هوشنك أوسي يكتب: في مديحِ الغُربةِ والكتابة

هوشنك أوسي
هوشنك أوسي

وفّرتِ الكتابةُ الرّوائيةُ لى رُخصةَ السّفر بين الأماكن والأزمنة أيضًا. كلّ ذلك، بعد مضى خمس سنوات على تواجدى فى بلجيكا، الوطن الجديد المضاف إليّ.
 

حينَ ولِدتُ، كانَ الحِرمانُ فى استقبالي، إلى جوارهِ يقفُ الفقر والعجزُ والإعاقةُ، مبتسمين، فاتحينَ أحضانهم لي، قائلين: أهلاً بكَ فى رحاب البؤس، أيّها الضّيف العزيز. نحنُ مكلّفون مِن الأقدار بتلقينكَ الكراهيةَ؛ كراهيةَ نفسكَ، ومحيطكَ، والأرض التى ولدتَ عليها، وستعيشُ تحت سمائها، ويسمّونها؛ الوطن.


لم تكد أن تمضى أربع سنوات، حتّى ازدادت محنتي، بانضمام مُعلّمٍ جديد إلى طاقم أساتذتى المذكورين. ومع رحيل والدي، صارت جدرانُ سجني، بسقفٍ مرعبٍ منخفض هو اليُتمُ. ولو عاش محمد الماغوط داخل ذلك السّجن الذى عشته، لَحذفَ حرفَ السّين من عنوان كتابهِ «سأخون وطني».

ولكننى لم أخنْهُ. زد على ذلك، فشل أولئك الأساتذة العتاة؛ الفقر، اليتمُ، الإعاقة، والحرمان من حقوقى المدنيّة والسياسيّة، فشلوا فى تلقينى الكراهية.

واجتثاث الوطن من أعماقي. وبقيت علاقتى بالوطن ملتبسة. إذ لا يمكننى أن أحبَّ أرضًا سلبنى نظامها كينونتي، هويّتي، كرامتي، حرّيتي، إرادتي، كلمتي، حقيقتي، وسعى إلى اجتثاثى وصهرى ودمجى فى إسطبل الشّعارات والخرافات القوميّة.

ولا أستطع كراهية أرضٍ تنفّستُ عليها هواء أوّل شهقة، أوّل حبّ، أوّل حُلم، أوّل قصيدة، تلك الأرض التى وقفت عليها أمّى وهى تردد لى الأغنيات، ووقفت عليها جدّتى وهى تسرد لى الحكايات.

الأرضُ التى سُقتُ أغنامى القليلةَ، إلى مراعيها، ذات طفولةٍ مكلومةٍ تخوص صراعًا باكرًا. إنّها الأرضُ التى ترقد تحتها عظام جدّى وزوجتيه؛ فى مقبرتين بدمشق والدرباسيّة. وأيّ أرضٍ تنام تحتها عظام الأجداد، لا يمكننى إلاّ أن أحترمها، حتّى لو لم يعترف نظامها السّياسى بوجودى كإنسان وقيمة ثقافيّة، قوميّة، أدبيّة مضافة إلى حاضر وتاريخ ومستقبل ذلك الوطن.


ولأنّنى كردي، حرمنى النّظام السّورى من الحقوق المدنيّة، ومنها السّفر، وحقّ التّعلم بلغتى الأمّ، حتّى قبل أن أولد. ولأنّنى سوري، حرمنى من الحرّية والعدالة والديمقراطيّة، كما أسلفت. ربّما هذان السّببان كافيان كى أكون كائن ثنائى اللّغة، بلغتى أمّ؛ كرديّة وعربيّة، أسافرُ كثيرًا فى رواياتى إلى أماكنَ لم تطأها قدماي. 


وفى روايتى الأولى؛ «وطأة اليقين» (بيروت 2016) زرتُ المغرب، تونس، مصر، سويسرا، فلسطين...، قبل أن أزورها وأراها رؤية العين. وفى روايتى الثانية؛ «حفلة أوهام مفتوحة»، زرتُ كوريا الجنوبية، كولومبيا وبلداناً أخرى.

وفى روايتى الثالثة؛ «الأفغاني: سماوات قلقة» (الأردن 2020)، زرتُ أفغانستان، باكستان، الجزائر، إيران، فلسطين، كردستان وأماكن أخرى. فى روايتى الرّابعة؛ «كأنّنى لم أكن» (بيروت 2022) زرت كازاخستان، أوكرانيا، روسيا، إيران، كردستان سوريا، لندن وباريس.

وأمّا روايتى الخامسة، التى ستصدرُ فى مصر قريبًا، فأسافرُ فيها إلى المستقبل حاملاً حقائب الحاضر والماضي، المليئة بقبائح النّفس البشريّة ورذائلها وفضائلها. روايةٌ معروفةُ الزّمان، ومجهولةُ المكان، مِن صنف الخيال العلمي. 


