فاروق مردم بك يكتب: بعد مرور نصف قرن: هل فتحت الترجمة أبواب العالمية أمام الأدب العربى؟!

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

كلما طرحت مسألة العلاقة بين الترجمة والعالمية خطرت لى ترجمة «ألف ليلة وليلة» إلى اللغة الفرنسية فى بداية القرن الثامن عشر على يد المستشرق أنطوان غالان. ولا حاجة إلى التذكير بالشهرة العالمية التى نالها هذا الكتاب منذ ذلك العصر، ولا بتأثيره العميق فى الآداب والفنون الأوروبية، إلا أن ترجماته التى تتابعت إلى العديد من اللغات لم تجعل من الأدب العربى أدباً عالمياً بالمعنى المتداول، أعنى أنها لم تحض على استكشاف ما أنتجه العرب قديماً من أدب وفكر، إلا فى حلقات استشراقية ضيقة، بل اصطنعت صورة غرائبية للشرق بعيدة كل البعد عن واقعه. والأهم أنّ الأدباء العرب أنفسهم لم يعبأوا به بعد طباعته فى مصر فى 1835 بلغته العربية الأصلية، فبقى يتيماً طوال قرن أو أكثر.

لم تحظ فيما بعد، فى أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، ترجمة بعض الأعمال العربية الكلاسيكية، مثل «كليلة ودمنة» و«بخلاء» الجاحظ، ومقامات الهمذانى وكذلك «طوق الحمامة» لابن حزم وحى بن يقظان» لابن طفيل، باهتمام جمهور المثقفين، فدفنت المكتبات الجامعية المُختصة.

وأما الأدب المعاصر فلم يُقرأ مما ترجم منه فى أوروبا حتى 1970 إلّا كتابان: «الأيام» لطه حسين و«يوميات نائب فى الأرياف» لتوفيق الحكيم، ومعهما، فى فرنسا، أنطولوجيا الأدب العربى المعاصر فى ثلاثة أجزاء، صدرت عن دار نشر مرموقة بين 1965 و 1967.


ولا شك فى أنّ الظروف السياسية فى فرنسا فى منتصف الستينيات هى التى شجعت على إعداد هذه الأنطولوجيا الرائدة، وهى التى جعلت دور النشر الفرنسية سباقة فى ترجمة الأدب العربي، فما إن استقلت الجزائر فى 1962 حتى سعت الحكومة الفرنسية شيئاً فشيئاً إلى إحياء العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية مع الدول العربية، وكانت قد انقطعت بسبب حربها الاستعمارية فى الجزائر ومشاركتها فى العدوان الثلاثى على مصر.

ثم تعمقت هذه العلاقات بفضل یونیو الموقف المتميز الذى اتخذه ديغول فى اثناء حرب يونيو 1967 وبعدها، وما سمى فى السنوات اللاحقة سياسة فرنسا العربية. هذا بالإضافة إلى أن القضية الفلسطينية كانت قد بدأت باستقطاب اهتمام قطاع واسع من الرأى العام.

ولذا لم يكن من المستغرب أن يُطلق ديغولى شاب، هو بيير برنار، مشروع مكتبته العربية الطموح فى 1970، فينشر أوّل ترجمة لنجيب محفوظ (رواية «زقاق المدق»، وهذا قبل تأسيسه دار النشر «سندباد» فى 1972 بدعم شبه رسمى فرنسى وجزائري.

ولا أن تصدر عن دار نشر كاثوليكية عريقة فى 1970 أيضاً، أوّل ترجمة لمختارات من شعر محمود درويش. هذه كانت بدايات حركة الترجمة فى فرنسا فنشرت دار سندباد خلال عشرين سنة ما يقرب من خمسين عملاً كلاسيكياً ومُعاصراً، وتبعتها فى الثمانينيات بعض دور النشر الكبيرة.

ونشطت الترجمة إلى اللغات الأوروبية الأخرى الأوسع انتشاراً بعد نيل نجيب محفوظ جائزة نوبل فى 1988. وعلى الرغم من أن ما تُرجم حتى الآن قليل بالنظر إلى غزارة الإنتاج العربي، وخصوصاً فى السنوات العشرين الأخيرة.

