السريان» بوادى النطرون باسم «الراهب أنطونيوس السرياني» فى 18 يوليو 1954م، وصار أمينًا لمكتبة دير السريان «وهى من أهم مكتبات الأديرة» فاعتنى بها وبذل جهدًا كبيرًا فيها، كما قام بدراسة الكثير من الكتب والمخطوطات المتواجدة بها، واعد بعضها للطبع والنشر.

خرجنا من الغرفة التى عاش فيها البابا شنودة، بعد أن التقطنا العديد من الصور التذكارية فى زيارة هى الأولى من نوعها، لتشير فلوراس الى باب اخر لغرفة كان يقطنها شقيقه الأكبر، قعدت اتأمل الصالة التى خلت من مقتنيات اسرة البابا لكنه كان حاضرا فيها بصوره العديدة، وبوستر فيلم «همسة حب».

تذكرت حديثي مع كريم كمال الكاتب والباحث فى الشأن السياسي والمسيحي الذى اعد فيلم «همسة حب» بين عامى ١٩٩٦ و١٩٩٨، عن قصة حياة البابا شنودة، وكان قد اخبرنى أن للراحل العظيم قداسة البابا شنودة الثالث جوانب انسانية شديدة الثراء وهى الجانب الخفى فى شخصيته حيث كان حريصًا على ألا يبرز هذا الجانب لارتباطه بالعطاء والتواضع والزهد، كان يفضل ان تظل هذه المساحة من حياته مساحة خاصة بينه وبين الله.. وأضاف كمال لقد أتاحت لى الظروف ان ارى عن قرب جزءًا صغيرًا من بحر كبير من هذه المساحة اثناء تصوير الفيلم التسجيلى همسة حب وهو كان من فكرتى واعدادى وقد اتاح لنا قداسته التواجد معه فى العديد من المرات فى الدير والقاهرة والاسكندرية من اجل التسجيل معه واثناء تواجدنا فى المقر البابوى فى دير القديس الانبا بيشوى بًوادى النطرون للقائه حيث كنا نظل اكثر من ليلة بالدير حيث كان قداسته يسجل الحوار على اجزاء حسب وقته وهو ما أتاح لى أنا الشاب الصغير فى ذلك الوقت ان ارى جوانب انسانية وشخصية فى حياة قداسته عن قرب اهمها التواضع الشديد فى التأمل معنا نحن الشباب الصغار وابتسامة لا تغادر وجهه وصبر واحتمال فى التأمل واتذكر هنا أمرين لا أنساهما أبدا أنه أثناء الطعام كان يجلس معنا فى بساطة شديدة ليأكل معنا ورغم إعداد مائدة طعام لنا تحتوى على لحوم وفراخ وكان هذا وقت إفطار ولكن لاحظت أن قداسته لا يأكل أى نوع من اللحوم والدواجن، ليس لأنه نباتى، ولكنه زهد فى الطعام وهو ما تأكدت منه عن يقين من الخدام المرافقين له.

وأضاف كمال أيضا لاحظت أثناء الليل أنه يخرج بجلباب بسيط إلى فناء المقر البابوي بعد منتصف الليل وبجلس على الارض ومعه كراسة وقلم وانجيل ويكتب حتى مطلع الفجر وكان ذلك يتكرر فى كل ليلة نتواجد بها فى الدير وكنت أجلس من بعيد اراقب قداسته بانبهار شديد والغريب أنه كان يتقابل معنا حوالى التاسعة صباحا بنشاط كبير جدا رغم أنه كان تخطى منتصف العقد السابع.

وواصل كمال أنه كان يتكفل بمصاريف عمليات القلب المفتوح والأمراض الخطيرة فى اغلى وارقى المستشفيات لمن يحتاج او يطلب من قداسته دون النظر الى دين الشخص وكان يقول دائما «اطلبوا تجدوا»، وأضاف وفى اعوام تالية كنت احضر العديد من المرات لجنة البر بالاسكندرية وهى اللجنة التى خصصها قداسة البابا شنودة لمساعدة المحتاجين الذين لا تستطيع الكنائس سد احتياجاتهم وكان قداسته يرأس اللجنة بنفسه كل يوم خميس فى القاهرة والسبت الاول والثالث من كل شهر فى الاسكندرية وكنت شاهد عيان على العديد من الأمور الانسانية التى يتمتع بها قداسته خلال حضور هذه اللجنة وأذكر منها كيف كان يقوم بتجهيز العرائس والعرسان من جميع اجهزة المنزل مرورا بملابس اهل العروسين ومصروفات الزفاف، وكان دائم القول للعروس (هاتى كل اللى فى نفسك وملكيش دعوة) وكان يستجيب لكل طلبتهم.. ويواصل كمال الحديث متذكرا موقفا حدث عندما جاء شخص الى قداسته من اجل اجراء عملية قلب مفتوح فطلب قداسته من احد المرافقين لاجراء اللازم من اجل اجراء العملية فى اسرع وقت فرد الشخص المرافق سوف نحجز له فى معهد القلب، لكن البابا علق بحزم حينما يحتاج اى اسقف او كاهن لمثل هذه العمليات يرسل لمركز متخصص فى الخارج وبالمثل اريد ان يتم الحجز لهذا الابن فى افضل مركز فى امريكا او اوروبا وانا سوف اتحمل كل التكاليف.