حاصل قولي: وفّرتِ الكتابةُ الرّوائيةُ لى رُخصةَ السّفر بين الأماكن والأزمنة أيضًا. كلّ ذلك، بعد مضى خمس سنوات على تواجدى فى بلجيكا، الوطن الجديد المضاف إليّ.
عشتُ فى دمشق قرابة عقدٍ ونيّف.

وهاجرتُ إليها من بلدة نائية على الحدود التركيّة. لم انتبه إلى جمال المدينة وقتذاك. لم أنظرْ إليها بعين السّائح، أو الرّوائى الرّاصد المدقّق الذى يُلفتُ انتباهه أدقُّ التفاصيل وأتفهها. كانت نظرتى إليها، نظرة الفقير الباحث عن العمل وتأمين لقمة العيش، الذى لا يمتلك ترف التمعّن فى ملامح المدن؛ عمارتها وحيواتها. 


وبعد مغادرتى دمشق، واستقرارى فى بلجيكا، حاولتُ استرداد الشّام روائيًّا، فحضرت بعض تفاصيلها وحيواتها فى رواياتي، بخاصّة منها الأولى «وطأة اليقين»، والرّابعة «كأنّنى لم أكن».

وعليه، الوطن الجديد، (وأتحفّظ على وصف الغربة أو المهجر)، لم يلغِ دورَ ووزنَ دمشقَ فى قلبي، عقلي، خيالى ووجداني. وبالرّغم من كلّ ما قدّمته لى بلجيكا إلاّ أنّها لم تحلْ محلَّ سوريا، بل عاضدتها.

ووقفت إلى جوارها كوطن شريك ومساهم فى صناعة وعى ذلك الشّاب الذى غادر دمشق مكرهًا فى نهاية ربيع 2009، وخبرةِ هذا الطّفل الذى ما زلتُهُ.


ومقصدي؛ بلجيكا، جعلتنى أحبّ دمشق أكثر، وساعدتنى على رؤيتها بشكل أكثر وضوحًا. وغالبُ الظنّ والاعتقاد لدي؛ أنّنى إذا عدتُ إلى العيش فى دمشق، سأحنُّ إلى بلجيكا، ومدينة أوستند السّاحليّة التى أسكنها الآن.


وزيدوا على هذا وذاك، أنا كائن سريع الانتماء إلى الأمكنة، متعدّد الأوطان، وطنى البرّ والبحر والهواء. شيءٌ يشبه الكائن البرمائى والهوائى فى آن، فكيفَ لى أن أشعر بالغربة!
هذه التى تسمّونها «الغربة» كانت ولمّا تزل، خيرَ أستاذةٍ لي، علّمتنى هذه الأشياء والأفكار التى سردتها لكم.

وأعتقد أنّها جميلة، أكثر مما علّمنى وطنى الذى ولدت فيه. لذا، حنينى لوطنى الأوّل؛ سوريا هو نفسه حنينى إلى كردستان، مصر، فلسطين، تونس، تركيا، وبلجيكا. وأكادُ أن أقول: على الصّعيد الشّخصى والرّوائى أيضًا؛ أزالت الغربةُ الحدود بين أوطانى العديدة، التى تزداد مع كلّ عمل روائى جديد انتهى من كتابته. 


وهكذا، وببساطة، تحوّلت الكتابة الرّوائية لدي؛ إلى كونٍ تتحرّك فيه أوطانى العديدة، تتلاقى، تتقاطعُ، تتشاركُ، ولا تشتبِكُ أو تتعارضُ أو تتصارع على أولويّة الانتماء إليها. هناك تصالح بين أوطانى على مساحات أعمالى الروائيّة.

وعليهِ، ليس مُستغربًا أن تجدوا فى أعمالى الرّوائيّة الكرديَ إلى جوار العربى أو البلجيكي، الفارسي، التركي، الإفريقي، الآسيوي، يشتركون فى صناعة الأحداث وتفاصيلها.

 
ومقصدى مما سلف؛ هويتى الثقافيّة مركّبة، كذلك رواياتى مركّبة. لا أمتلك طقوسًا معيّنة للكتابة، حين كنتُ فى دمشق، وحين صرت فى بلجيكا أيضًا. الوطنُ والغربة لا يقفان عندى على طرفى نقيض. الوطن الجديد ساهم فى تعزيز شغف الكتابة لدي.

وأخذ بيدى كثيرًا. فتح المجال أمام المزيد من التجريب، ورفدنى بالخبرات. الوطن الأوّل جعل منّى شاعرًا. والوطن الثانى (الغربة) جعل منّى روائيًّا. وفى انتظار ما سيصنع منّى وطنى الثالث أو الرّابع. هكذا أنا، فى الواقع، وفى الكتابة؛ بلاد الحب أوطاني؛ من الشّعر إلى النّثر، إلى الرّواية، ومَن يبحثْ عنّى ويقرأني، يجدْنى ويلقَني.

اقرأ أيضاً | د. أسامة علام يكتب: السرد خارج حدود الظل

نقلا عن مجلة الأدب: 
2023-2-18