وعلى الرغم أيضاً من أنّ بعض الأعمال الأهم فى تاريخنا الأدبى الحديث لم تترجم إلا أن بإمكان القارئ الأوروبى الاطلاع على نماذج وافية من هذا الإنتاج، تُمثل اتجاهاته الرئيسة فى مُختلف مراحله وفى أغلب البلدان العربية (ما عدا المسرح وحبيبتنا القصة القصيرة!). وقد يُقبل هذا القارئ عليها حيناً ويتحفظ إزاءها حيناً، بحسب الظروف العامة المتغيرة، فى العالم العربى وفى بلاده، وقلما يكون السبب قيمتها الأدبية فحسب.


وقد سبق أن بينت مراراً، انطلاقاً من الدراسات القليلة الجدية التى صدرت حتى الآن فى فرنسا وغيرها، أنّ الرواية العربية المترجمة تُقرأ أولاً قراءة سياسية اجتماعية، ولا يُنظر فيها إلا نادراً، حتى فى الملاحق الأدبية الأسبوعية، من الزاوية الفنية المحضة.

وقد نكون نحن الناشرين مسئولين عن ذلك إلى حدٍ ما لاعتقادنا بأن الرواية أقدر من البحث الاجتماعى ومن المقالة السياسية على مجابهة الصورة النمطية السائدة عن العرب، فنصر بالدرجة الأولى للترويج لمنشوراتنا على ابعادها السياسية  الاجتماعية.

ولكن، هل يختلف عامة القراء عن الناشرين؟ لماذا يتحمسون لبعض الروايات العربية دون غيرها؟ نظلمهم إذا ظننا، كما يزعم بعض النقاد أن السبب هو الرغبة «الإكزوتيكية» فى اكتشاف عالم غرائبى غير عالمهم على غرار قراء ترجمات «ألف ليلة وليلة» القدماء.

ونظلم أنفسنا كما نظلمهم إذا أنكرنا فضولهم إلى معرفة حقيقة الحياة العربية المعاصرة من خلال الأدب، أو إذا اعتبرنا أنّ المعيار الوحيد للعالمية هو قدرة كتابنا على ابتداع تقنيات سردية تبهر قراء بروست وكافكا وجيمس جويس.

ومن الملاحظ فى صدد العالمية أننا نقارن بصورة عفوية بين روايتنا العربية ورواية أمريكا اللاتينية أو الرواية اليابانية، فلا نجدها تحتل موقعاً مشابهاً لموقعهما فى المشهد الثقافى الأوروبى - وهو معيارنا الوحيد مع الأسف، عند الكلام عن العالمية، بسبب الهيمنة الثقافية الأوروبية.

وألا يجدر بنا أن نقارنها، من حيث الإقبال على ترجمتها وتلقيها النقدى وعدد مبيعاتها وحضورها وتأثيرها، بالرواية الصينية مثلاً أو الهندية (المترجمة عن إحدى لغات الهند وليس عن الإنجليزية)؟

ولا بد من أن نستنتج عندئذٍ أنّها تضاهيهما فى كل شيء، على ما للصين والهند من مكانة وحصانة - وعلى الرغم من التدهور المستمر لصورة العرب فى العالم بأسره، ومن الحذر الذى يزداد يوماً بعد يوم من كل ما يمت بصلة إلى الإسلام.

ومهما يكن الأمر، أعتقد أن الترجمة فى حد ذاتها لا تؤهل أدباً ما إلى العالمية ما لم تتوفّر له مؤهلاتها فى لغته الأصلية، وهى لا تنحصر فى موهبة الكتاب ومهارتهم بل تتعداها إلى كفاءة المعنيين بإعداد أعمالهم للنشر وتسويقها وإلى جدية النقد واتساع دائرة القراءة. أفهم تطلع الكتاب، كل الكتاب، إلى نشر أعمالهم باللغات الأجنبية، خصوصاً الأوروبية.