أفقت من ذكرياتى على حركة غير عادية فى البيت الذى كان هادئا فوجئت بعدد من أفراد الكنيسة قد حضروا لمجرد علمهم بأننا داخل الشقة ووجدوا الفرصة مناسبة لتحقيق حلمهم بزيارتهم وحرصوا على زيارة الغرفة التى لم يستطعوا دخولها رغم محاولاتهم العديدة السابقة، بدت الفرحة فى عيونهم لكننى بالتأكيد كنت أكثر سعادة لأننى وصلت فى النهاية الى البيت الذى شهد مرحلة صبا وشباب البابا ولم اكتف فقط بتصويره من الخارج بل تمكنت من دخوله، ونجحت فيما فشل فيه اخرون على مدار سنوات.. كانت الأجواء مفعمة بالهدوء والسكينة نتذكر جميعا كلمات وابتسامات هذا الرجل فى عظاته ومؤتمراته، تذكرنا ايضا فى هذه اللحظات جنازته الشعبية المهيبة التى جاء اليها عشرات الآلاف لوداع البابا الذى استمر على الكرسى البابوى حوالى 40 عاما و4 أشهر خدم فيها أبناءه الأقباط وساعد المحتاجين والفقراء.

كواليس وأسرار يكشفها السكرتير الشخصي

أحب «الزعيم».. بكى لوفاة «طنطاوي» ودعم «الشعراوي» فى مرضه

رغم مرور 11 عاما على وفاته، إلا أن للبابا شنودة الثالث جانبا إنسانيًا فى حياته لم يتم الكشف عنه سوى ببعض الكلمات الرقيقة فى عدد من الاحاديث.. «الأخبار» تكشف اليوم كواليس يوم فى حياة البابا شنودة من خلال الحديث مع الاب بولس الانبا بيشوى السكرتير الشخصى، والذى أكد أن للبابا شنودة شخصية تجمع بين الجدية والمرح، طيب القلب ولكنه حازم وحاد ايضا، تجده هادئا تارة وأخرى مفعما بالحيوية والنشاط جريئا ودقيقا فى أعماله وشئون ابنائه، وقد تعرض فى طفولته لظروف معيشية صعبة نتيجة وفاة والدته وهو رضيع، وفى عمر الخمسة أعوام ارتحل الطفل نظير مع شقيقيه روفائيل الذى يكبره بـ 22 عاما، ويتوسطهم الاخ شوقى بين محافظات اسيوط والبحيرة وبنها واسكندرية حتى استقر بهم الحال فى بيته بشبرا، وهو ما يشير الى طفولة قاسية عاشها، مما دفعه إلى تكوين شخصية قوية يستند فيها إلى العلم والمعرفة، والتريث فى اتخاذ القرارات، ولذلك قام بإنشاء لجنة لبحث شئون الطفولة بلجان المجمع المقدس، فقد كان يشعر بالاحتياج لما مر به من ظروف قاسية فى صغر عمره، وأضاف انه كان يحب الشعر وخاصة الصوفى وكان من بين اشعاره قبل الرهبنة قصيدة تعرف باسم غريبًا عشت فى الدنيا-نزيلًا مثل آبائى- غريبًا فى أساليبى وأفكارى وأهوائى»..

وأشار الأب بولس إلى أن البابا شنودة هو أول بابا ينشأ مقرا بابويا لمتابعة وادارة شئون الكنيسة وكان يقضى فى دير السريان نصف ايام الاسبوع، ويقول: اتذكر أن البابا كان بسيطا جدا فى مسكنه فظل مبتعدا عن جميع أنواع الرفاهية فاستشهد بموقف مر عليهما فى إحدى المرات قائلا البابا رفض ادخال اى نوع من الرفاهية الى «قلايته» حتى رفض وجود المياه الباردة.