ولكنّ الترجمة لا تزيد من أهميتهم الأدبية، فهذه لا يُقرّرها فى نهاية الأمر إلا القرّاء العرب. لقد ترجمت حتى الآن إلى الفرنسية، للأسباب التى ذكرتها، أعمال لمئات الروائيين والشعراء العرب، ولم يبرز، إذا استثنينا حالات نادرة، إلا الذين كانوا قد ثبتوا أقدامهم فى بلادهم، فامتدت سمعتهم غرباً وشرقاً انطلاقاً منها.

وقد لا يعرف كثيرون من الكتاب والنقاد العرب حماسة الجمهور الغربى المثقف لتراثنا الشعري، فقد بيع من المختار من شعر أبى نواس بالفرنسية 7.500، نسخة، ومن شعر مجنون ليلى 6.000، ومن أنطولوجيا الشعر الأندلسى 4000، حتّى أنّ الطبعة الأولى (2.000 نسخة) من شعر المتنبى أو المعرّى نفدت بعد سنة من صدورها.

ولكن، يجب ألا يغرب عن الأذهان بالمقابل أنّ بعض الكتاب المعاصرين الكبار، الذين تركوا بصماتهم على الأدب العربى ولن تنساهم الأجيال القادمة، لم يحظوا بنجاح تجارى يُذكر حين تُرجمت أعمالهم، ولا بأى اهتمام إعلامي.

ومن ثم لنعترف بأن نهضتنا الروائية حديثة العهد، ومن المحبط أن نتبارى مع كتاب أمريكا اللاتينية، على سبيل المثال من حيث الشهرة العالمية وعدد الكتب المبيعة.

ولقد حضر شعراء أمريكا اللاتينية وكتابها بقوة بين الحربين فى الحياة الثقافية الأوروبية (وبصورة خاصة فى أثناء الحرب الأهلية الإسبانية)، واشتهر بعض منهم، مثل الكاتب الغواتيمالى أستورياس والشاعرين التشيلى بابلو نيرودا والبيروفى سيزار فاييخو.

وفى سنة 1945 نالت الشاعرة التشيلية غابرييلا ميسترال جائزة نوبل، وازدهرت بعد الحرب العالمية الثانية سلسلة «صليب» الجنوب» فى دار النشر الفرنسية الأشهر غاليمار، إلى أن برزت أسماء بعض عمالقة القرن العشرين من طراز بورخيس فى الأرجنتين وفوينتيس فى المكسيك وغارسيا ماركيز فى كولومبيا وفارغاس ليوسا فى البيرو وجورج أمادو فى البرازيل.

وإننا اليوم، بعد خمسين سنة من انطلاق حركة الترجمة فى اوروبا، أمام تحديين: الأول هو مواكبة الإنتاج الأدبى العربى الجديد بقدر المستطاع، ويبدو الأمر مستحيلاً ما لم تكف دور النشر الكبيرة عن تبرير تلكؤها بارتفاع كلفة الكتاب المترجم وقلة مبيعاته، فتهيئ له شروط الانتشار التى تهيؤها لغيره. ولا تكفى لذلك تغطية كلفة، الترجمة، أو جزء منها.

من قبل إحدى المؤسسات الفرنسية أو العربية ما لم تقتنع هذه الدور بأنّ فى الأدب العربى ما يستحق أن ينتشر فى العالم. أما التحدّى الثاني، ولا تقل مُجابهته صعوبةً، فهو تشجيع الطلب، لا العرض فحسب، من خلال العاملين فى حقول الكتاب المختلفة.

ومن أمناء المكتبات العامة إلى باعة الكتب إلى نوادى القراءة. وقد سبق لبعض المؤسسات الثقافية الفرنسية أن نظمت دورات تدريبية ساهم فيها معهد العالم العربى وأسفرت عن نتائج إيجابية ملموسة. ليت أصحاب الحل والعقد فى المؤسسات العربية المانحة يُدركون أهمية تنشيط الطلب، بجميع الوسائل المتاحة، فى سعيهم الحثيث إلى العالمية.

اقرأ ايضاً | هوشنك أوسي يكتب: في مديحِ الغُربةِ والكتابة

نقلا عن مجلة الادب : 

2023/2/18