البابا شنودة مع سكرتيره الأب بولس

ومن المواقف الانسانية التى كشفها الاب بولس قال انه كان يهتم جدا بالاطفال وخاصة الايتام فقد كان يقضى وقتا ممتعا معهم، وفى احدى المرات شاهد طفلا حزينا أخبره انه لا يريد الذهاب الى المدرسة فسأله البابا عن السبب رد الصغير «مطلوب منى اكتب عنوانى معرفتش اكتب انا اعيش فى ملجأ» فكتب البابا عنوانه 8 شارع شبرا فى ورقة وسجل اسمه نظير جيد وقال للطفل قدمها غدا للمدرسة وقل لهم ولى أمرى، واستمر الدور الانسانى فى لجنة البر وهى لجنة تختص بشئون المحتاجين والفقراء، كانت تجتمع كل خميس ويستقبل خلالها البابا عددا من الحالات لمراجعتهم بنفسه ومساعدتهم بسخاء، وكان يمد يده دائما بتجهيز العرائس وغيرها من الأمور التى تحتاج الى أموال طائلة.

مع الشيخ محمد متولى الشعراوي

وعن كيفية قضاء يومه كشف الأب «بولس» أن البابا كان قليل النوم فساعات نومه تتراوح بين 3 و4 ساعات فقط، حيث يبدأ يومه فى الخامسة صباحا بقراءة جزء من الكتاب المقدس، ودراسة ومتابعة شئون الكنيسة، والتحضير لعدد من الندوات والمحاضرات والعظات التى يقدمه 3 مرات اسبوعيا، وكان يقضى باقى اليوم بين القراءة والكتابة والاطلاع على الاسئلة التى تصل له والرد عليها بجانب البحث والمعرفة فى التكنولوجيا، وتجهيز مجلة الكرازة الذى كان يشرف عليها، واستقبال الوفود الرسمية وإعداد الكتب المجهزة للنشر لأنه متقن جيدا للغة العربية، وعن حبه للفن قال انه كان يحب الزعيم الفنان عادل إمام، لانه يرى فيه خفة الظل للإنسان المصرى الاصيل، وعندما مرض الشيخ محمد متولى الشعراوى وسافر الى لندن لتلقى العلاج أمر البابا شنودة بعض الاساقفة هناك بمساعدته وزيارته فى المستشفى، وتقديم كل سبل الدعم الطبى له، وعندما شفى «الشعراوى» وعاد الى وطننا حرص على زيارة البابا شنودة وقال له ابناؤك هناك «طوقوا عنقى بجميل لن أنساه»، وبكى حزنا لفراق الشيخ الدكتور محمد سيد طنطاوى، الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشريف السابق، حيث كان تربطهما علاقة قوية جدا، وفى العزاء لم يتمالك نفسه من البكاء الشديد.

مع د. محمد سيد طنطاوي

وكان البابا يفضل قضاء يوم شم النسيم فى دير السريان مع عدد من أساقفة القاهرة والإيبارشيات ورهبان الكنيسة القبطية بداية من 6 صباحاً ويجلسون معا على أرضية حديقة الدير، ويتناولون فى إفطارهم البيض الملون والجبن، ومن عاداته اليومية ممارسة رياضة المشى لمدة نصف ساعة واذا كان فى الدير فكان يحب المشى لساعات وسط الأراضى الزراعية، وكان يشعر بالسعادة عند الجلوس مع الاطفال واللهو معهم بالالعاب..

البابا أثناء الاحتفال مع الأساقفة بشم النسيم

ويكشف الاب بولس الدور الوطنى للبابا شنودة خلال حرب اكتوبر قائلا انه كان يحث الأقباط فى الخارج على إرسال الأدوية والمعونات لتوزيعها على المستشفيات العسكرية والمدنية نظرًا لوجود نقص فى الأدوية هذه الفترة، كما كان يقوم بعقد اجتماعات مع الكهنة والأساقفة فى جميع الايبارشيات والجمعيات القبطية لحثهم على الإسهام فى دعم المجهود الحربى وطلب من كل كنيسة وجمعية تقديم تقرير يومى له عما تقدمه من إعانات.

التوحد في المغارة

للراهب حياة خاصة جدا مع الله فى «القلاية» فهى مسكنه ومرشده ووطنه وصديقه، تعرفه الكثير من الفضائل، وتزيده بالمحبة والايمان، كما انها طريقه إلى الكمال نحو الله، تشاركه اسراره مع الله، وكذلك أفراحه وأحزانه، وتظل شاهدة على جهاده وتعبه ومشقته وحروبه مع عدو الخير ومع ذاته ومع العالم، وهناك نوعان من «القلايات» الاولى تتواجد فى الدير، تراها بباب قصير يقودك إلى حجرتين إحداهما تسمى «المحبسة» وفيها يختلى الراهب للصلاة والتأمل الروحى، والأخرى مضيفة استقبال لأشقائه الرهبان، ودورة مياه ومنافذ للتهوية، ومع تزايد أعدد الرهبان، بدأت الاديرة فى بناء بعض القلالى الحديثة نسبيا فى مبنى يتكون من اربعة طوابق، ويحيط بها عدد من الاراضى الزراعية للمحافظة على هدوء المنطقة التى يتعبد فيه الرهبان، بالإضافة إلى وجود القلالى للرهبان المتوحدين، وتكون كل واحدة منها منفصلة عن الأخرى.. وقد انطلق البابا فى حياته الرهبانية بين أحضان دير السيدة العذراء «السريان» بوادى النطرون باسم «الراهب أنطونيوس السريانى» فى 18 يوليو 1954م، و بدأ حياة الوحدة حيث أقام بمغارة غربى دير السريان بحوالى 3٫5 كم، ثم انتقل إلى مغارة أخرى أكثر بُعدا بحوالى 12 كم، وتطل على البحر الفارغ.

صاحبه 28 عاماً كمصور خاص.. عماد نصرى: البابا غضب منى وسامحنى عندما عرف الحقيقة

وثق كل كبيرة وصغيرة فى حياة البابا شنودة.. كان شاهدا على أهم الاجتماعات والحوارات والندوات والصلوات التى قام بها البابا.. بالفعل كان ظلاً له لا يتركه الا عند النوم فقط، حيث كان «بمثابة هارد وير» لكل أحداث الكنيسة والبابا، انه عماد نصري المصور الخاص بالبابا شنودة، وخلال حديثه مع «الأخبار» يروي كواليس جديدة

«الأخبار» مع مصور البابا عماد نصري

أكد عماد انه عمل مصورا خاصا للبابا شنودة لمدة 28 عاماً، حيث تعرف عليه أثناء استماعه لإحدى عظاته الاسبوعية والتى كانت تتسم بالبساطة والعمق، واراد التقرب منه ولكنه لم يفلح فى ذلك لصغر عمره فقد كان حينها فى الصف الاول الثانوي، فقرر استعارة كاميرا من خاله حتى يسمح له بتصوير البابا عن قرب، حيث كان المصورون فقط هم المسموح لهم بالاقتراب من البابا، وبالفعل نجح فى تصويره، وظل يواظب على الذهاب يوم الاربعاء لحضورالعظة الاسبوعية وكان حريصا على اعطاء الصور للبابا الذى اعجب بالصور فى احدى المرات فوجى بالبابا يقول له «عدى عليا بكرة».. واستكمل عماد حديثه قائلا: منذ ذلك الحين والبابا اختارنى المصور الخاص به بعد اعجابه بتلك الصور التى كنت اصورها له فى العظات والمحاضرات الاسبوعية.. واضاف عماد: اهم ما كان يميز البابا شنودة الجانب الانساني فى شخصيته حيث كان يقدم خدمات لكل المحتاجين والمقبلين على الزواج وكان حكيما جدا فى التعامل مع الازمات الطائفية، وتميز قداسته بملامح مشرقة تكشف عن الموهبة التى منحها الله له نذكر منهًا انه كان يتعامل مع كافة المشكلات التى يواجهها بطريقة موضوعية يركز فيها على الجوهر لا المظهر، إلى الجذور العميقة لا الأوراق المرئية. كم من انفعالات طرحت أمام قداسته، واطفأها بأسلوبه الهادئ الرصين ليبقى الحق خالصًا وحده، واضاف ان الصبر كان من أهم سمات البابا الحكيم، وذلك بجانب العفو والتسامح، وتذكر موقفا حدث معه شخصيا عندما قدم لصحفى بمؤسسة كبرى مجموعة من الصور لاساقفة رسمهم البابا لاستخدامها فى اعداد ملف تاريخى عن بابا الاسكندرية لكنه فؤجى ان الجريدة تنشر الموضوع تحت عنوان مثير «من سيخلف البابا» مع الصور الذى تحمل اسم المصور.

شعر البابا شنودة بالغضب ليس بسبب العنوان المثير لكن لأنه اعتقد اننى قدمت الصور بمقابل مادي، ولكنه سامحنى عندما تقدم الصحفى للبابا برسالة خطية تؤكد اننى لم اتقاضى اى مقابل مادى للصور.. واوضح ان البابا كان منظما للغاية ومرتبا وكان لديه ذاكرة فولاذية و يراعى مشاعر الناس وفى احدى المرات كان يريد عزل قمص وتجريده من رتبته الكهنوتية بسبب بعض الاخطاء وقام بفعل ذلك بعد ان اخرج الناس من المقر وقام بتوجيه النصائح له بينه وبين القمص دون إحراجه امام الاخرين او تعمد اهانته.